الفصل الحادي عشر

كان الأمير جون على وشك أن يُعطي الإشارة بالانصراف من ساحة النزال، حين وُضِعت رسالة صغيرة في يده.

قال الأمير جون ناظرًا للشخص الذي سلَّمه إياها: «من أين؟»

رد خادمه: «من بلادٍ أجنبية يا مولاي، ولكني لا أعلم من أين تحديدًا. جلبها رجلٌ فرنسي إلى هنا، وقال إنه سار بجواده ليلًا ونهارًا لوضعها بين يدَي سموك.»

figure
الفارس وروينا، بريشة أدولف لالوز.
نظر الأمير بإمعان إلى عنوان الرسالة، ثم إلى الخاتم الذي وُضِع لإحكام تثبيت قطعة الحرير المُحيطة بالرسالة، والذي كان يحمل نقش ثلاث زَنْبقات. فتح جون الرسالة باضطرابٍ جلي ازداد جلاءً بشدة عندما قرأ محتوياتها التي جاءت بها هذه الكلمات:

انتبِه لنفسك لأن الشيطان قد صار طليقًا.

شحب وجه الأمير كشحوب الموتى، ولكن بعد أن أفاق من الآثار الأولى لمفاجأته انتحى بوالديمار فيتزورس ودي براسي جانبًا، ووضع الرسالة بين يدَي كلٍّ منهما واحدًا تلو الآخر. وقال بصوتٍ مُضطرب: «إنها تعني أن أخي ريتشارد قد نال حريته.»

قال دي براسي: «قد يكون هذا إنذارًا كاذبًا أو رسالةً مزوَّرة.»

رد الأمير جون: «إنها بخط يد ملك فرنسا وخاتمه.»

قال فيتزورس: «حان الوقت إذن لاستدعاء جماعتنا إلى وجهةٍ ما، إما في يورك أو في مكانٍ مركزي ما. يجب أن تأمر يا صاحب السمو أن تُنهي هذا الاحتفال، الذي لا موجب له، الذي نحن فيه الآن.»

قال دي براسي: «يجب ألا ينصرف رجال الطبقة الوسطى والعامة وهم مُستاءون لعدم مشاركتهم في المباريات.»

قال والديمار: «لم يمر من اليوم إلا نزرٌ يسير. فلنترك الرماة يُصوبون سهامهم لبضع جولات على الهدف، ونُعلن الفائز بالجائزة. سيكون هذا وفاءً وافيًا لوعود الأمير أمام هذا القطيع من العبيد الساكسونيين.»

سرعان ما استدعى صوتُ الأبواق أولئك المشاهدين الذي كانوا قد بدءوا بالفعل في ترك الميدان، وأُعلنَ أن الأمير جون يسرُّه أن يجعل رجال الطبقة الوسطى، قبل مغادرة الساحة، يُقيمون على الفور منافسة الرماية التي كان من المقرَّر عقدها غدًا.

بلغ العدد المدرج في قائمة المتنافسين من ذوي السمعة من رجال الغابات ثمانية. ونزل الأمير جون من فوق مقعده الملكي ليرى عن قربٍ هؤلاء الأشخاصَ المختارين من الطبقة الوسطى، الذين ارتدى العديد منهم الثياب الرسمية لأتباع الملك. وبعدما أرضى فضولَه بهذا الاستطلاع بحث عن الشخص الذي كان قد أثار استياءه، ولاحظ جلوسه في البقعة نفسها، وبمظهره الهادئ نفسه الذي كان عليه أمس.

قال الأمير جون: «أيها الرجل، لقد خمَّنت مِن ثرثرتك الوقحة أنك لم تكن مُحبًّا مخلصًا للقوس الطويلة، وأرى أنك لا تجرؤ على المغامرة بمهارتك بين رجال يتَّسمون بالنشاط كأولئك الواقفين هناك.»

رد رجل الغابة: «لا أعلم إن كان هؤلاء الرجال من اليَومَن وأنا مُعتادين على الرمي على العلامات نفسها، وبالإضافة إلى ذلك لا أعلم كيف لسموك أن تستسيغ أن يكون الفائز بالجائزة الثالثة شخصًا أغضبك بغير عمد.»

احمرَّ وجه الأمير جون غضبًا وهو يسأله: «ما اسمك أيها اليَومَن؟»

رد اليَومَن: «لوكسلي.»

قال الأمير جون: «إذن، يا لوكسلي، سترمي سهمك في دورك، عندما يُظهِر هؤلاء الرجال من اليَومَن مهارتهم. وإذا فزتَ بالجائزة فسأُضيف إليها عشرين قطعةً فضية، أما إذا رفضت عرضي العادل فسيقطع المُشرِف على الحلبة وتر قوسك، ويكسر قوسك وسهامك، ويطردك من بين الحضور كجبانٍ خائر العزم.»

