الفصل الحادي والثلاثون

امتطى إيزاك بغلةً كانت هدية من الخارج عن القانون، ومعه اثنان من اليوامنة طِوال القامة ليقوما على حراسته وإرشاده، وانطلق بغرض التفاوض على استرداد ابنته نحوَ مقر تمبلستو، حيث بدا أن صرامة نظام الهيكل المُتقشفة الزاهدة لتدريب فُرسان الهيكل، التي كان قد حل محلها منذ فترة طويلة إسرافٌ في العبث، قد أُعيد إحياؤها تحت عين السيد الأعظم، لوكاس بومانوار، الصارمة. توقَّف إيزاك عند البوابة ليُفكر في كيفية الدخول بطريقةٍ ينال بها العطف.

في تلك الأثناء، كان لوكاس بومانوار يمشي في حديقةٍ صغيرةٍ تابعة للمقر، وخاض نقاشًا حزينًا وخاصًّا مع أخ في طائفته. ولم يكن كبير مقر فُرسان الهيكل، حيث كانت تلك رُتْبته، يسير مُحاذيًا للسيد الأعظم، ولكن خلف بومانوار بأقصى مسافة تُمكنه من الحديث معه دون الحاجة إلى أن يلتفت إليه برأسه.

قال السيد الأعظم: «كونراد، يا رفيقي العزيز في معاركي وكفاحي، إلى قلبك المُخلِص وحده أستطيع أن أُفضِي بأحزاني. يجب علينا أن نرجع أدراجنا ونُظهِر أننا أبطال الصليب المخلصون، مضحِّين في سبيل دعوتنا، ليس بدمائنا وأرواحنا فحسب، وليس برغباتنا ورذائلنا فحسب، ولكن براحتنا ودَعَتنا وبمشاعرنا الطبيعية، وأن نتصرف كرجالٍ مُقتنعين بأن كثيرًا من المُتع التي قد تكون مشروعةً للآخرين محظورةٌ على جندي الهيكل الذي نذَر نفسه.»

دخل الحديقةَ وصيف، وانحنى انحناءةً عميقةً أمام السيد الأعظم، ووقف صامتًا في انتظار إذنه قبل أن يتجرَّأ بالإفصاح عن المهمة التي جاء من أجلها.

قال السيد الأعظم: «أليس من المُلائم أكثر أن نرى داميان هذا يرتدي ثياب التواضع المسيحي، ويظهر صامتًا هكذا في احترامٍ أمام رئيسه، مما رأيناه عليه منذ يومَين، حين كان الأحمق يرتدي سُترةً مصبوغة، ويتمايل في وقاحة وتكبُّر كأي ببَّغاء؟ تكلَّمْ يا داميان، إننا نأذن لك. ما المهمة التي جئت من أجلها؟»

قال الوصيف: «أيها الأب النبيل الموقَّر، إن يهوديًّا يقف خارج البوابة، وهو يرجو الحديث مع الأخ براين بوا جيلبرت.»

قال السيد الأعظم: «أحسنت صنعًا أن أعلَمتَني بالأمر.» ثم استدار إلى رفيقه قائلًا: «إنه مما يُهمنا كثيرًا أن نعرف ما يُقدِم عليه هذا المدعو بوا جيلبرت.»

قال كونراد: «يُقال عنه إنه شجاع وباسل.»

قال السيد الأعظم: «وما يُقال عنه صحيح، ولكن الأخ براين أتى إلى طائفتنا رجلًا مُكتئبًا وخائب الرجاء. ومنذ ذلك الحين، أصبح دَءوبًا على إثارة الفتن، ومُتذمرًا، ودسَّاسًا، ومُتزعمًا لأولئك الذين يطعنون في سلطتنا.» ثم استطرد قائلًا: «أدخِلِ اليهودي إلى حضرتنا يا داميان.»

