الفصل الثاني والثلاثون
كان جرس القلعة الثقيل قد دقَّ مُعلنًا ساعة الظهيرة، عندما سمعت ريبيكا وَقْع أقدام فوق الدَّرج الخاص الذي يؤدي إلى مكان حبسها. وقد أعلنت الضجة عن وصول عدة أشخاص؛ ما جعلها تشعر بالفرح بعض الشيء؛ لأنها كانت تخشى من الزيارات المنفردة لبوا جيلبرت العنيف السريع الغضب أكثر من خشيتها لأي شر آخر قد يُصيبها. لم يكن باب غرفتها موصدًا، ودخل كونراد وكبير المقر مالفوازان، وبصحبتهما أربعة حراس كانوا متَّشِحين بالسواد ويحملون الرماح.
قال المُعلم: «يا ابنة العِرق الملعون! انهضي واتبعينا.»
قالت ريبيكا: «إلى أين ولمَ؟»
أجاب كونراد: «أيتها الفتاة، ليس لكِ أن تسألي، بل عليكِ أن تُطيعي. ومع ذلك، ليكن معلومًا لكِ أنكِ ستَمثُلين أمام محكمة السيد الأعظم لطائفتنا المقدَّسة كي تُجيبي عن جرائمكِ.»
قالت ريبيكا وهي تضم يدَيها في ورع: «ليتبارك إله إبراهيم! إن اسم أحد القضاة، ولو كان عدوًّا لقومي، هو حامٍ لي. سأتبعكم طواعيةً، فقط اسمحوا لي أن ألُفَّ خماري حول رأسي.»
نزلوا الدرج بخطواتٍ بطيئة ومَهيبة، واجتازوا رواقًا طويلًا، ومن خلال باب ذي درفتين قابلتين للطي في نهايته دخلوا إلى قاعةٍ كبيرة كان السيد الأعظم قد أقام فيها في ذلك الوقت محكمة عدالته. وبينما كانت ريبيكا تمرُّ عبر الجمع ضمَّت ذراعَيها وأحنَت رأسها، ودسَّ أحدهم قصاصةً من الورق في يدها، فأخذتها في غير وعي تقريبًا، وظلَّت مُمسكةً بها دون أن تتفحَّص محتواها.
كانت هيئة المحكمة المُنعقدة لمحاكمتها تشغل المنصة أو الجزء المرتفع من الطرف الأعلى للقاعة الكبيرة. وعلى مقعدٍ مرتفع أمام المتَّهَمة مباشرةً، جلس السيد الأعظم لطائفة فُرسان الهيكل في ثوبٍ طويل فضفاض أبيض، مُمسكًا في يده بعصا سلطته الروحية التي حملت رمز الطائفة. وكان كبار المقار، الذين كان أربعة منهم حاضرين، يشغلون المقاعد الأدنى التي كانت بطريقةٍ ما متراجعةً وراء مقعد رئيسهم. أما الفُرسان الذين لم يكونوا يتمتَّعون بمِثل هذه الرتبة في الطائفة، فقد جلسوا على مقاعد أدنى، مع الحفاظ على المسافة نفسها من كبار المقار كالتي بين كبار المقار والسيد الأعظم. وخلفهم، ولكن أيضًا على المنصة أو الجزء المرتفع من القاعة، وقف وُصفاء الطائفة، وكانوا يرتدون ثيابًا بيضاءَ أقل جودة.
أما الجزء المُتبقي والأدنى من القاعة، فقد كان مُمتلئًا بحراس يَحملون حِرابًا، وبخدمٍ آخرين كان الفضول قد اجتذبهم إلى هناك لرؤية السيد الأعظم والساحرة اليهودية في الوقت ذاته. افتُتحت جلسة اليوم بإنشاد ترنيمة، وارتأى لوكاس أن الألحان الوقورة لترنيمة «هلمَّ نُرنِّم للرب» هي الأنسب للتمهيد للنصر الوشيك — إذ هكذا كان يُعِد هذه المحاكمة — على قوى الظلام.