قال اليَومَن: «إن ما تُقدمه لي ليس فرصةً عادلة أيها الأمير العظيم، ولكنني سأُطيع مشيئتك.»

وُضِع هدفٌ في الطرف العلوي للطريق الجنوبي الذي يقود إلى ساحة النزال.

تقدَّم الرُّماة واحدًا تلو الآخر، ورمَوا سهامهم كما يرميها الرجال من اليَومَن وبكل شجاعة. ومن السهام العشرة التي أصابت الهدف أصاب الدائرةَ الداخلية سهمان كان قد رماهما هوبيرت، وهو حارس غابة في خدمة مالفوازان؛ ومن ثَم أُعلنَ عن فوزه.

قال الأمير جون بابتسامةٍ ساخرة: «والآن، يا لوكسلي، هل ستُحاول مرةً أخيرة مع هوبيرت؟»

قال لوكسلي: «بما أنه ليس أمامي من هو أفضل فيُسعدني أن أُجرب حظي، بشرط أنه عندما أرمي سهمَين على علامة هوبيرت التي هناك سيتعين عليه أن يرميَ سهمًا في المكان الذي أقترحه.»

رد الأمير جون: «ذلك عين الإنصاف، ولن يُرفَض لك هذا. إذا هزمت هذا المدَّعي يا هوبيرت فسأملأ لك البوق ببنساتٍ فضية.»

رد هوبيرت: «لا يسع المرءَ أن يفعل سوى قصارى ما بوُسعه، ومع ذلك فقد كان جدي راميًا ماهرًا في هاستنجز، وأنا واثقٌ من أنني لن أُلحِق العار بذِكراه.»

أُزيلَت لوحة الهدف السابقة، ووُضعت واحدةٌ جديدة بالحجم نفسه في مكانها. صوَّب هوبيرت نحو هدفه بتروٍّ شديد مستغرقًا الكثير من الوقت في قياس المسافة بعينه، بينما كان يُمسك في يده بقوسه المُلتوية، واضعًا السهمَ على وتره. أخيرًا، خطا خطوةً للأمام، ورفع القوس بأقصى استطالةٍ لذراعه اليسرى، حتى أصبح المركز أو المقبض في مستوًى قريب من وجهه، ثم سحب خيط القوس إلى أذنه. انطلق السهم مصفِّرًا يخترق الهواء، واستقرَّ في الدائرة الداخلية للوحة الهدف، ولكنه لم يُصِب المركز بالضبط.

قال خَصمه وهو يشدُّ قوسه: «أنت لم تحسب حساب الريح يا هوبيرت، ولو كنت فعلت لكان تصويبُك أفضلَ من ذلك.»

قال لوكسلي ذلك، ودون أن يُظهِر أدنى اهتمام بالتوقف للنظر مليًّا إلى هدفه خطا إلى الموضع المحدَّد، وأطلق سهمه غير عابئ وكأنه لم ينظر حتى إلى العلامات على لوحة الهدف. وكان يتحدث في نفس اللحظة تقريبًا التي انطلق فيها السهم من وتر القوس، ومع ذلك فقد استقرَّ سهمه في موضعٍ أقرب ببوصتَين من سهم هوبيرت للنقطة البيضاء للمركز.

قال الأمير جون لهوبيرت: «بحق نور السماء! إذا تركت هذا الوغد الآبق ينتصر عليك فأنت تستحق الشنق!»

قال هوبيرت: «ولو شنقتني يا صاحب السمو فسأُكرر أنه لا يسَعُ المرءَ أن يفعل سوى قصارى ما بوسعه. ومع ذلك فقد كان جدي راميًا ماهرًا …»

قاطَعه جون قائلًا: «اللعنة على جدك وجيله كله! ارمِ سهمك أيها الوغد، ارمِه بأفضل ما في وسعك، وإلا فستسوء عاقبتك!»

بعدما تلقَّى هوبيرت هذا الوعيد رجع إلى مكانه، وحسب جيدًا حساب ريح خفيفة جدًّا كانت قد هبَّت لتوِّها، ثم أطلق سهمه بنجاحٍ شديد، حتى إنه استقرَّ في مركز لوحة الهدف بالضبط.

قال الأمير مُبتسمًا ابتسامةً مهينة: «لا تستطيع تسديد رمية كتلك يا لوكسلي.»

قال لوكسلي: «ولكني سأشطر له سهمه.»

وأطلق سهمه مُتوخيًا الحرص أكثر قليلًا من ذي قبل، فاستقرَّ مباشرةً في سهم منافسه، الذي انشق إلى شظايا.

قال لوكسلي: «والآن، ألتمس إذن سموك في أن أضع علامة كما يفعلون في المقاطعات الشمالية، وأرحب بكل يَومَن شجاع يُحاول إصابته.»

