الفصل الخامس عشر
عندما رأى سيدريك الساكسوني ابنه يسقط فاقدًا للوعي في ساحة النزال بآشبي، كان أول شعور انتابَه أن يأمر بوضعه في عُهدة خدَمه ورعايتهم، ولكن الكلمات احتبست في حلقه. لم يستطع أن يحمل نفسه على الاعتراف، في حضور مثل هذا الجمع، بابنه الذي أنكره وحرمه من الميراث. ومع ذلك أمر أوزوالد أن يُراقبه، لكنَّ ساقيَ سيدريك حاول البحث عن سيده الشاب دون جدوى. لقد رأى البقعة الملطَّخة بالدماء التي كان قد سقط فيها منذ قليل، لكنه لم يَعُد يراه، وكانت المعلومة الوحيدة التي استطاع أن يجمعها من المُشاهدين أن بعض الخدم الذين يرتدون ملابس مهندمةً حملوا الفارس بعناية، ووضعوه على محفَّةٍ تملِكها سيدة من بين المشاهدين، ونقلوه على الفور خارج الزِّحام.
كان سيدريك وأثيلستان والليدي روينا وخدمُهم قد وصلوا إلى حدود منطقة الغابات، في طريق عودتهم من آشبي، وإذا بهم يسمعون صرخاتٍ متكررةً تطلب المساعدة. وعندما وصوا بجيادهم إلى المكان الذي أتت منه هذه الصرخات، فُوجِئوا عندما وجدوا مِحفَّةَ خيل موضوعةً على الأرض، وبجوارها امرأةٌ شابَّة ترتدي ثيابًا فاخرة على طريقة اليهود، ورجلٌ عجوز، تدل قبعته الصفراء على أنه من الأمة ذاتها، يمشي جَيئةً وذَهابًا وعلى وجهه أماراتُ يأسٍ بالغ، ويعتصر يدَيه غضبًا كما لو أنه قد أصابته مصيبةٌ غريبة.
عندما بدأ إيزاك أوف يورك (إذ كان ذاك هو صديقنا القديم) يتمالك نفسه من هول رعبه، تمكَّن أخيرًا من تِبيان أنه كان قد استأجر طاقمًا من الحُراس الشخصيين من ستة رجال من آشبي، مع بغال لحمل محفَّة صديق مريض. كانوا قد وصلوا إلى هذا الحد بأمان، ولكن بعد أن علم مرتزقة إيزاك من أحد الحطَّابين أن ثَمة عصابةً قوية من الخارجين عن القانون تكمن في الغابة متربصةً لهم، لم يكتفوا بالفِرار، لكنهم أيضًا أخذوا معهم الخيل التي تحمل المحفة، وتركوا اليهودي وابنته، بلا وسيلة للدفاع عن نفسَيهما أو للتراجع، عُرضةً للسرقة وربما للقتل على يد قُطاع الطُّرق.
أضاف إيزاك قائلًا بلهجة من التذلل الشديد: «إن أذنتم أيها البُسلاء لليهودي الفقير أن يُسافر تحت حمايتكم، فأُقسِم بألواح ناموسنا أن ما من إحسان قُدِّم إلى أحدٍ من بني إسرائيل منذ أيام أَسْرنا إلا وسنُقرُّ به بمزيد من الشكر والامتنان.»
قال أثيلستان: «يا كلب اليهود! ألا تذكر تحدِّيك لنا في الرواق عند ساحة المثاقَفة؟ لو لم يسرق الخارجون عن القانون إلا أمثالَك الذين يسرقون الناس كلهم لاعتبرتهم، من ناحيتي، أناسًا صالحين وشرفاء.»
لم يُوافق سيدريك على رأي صاحبه القاسي، وقال: «سنفعل ما هو أفضل، ونترك لهما اثنين من خدَمنا وجوادين ليحملاهما إلى أقرب قرية. لن ينتقص هذا من قوَّتنا إلا قليلًا. وبفضل مهارتك في استعمال سيفك، أيها النبيل أثيلستان، ومساعدة الباقين، سيكون من السهل علينا مواجهة عشرين من أولئك الأوغاد.»