عندما توقَّفت الأصوات جال السيد الأعظم ببصره ببطءٍ حول الدائرة، ولاحَظ أن مقعد أحد كبار المقار كان فارغًا. كان براين دي بوا جيلبرت، الذي كان يجلس في ذلك المقعد، قد غادَر مكانه، وكان عندئذٍ يقف بالقرب من الركن القصي لأحد المقاعد التي كان يشغلها رفقاؤه من فُرسان الهيكل، باسطًا عباءته الطويلة بإحدى يدَيه، كي يُخفي بها وجهه بعض الشيء، بينما كان يُمسك في اليد الأخرى بسيفه الذي كان له مقبض على شكل صليب، وكان يرسم ببطء بسنِّه خطوطًا على الأرضية المصنوعة من خشب البلوط.
قال السيد الأعظم بعدما أولاه نظرة شفقة: «رجلٌ تعيس! انظر يا كونراد كيف يُضْنيه هذا العمل المقدَّس. انظر كيف لا يُمكنه النظر إلينا، ولا يُمكنه النظر إليها، ومَن يعلم بأي إيعاز من مُعذِّبته ترسم يده خطوط الكابالا هذه على الأرضية؟!»
بعد ذلك رفع المُعلم صوته، وخاطَب الجمع.
«أيها الرجال المبجَّلون البُسلاء، أيها الفُرسان، أيها الرؤساء، الموقَّرون رفاقنا في هذه الطائفة المقدَّسة، إخوتي وأبنائي! وأنتم أيضًا أيها الوصفاء الطيِّبو النشأة الأتقياء، الذين تطمحون إلى ارتداء هذا الصليب المقدَّس! وأنتم كذلك أيها الإخوة المسيحيون من كل الدرجات! لقد استدعَينا للمثول أمامنا امرأةً يهوديةً تُدعى ريبيكا ابنة إيزاك أوف يورك، وهي امرأةٌ معروفة بأعمال الشعوذة والسحر التي استطاعت بها أن تسوق إلى الجنون، وتسلب عقلَ، ليس أحد الفلاحين، وإنما أحد الفُرسان؛ وليس فارسًا علمانيًّا، وإنما أحد الفُرسان الذين نذروا أنفسهم لخدمة الهيكل المقدَّس؛ وليس فارسًا من الرفقاء، ولكنه أحد كبار مقار طائفتنا ذوي الصدارة في الشرف كما في المكانة. إن أخانا براين دي بوا جيلبرت معروفٌ عنه أنه بطلٌ حق وغيورٌ من أبطال الصليب، أتى بالعديد من الأعمال الباسلة التي جرَت في الأرض المقدَّسة. لو قيل لنا إن رجلًا كهذا، على هذه الدرجة من الشرف والتبجيل، مُتخليًا فجأةً عن شخصيته ونذوره وإخوته وآماله، قد ربط نفسه بفتاةٍ يهودية، وتجوَّل مع هذه الرفيقة المنحطَّة عبر أماكن مُنعزلة، ودافَع عنها مُفضلًا إياها على نفسه، وأخيرًا أعمته تمامًا حماقته وسلبته عقله، حتى إنه جلبها إلى أحدِ مقارِّنا، فماذا يسَعُنا أن نقول سوى أن شيطانًا خبيثًا قد استحوذ على الفارس النبيل، أو أنه قد وقع تحت تأثير بعض التعاويذ السحرية؟ لو كان بإمكاننا أن نفترض غير ذلك، فإن براين دي بوا جيلبرت كان يجب أن يُعزَل ويُطرَد من طائفتنا، حتى ولو كان اليد اليمنى والعين اليمنى لها.»
توقَّف قليلًا، وسرَت همهمةٌ خفيضة بين الحاضرين الذين كانوا جميعًا ينتظرون بقلقٍ ما سيقترحه السيد الأعظم بعد ذلك.