غادَر الوصيف بإجلالٍ عميق، ورجع في غضون بضع دقائق يقود إيزاك أوف يورك. وعندما أصبح على مسافة ثلاث ياردات، أشار بومانوار بعصاه أنه لا ينبغي أن يقترب أكثرَ من ذلك. سجد اليهودي على الأرض، وقبَّلها إجلالًا، ثم نهض ووقف أمام فارسَي الهيكل ويداه مضمومتان إلى صدره وقد حنى رأسه.

قال السيد الأعظم: «انصرِف، يا داميان، ودَعْ أحد الحراس مُتأهبًا في انتظار أي نداء مُفاجئ منا، ولا تسمح لأحد بدخول الحديقة حتى نُغادرها.» انحنى الوصيف وغادَر. واصَل العجوز المُتغطرس كلامه قائلًا: «أيها اليهودي، استمِع إليَّ جيدًا. أوجِز في إجاباتك عن الأسئلة التي سأطرحها عليك، واجعل كلماتك صادقة؛ لأنه إن نطق لسانك كذبًا فسأقتلعه من بينِ فكَّيك الكافرَين. صمتًا أيها الكافر! لا تتحدث بكلمة في حضورنا إلا ردًّا على أسئلتنا. ما شأنك مع أخينا براين بوا جيلبرت؟»

لهث إيزاك في رعب وحيرة، ورأى بومانوار جزعه الشديد، فتفضَّل بأن يُعطيَه بعض الثقة.

قال: «لا تخَف شيئًا أيها البائس اليهودي ما دُمْت تتعامل بصدق في هذا الأمر. أطلب منك مرةً أخرى أن أعرف منك شأنك مع براين بوا جيلبرت.»

figure
إيزاك أمام السيد الأعظم، بريشة أدولف لالوز.

قال اليهودي مُتلعثمًا: «أنا أحمل رسالة، إذا سمحت أيها الباسل الموقَّر، إلى ذلك الفارس الصالح، من آيمر رئيس دير آبي أوف جورفولكس.»

قال السيد الأعظم: «ألم أقل لك يا كونراد إن هذه أوقاتٌ مشئومة؟ رئيس دير مسيحي يبعث برسالة إلى جندي من جنود الهيكل، ولا يجد رسولًا أفضل من يهوديٍّ كافر. أعطِني الرسالة.»

بيدَين مُرتعشتَين، فتح اليهودي طيَّات قبعته الأرمنية التي كان قد أودع فيها ألواح رئيس الدير إمعانًا في التأمين، وكان على وشك الاقتراب، بيده المُمتدة وجسده المُنحني، لوضعها في متناوَل يد مُستجوبه المُتجهم.

فقال السيد الأعظم: «تراجَعْ، أيها الكلب! أنا لا ألمس الكفار، إلا بالسيف. خُذ، يا كونراد، الرسالة من اليهودي، وأعطِها لي.»

عندما استلم بومانوار الألواح بهذه الطريقة فحصها من الخارج بعناية، ثم شرَع في فك الخيط الذي يؤمِّن طيَّاتها. قرأ الرسالة بعد ذلك على عجل، وأمارات الدهشة والهلَع على وجهه، ثم قرأها مرةً أخرى بتدقيق وببطءٍ أكبر، ثم أعطاها لكونراد بيدٍ واحدة ضاربًا إياها بالأخرى ضربًا خفيفًا، صائحًا: «ها هي أمورٌ طيبة يكتبها مسيحيٌّ لمسيحيٍّ آخر، وكلاهما عضو، وعضو ليس بالهيِّن، في طائفةٍ دينية! اقرأها بصوتٍ عالٍ يا كونراد.» ثم وجَّه كلامه لإيزاك قائلًا: «وأنت، انتبِه إلى المقصود منها؛ لأننا سنسألك عنه.»