ثم استدار مُغادرًا ساحة النزال قائلًا: «دع حُراسك يتبعوني إن شئت؛ فلستُ إلا ذاهبًا لأقطع غصنًا من شجرة الصفصاف القريبة.»

رجع لوكسلي على الفور تقريبًا بعصًا من خشب الصفصاف يبلغ طولها نحوَ ستِّ أقدام، وكانت مستقيمةً استقامةً ممتازة، وأكثرَ سمكًا بقليل من إبهام رجل. شرع في تقشيرها ذاكرًا أنه لكي تطلب من رجلِ غابة جيد أن يُصوِّب على هدفٍ عريض كالذي استُعمل حتى ذلك الحين، فإن ذلك كان يُعَد إلحاقًا للعار بمهارته. قال: «من ناحيتي، وفي الأرض التي نشأت فيها، أرى أن الهدف الذي كنا نُصوب عليه كبير كطاولة الملك آرثر المُستديرة، التي تتَّسع لستِّين فارسًا حولها. إن طفلًا في السابعة من عمره يُمكنه أن يُصيب هدفًا هناك بسهمٍ لا رأس له، ولكن …» وأضاف وهو يمشي بتروٍّ على الطرف الآخر من ساحة النزال، ويغرز عصا خشب الصفصاف في الأرض: «من يُصِب هذه القصبة من مسافة مائة ياردة أعُدَّه راميًا يستحقُّ أن يحمل القوس وجعبة السهام أمام ملك.»

قال هوبيرت: «كان جدي راميًا ماهرًا في معركة هاستنجز، ولم يُصوب على علامةٍ مِثل هذه في حياته، وكذلك لن أفعل أنا. إذا تمكَّن هذا اليَومَن من شق تلك القصبة فسأُقرُّ له بأنه غلبني، أو بالأحرى سأخضع للشيطان الذي يتلبَّسه، وليس لأي مهارة بشرية. لا يسع المرء أن يفعل سوى قصارى ما بوسعه، وسأُصوِّب على هدفٍ أنا متأكدٌ من أنني لن أُصيبه. من الأفضل لي إذن أن أُصوِّب على شعاع من أشعة الشمس، أو على شعاعٍ أبيضَ وامضٍ بالكاد أراه.»

قال الأمير جون: «كلبٌ جبان! فلتُصوِّب يا سيد لوكسلي، ولكن إن أصبت هدفًا كهذا فسأقول إنك أول رجل يفعل هذا. ومهما يكن، فلا تتبجَّح علينا بمجرد ادعاء مهارتك الفائقة.»

رد لوكسلي: «سأبذل قصارى ما بوسعي، كما يقول هوبيرت؛ فلا يملك أي إنسان أن يفعل أكثر من ذلك.»

وبعد أن قال هذا شدَّ قوسه مجددًا، ولكنه هذه المرة نظر باهتمام إلى سلاحه، وغيَّر الوتر الذي اعتقد أنه لم يَعُد مُستديرًا كامل الاستدارة؛ نظرًا لاهترائه بعض الشيء بفعل الرميتَين السابقتين، ثم صوَّب ببعض التروي، وترقَّبت الجماهير الحدث بصمت واحتبست الأنفاس. أثبت الرامي رأيهم في مهارته؛ فقد شقَّ سهمه قصبة الصفصاف في المكان الذي كانت مصوبةً نحوه. تبع ذلك وابلٌ من التهليل، حتى إن الأمير جون نسي للحظةٍ نفورَه من شخص لوكسلي إعجابًا بمهارته، وقال: «هذه القِطع الفضية العشرون، التي استحقَقتَها هي والبوق بجدارة، قد أصبحت مِلكك الآن، وسنزيدها إلى خمسين إن قبلت أن ترتديَ زيَّنا وتعمل في خدمتنا بصفتك أحدَ أفراد حرَسنا الشخصي، وتُصبح بقرب شخصنا؛ فلم تشُد يدٌ من قبلُ قوسًا بمِثل هذه القوة، أو تُصوِّب عين سهمًا بمثل هذه الدقة.»

قال لوكسلي: «أستميحك عذرًا، أيها الأمير النبيل، ولكني قطعت على نفسي عهدًا أنني إن قبِلتُ خدمة أحد في يوم من الأيام فسيكون ذلك مع أخيك الملك ريتشارد. أما هذه القِطع الفضية العشرون فأتركها لهوبيرت، الذي كان اليوم راميًا لا يقل في شجاعته عما فعله جده في هاستنجز. ولولا تواضعُه الذي حال بينه وبين أن يُجرب لكان قد أصاب العصا مِثلما أصبتُها.»

هزَّ هوبيرت رأسه وهو يتلقى على مضضٍ هِبة الغريب، أما لوكسلي الذي كان مُتلهفًا للابتعاد عن الأنظار، فاندسَّ وسط الحشد، ولم يُرَ بعدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