أثنَت روينا بشدة على اقتراح الوصي عليها، ولكن ريبيكا قامت فجأةً من جِلستها المُغتمة، وشقَّت طريقها بين الخدم إلى جواد السيدة الساكسونية، ثم جثَت على رُكبتَيها، وعلى طريقة الشرقيين في مخاطبة مَن هم أرفع مكانةً قبَّلت طرَف ثوب روينا، ثم قامت بعد ذلك مرجعةً خمارها خلف ظهرها، وناشدتها باسم الإله الأعظم الذي تعبده كلتاهما أن تأخذها بهم الشفقة، وتدعهم يسافرون في حمايتهم.
قالت ريبيكا: «لا ألتمس هذا المعروف لأجلي، ولا حتى لأجل ذلك الرجل العجوز المسكين. أعلم أن الإساءة إلى قومنا وسلبهم أموالهم سيئةٌ صغيرة، إن لم تكن حسنة لدى المسيحيين، ولكن بحق اسم شخص عزيز على الكثيرين وعزيز حتى لديك، وأتوسَّل إليكِ أن تتركي هذا الشخص المريض يُنقَل معنا وينال الرعاية والعطف تحت حمايتكِ؛ لأنه إن أصابه سوء فستقضين آخر لحظات حياتك متجرعةً مرارة الندم على رفض ما أطلبه منكِ.»
كانت للطريقة النبيلة والوقورة التي قدَّمت بها ريبيكا طلبها أثرٌ مضاعف على الساكسونية الحسناء.
قالت للوصي عليها: «الرجل مُسنٌّ وواهِن، والفتاة صغيرة وجميلة، وصديقهما مريض وحياته في خطر. ومع أنهم يهود لا يُمكننا كمسيحيين أن نتركهم في هذه الشدة. دعهم يرفعوا عن بغلتَين من بغال الأحمال حملهما، ويضعوا الأمتعة خلف اثنين من العبيد. يُمكن للبغلتَين أن تنقلا المحفة، ولدينا خيل بلا راكب للرجل العجوز وابنته.»
وافَق سيدريك عن طِيب نفس على ما اقترحته. كان الطريق الذي يُسافر عليه الركب في ذلك الوقت شديدَ الضيق، بحيث لم يكن يتسع لأكثرَ من راكبَين يسيران جنبًا إلى جنب، وبدأ في الانحدار في وادٍ صغير وعميق، يقطعه جدولٌ ذو ضفاف محطَّمة وتكتنفها المستنقَعات. رأى سيدريك وأثيلستان خطرَ تعرُّضهم للهجوم في هذا الطريق، ولكن لا مفر من تجنُّب تعرُّضهم للخطر إلا بأن يُسرعوا في السير عبر الممر الضيق قدر استطاعتهم؛ لذا تقدَّما دون كثير من التنظيم، وما كادا يعبُران الجدول مع جزء من أتباعهما حتى هُوجِموا من الأمام والجانبين والخلف دفعةً واحدة بعنفٍ شديد حال بينهم وبين أي مقاوَمة فعَّالة؛ لأنهم كانوا في حالة من الارتباك وضعف الاستعداد. سُمِعت من جميع الجهات صيحة: «تنِّين أبيض! تنِّين أبيض! أيها القديس جورج، يا قديس إنجلترا البهيجة!» وكانت صيحات حرب أطلقها المُغِيرون إعلانًا عن شخصيتهم المزعومة باعتبارهم ساكسونيين خارجين عن القانون، وظهر الأعداء من كل جانب مُسرعين في التقدم والهجوم؛ ما جعل أعدادهم تبدو مضاعَفة.
أُسِر القائدان الساكسونيان في اللحظة نفسها، وسقط الخدم المثقَلون بالأمتعة فريسةً سهلة في يد المُعتدين، بعدما فاجأهم وأرعبهم ما حل بسيدَيهم، كما لاقت السيدة روينا التي كانت في منتصف الركب، واليهودي وابنته اللذان كانا في مؤخرته، المصيرَ التعس نفسَه.
لم يهرب أحد من الحاشية كلها إلا وامبا وجيرث، ولكن ظهر شخصٌ ثالث فجأةً، وأمرهما بالتوقف. من ملبسه وسلاحه خمَّن وامبا أنه أحد أولئك الخارجين عن القانون الذين كانوا قد أغاروا لتوِّهم على سيده، ولكن إلى جانب أنه لم يكن يرتدي قناعًا تمكَّن أن يُعرَف من الحمالة المُبهرجة على كتفه، والبوق الثمين الذي يحمله فيها، وكذلك التعبير الهادئ والآمر في صوته وطريقته، وعلى الرغم من ظلمة الشفق، أنه اليَومَن لوكسلي.