قرأ كونراد الرسالة التي كان نصها:

من آيمر، الذي هو، بالنعمة الإلهية، رئيس الرهبانية السيسترسية بدير جورفولكس، إلى السير براين بوا جيلبرت، مع تمنياتي له بموفور الصحة. فيما يخصُّ حالتنا الحاليَّة أيها الأخ العزيز، فنحن أسرى في يد بعض الرجال الزنادقة الخارجين عن القانون، الذين لم يخشَوا أن يسجنوا شخصنا ويطلبوا فديةً عنا، كما علِمنا أيضًا أنك هربت بتلك الساحرة اليهودية الحسناء التي سحرتك عيناها السوداوان. إننا مُبتهجون من كل قلبنا بسلامتك، ولكننا نرجوك أن تحذَر من أمر ساحرة إندور الثانية هذه؛ لأننا متأكِّدون من مصدرٍ خاص من أن مُعلمك الأكبر، الذي لا يهتمُّ مثال حبة بالوجنات الوردية والعيون السوداء، آتٍ من نورماندي ليُنغص عليك بهجتك ويُقوِّم سوء فعلك. ولما كان أبوها اليهودي الثري، إيزاك أوف يورك، قد ترجَّاني أن أكتب رسالةً نيابةً عنه، فقد أعطيته هذه الرسالة ناصحًا إياك بجِدٍّ، وبتوسُّل نوعًا ما، أن تُسلِّم الفتاة مقابل فدية.

حُرِّرت من وكر اللصوص هذا في حوالَي ساعة صلاة الصبح، آيمر، رئيس الرهبانية السيسترسية بدير جورفولكس.

قال السيد الأعظم: «ما قولك في هذا يا كونراد؟ وكر اللصوص! إن وكر اللصوص هذا مُقامٌ مُلائم لرئيس دير كهذا. وريبيكا أوف يورك هذه هي تلميذة ميريام التي سمعت عنها، وستسمع اليهودي يعترف بذلك الآن.» ثم التفت على إيزاك، وقال بصوتٍ عالٍ: «إن ابنتك إذن أسيرة لدى براين بوا جيلبرت، أليس كذلك؟»

قال إيزاك المسكين مُتلعثمًا: «أجل أيها السيد الباسل الموقَّر، وأيًّا كانت الفدية التي يُمكن لرجلٍ مسكينٍ مِثلي أن يدفعها مقابل خلاصها …»

قال السيد الأعظم: «اصمت! لقد مارست ابنتك هذه فنَّ المُداواة، أليس كذلك؟»

أجاب اليهودي بمزيد من الثقة: «بلى، أيها السيد الكريم. وكم من فارس ويومَن ووصيف وتابع قد بارَك الهِبة الطيبة التي منحتها إياها السماء.»

واصَل كونراد حديثه لليهودي قائلًا: «إن ابنتك تُعالج المرضى، لا أشك في ذلك، بالكلمات والطلاسم والتمائم، وغيرها من أسرار الكابالا.»

رد إيزاك: «كلا أيها الفارس الشجاع المبجَّل، ولكن في الأساس بدهانٍ ذي مفعول مُذهِل.»

قال بومانوار: «من أين لها بهذا السر؟»

أجاب إيزاك بتردد: «لقد أعطته لها ميريام، وهي عقيلةٌ حكيمة من قومنا.»

قال السيد الأعظم: «آه، أيها اليهودي المُخادع! ألم يكن مِن الساحرة ميريام نفسها التي شاع خبر سحرها الشرير في كل أرض مسيحية؟» ثم صاح السيد الأعظم، راشمًا الصليب على صدره: «إن جسدها قد أُحرِق على عمود، وصار رمادًا تذروه الرياح الأربعة، وليكن ذلك مصيري أنا وطائفتي إن لم أفعل في تلميذتها ما فعلناه بها وزيادة! سأُعلمها كيف تُلقي كلمات سحرها وتعاويذها على جنود الهيكل المبارَك. هيا، يا داميان، ألقِ بهذا اليهودي إلى خارج البوابة، وأطلِقْ عليه سهامك واقتله إذا اعترض أو رجع مرةً أخرى. أما ابنته، فسنتعامل معها وفقًا للقانون المسيحي وما يكفُله لنا مَقامنا الرفيع.»

وعلى هذا، دُفِع بإيزاك المسكين إلى الخارج. وفي الوقت نفسه أمر السيد الأعظم بمجيء ألبيرت مالفوازان، رئيس، أو بلغة الطائفة كبير، مقر فُرسان الهيكل بتمبلستو، إلى حضرته.

قال السيد الأعظم بنبرةٍ صارمة: «إن في هذا القصر المخصَّص لأغراض طائفة فُرسان الهيكل المقدَّسة امرأةً يهودية، جلبها إلى هنا أخٌ من ديننا بتواطؤ منك، أيها السيد كبير مقر فُرسان الهيكل. لماذا لا تُجيب؟»

أجاب المُعلم بنبرة فيها تواضعٌ عميق، على الرغم من أنه بسؤاله هذا كان فقط يُريد أن يحظى بلحظة لترتيب أفكاره: «هل يؤذن لي بالرد؟»

قال السيد الأعظم: «تكلَّمْ، قد أذِنَّا لك. وسأسألك مرةً أخرى إذن، كيف رضيت أن يُحضر أحد الإخوة ساحرةً يهودية إلى هذا المكان المقدَّس لتُلطخه وتُدنسه؟»

ردَّد ألبريت مالفوازان قائلًا: «ساحرة يهودية! فلتحرسنا الملائكة الصالحة!»

قال السيد الأعظم بصرامة: «أجل يا أخي، ساحرة يهودية! كما قلت لك. أتجرؤ على إنكار أن ريبيكا هذه، ابنة ذلك المُرابي الحقير إيزاك أوف يورك، وتلميذة الساحرة الفاسدة ميريام، هي الآن — أشعر بالعار من مجرد التفكير في الأمر أو التحدث فيه! — تُقيم داخل مقرك هذا؟»

أجاب المُعلم: «إن حكمتكم أيها الأب الموقَّر قد كشفت الظُّلمة عن بصيرتي، ولكَم تعجَّبت من أن فارسًا جيدًا مثل براين بوا جيلبرت يبدو مفتونًا بولعٍ بسحر هذه الأنثى التي لم أستقبلها في هذه الدار إلا لأضع حاجزًا بين مودتهما المُتنامية. إن كنت قد أثِمت باستقبالي لها هنا فقد كان سوء تقدير مني أنْ ظننت أنَّ بإمكاني أن أضع حدًّا لحب أخينا المفتون لهذه اليهودية، والذي بدا لي طائشًا وغير طبيعي إلى حد أنني لم أستطع إلا أن أرجع سببه إلى مسٍّ من الجنون الذي يُعالَج باللين لا بالتوبيخ، ولكن بما أن حكمتكم المبجَّلة قد اكتشفت أن هذه اليهودية الفاسقة ساحرة، فربما يرجع سبب حماقته في التعلق بها بالكامل إلى هذا.»

قال بومانوار: «إنه كذلك! إنه كذلك! وربما يكون أخونا براين بوا جيلبرت في هذا الشأن يستحقُّ الشفقة وليس العقاب الصارم، ولكن فيما يخصُّ هذه الساحرة الدنيئة التي فتنَت بسحرها أخًا من الهيكل المقدَّس، فبالتأكيد مصيرها المحتوم هو الموت.»

قال كبير المقر: «ولكن قوانين إنجلترا …»

قاطَعه بومانوار قائلًا: «قوانين إنجلترا تسمح لكل قاضٍ وتفرض عليه أن يُنفذ العدالة في نطاق سلطته القضائية. وهل يستطيع أحدٌ أن يُنكر على السيد الأعظم للهيكل هذه السلطة داخلَ أحدِ مقارِّ طائفته؟ كلا! سنُحاكم ونُدين. فلتُعدُّوا قاعة القلعة لمحاكمة الساحرة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