قال: «ما معنى كل هذا؟ ومن ذا الذي ينهب، ويطلب فدية، ويأخذ أسرى، في هذه الغابات؟»
قال وامبا: «انظر إلى أرديتهم الطويلة عن قرب؛ لترى ما إذا كانت سُترات أطفالك أم لا؛ إذ إنها تُشبه ثيابك، كما تتشابه حبات البازلاء.»
رد لوكسلي: «سأعرف ذلك في الحال، وآمركما، منجاةً لحياتكما، ألا تَبْرحا مكانكما حتى أرجع. ولكن مهلًا، لا بد أن أبدوَ كهؤلاء الرجال قدر الإمكان.»
قال ذلك وفكَّ إبزيم حزام الكتف الذي به البوق، وأخذ ريشةً من قبعته وأعطاها لوامبا، ثم أخرج قناعًا من حقيبته، وكرَّر عليهم أوامره بالبقاء بلا حَراك، ثم مضى لتنفيذ أغراض استكشافه. رجع في غضون بضع دقائق.
قال: «أيها الصديق جيرث، لقد اندسست وسط هؤلاء الرجال، وعرَفت إلى من ينتمون وإلى أين يتجهون. أعتقد أنه لا يحتمل أن يرتكبوا أي فعل عنيف حقيقي مع أَسْراهم. وإذا حاول ثلاثة رجال الهجومَ عليهم في هذه اللحظة فلن يكون ذلك إلا ضربًا من الجنون، ولكني أثق أنني سرعان ما سأجمع قوة يُمكنها إحباط كل سُبُل حيطتهم. أنتما خادمان، وأعتقد أنكما خادمان مُخلِصان لسيدريك الساكسوني. لن تُعوِزه أيادٍ إنجليزية لمساعدته في هذه المحنة. تعالَيا إذن معي حتى أجمع المزيد من العون.»
قال ذلك ومشى عبر الغابة بخُطًى سريعة، يتبعه المهرِّج وراعي الخنازير. وبعد ثلاث ساعات، وصلوا إلى فُرجةٍ صغيرة في الغابة يتوسَّطها شجرة بلوط عملاقة، وأسفلها يستلقي أربعة أو خمسة من اليوامنة ممدَّدين على الأرض، بينما كان ثَمة يومَن آخر يمشي جيئة وذهابًا كالحارس في ظل ضوء القمر.
عندما سمع الحارس أصوات الأقدام أطلق على الفور صيحة تنبيه، وانتفض النائمون وشدُّوا أقواسهم. كانت ستة أسهُم موضوعةً على الأوتار وموجَّهةً نحو المكان الذي اقترب منه المسافرون، ولكن عندما عرفوا مُرشِدهم رحَّبوا به بكل أمارات الاحترام والمودة.
كان سؤاله الأول: «أين الطحان؟»
«في الطريق إلى روثيرهام.»
سأل القائد؛ إذ هكذا بدا: «وكم معه من الرجال؟»
«ستة رجال وأملٌ كبير في غنيمة، إن شاء ذلك القديس نيكولاس.»
قال لوكسلي: «قولٌ تقي. وأين آلان أديل؟»
«اتَّجه صوب شارع واتلنج ليترقَّب رئيس دير جورفولكس.»
رد القائد: «ذلك تفكيرٌ سديد أيضًا. وأين الراهب؟»
«في صومعته.»
قال لوكسلي: «سأذهب إلى هناك. تفرَّقوا وابحثوا عن رفقائكم، واجمعوا ما تقدرون عليه من قوة، ثم قابِلوني في الفجر.» وأضاف قائلًا: «مهلًا، لقد نسيت أهم شيء في الأمر كله. فلْيَمضِ اثنان منكم في الطريق مسرِعَين إلى توركويلستون، حيث قلعة فرونت دي بوف. ثَمة مجموعة من البُسلاء الذين تنكَّروا في ثياب كثيابنا، ينقلون عصابة من الأسرى إلى هناك، راقِباهم من كثب، ولتُرسِلا بواحد من أسرع رفقائكم كي يجلب لنا أخبار مَن هناك من اليوامنة.»
تعهَّدوا بالطاعة التامة، وافترقوا بخفة إلى مهامِّهم المختلفة. وفي الوقت نفسه تابَع قائدهم ورفيقاه طريقهم إلى كنيسة كوبمانهيرست.