قال: «إن عقاب فارس الهيكل الذي انتهك عمدًا قواعد طائفته، يجب بالفعل أن يكون شديدًا ومُفحمًا، ولكن إذا كان الشيطان قد فرض بوسائل السحر والتعاويذ سيطرتَه على الفارس، ربما لأنه نظر بعينَيه نظرةً عابرة لجمال الفتاة، فإنه أولى بنا إذن أن نَرثيَ لارتداده عن الطريق القويم لا أن نُعاقبه عليه، وبينما نفرض عليه كفارةً كهذه قد تُنقيه من إثمه فإننا نُحول دفة سخطنا بأكملها إلى الأداة المتَّهَمة التي كادت أن تتسبَّب في سقوطه الكامل. تقدَّموا إذن وأدْلُوا بشهادتكم، يا مَن شهدتم هذه الأفعال التعيسة؛ حتى يُمكننا أن نحكم على قدرها ومَغزاها.»
استُدعي العديد من الشهود لإثبات الخطر الذي عرَّض بوا جيلبرت نفسه له في محاولته لإنقاذ ريبيكا من القلعة المُحترقة، وتجاهله الدفاعَ عن نفسه لاهتمامه بسلامتها. أصبحت المخاطر التي تغلَّب عليها بوا جيلبرت، التي كانت عظيمة في حد ذاتها، استثنائيةً في روايتهم. وبالَغوا في وصف إخلاص الفارس للدفاع عن ريبيكا بما فاق الحدود، ليس فقط حدود الرشد، بل حتى حدود الإفراط الجنوني لحماسة الفُرسان.
نُودِيَ بعد ذلك على كبير مقر تمبلستو كي يصف كيف وصل بوا جيلبرت واليهودية إلى المقر. كان عرض مالفوازان متسِمًا بالحذر بإتقان. ولكن بينما كان يبدو أنه يُحاول الحفاظ على مشاعر بوا جيلبرت، فقد كان بين الحين والآخر يُلقي ببعض التلميحات التي بدا أنها تستنبط أنه كان تحت تأثير اختلال عقلي مؤقت، لدرجة أنه بدا مفتونًا بالفتاة التي جلبها معه. وبتنهُّداتٍ من الندم صرَّح كبير المقر بأسفه على أنه أذِن لريبيكا وحبيبها بالإقامة داخل جدران المقر، واختتم حديثه بأن قال: «ولكني قدَّمت دفاعي في اعترافي لأبينا الموقَّر السيد الأعظم؛ فهو يعلم أن دوافعي لم تكن شريرة على الرغم من أن مسلكي ربما كان شاذًّا.»
قال بومانوار: «أحسنت القول، أيها الأخ ألبيرت؛ فدوافعك كانت طيبة، ولكن مسلكك كان خاطئًا. أما كان من الأفضل، أيها الإخوة، أن نتقصَّى عن شيء في الحياة السابقة لتلك المرأة وفي محادثاتها، خاصةً أننا قد نكتشف ما إذا كانت ممن يستخدمن التعاويذ السحرية والطلاسم.»
كان هيرمان أوف جودالريك أحد كبار المقار الحاضرين، وقد نهض وانحنى للمُعلم الأكبر الذي منحه على الفور الإذن بالكلام، فقال: «أودُّ أن أعرف، أيها الأب الموقَّر، من أخينا الباسل براين دي بوا جيلبرت، قوله في هذه الاتهامات العجيبة.»
قال السيد الأعظم: «سمعت يا براين دي بوا جيلبرت السؤال الذي يرغب أخونا أوف جودالريك في أن تُجيب عنه، وأنا آمرك بأن تُجيب عنه.»
أدار بوا جيلبرت رأسه نحو السيد الأعظم عندما خاطبه، وظل صامتًا.
قال السيد الأعظم: «لقد استحوذ عليه شيطانٌ أبكم. انصرِف أيها الشيطان! تكلَّمْ، يا براين دي بوا جيلبرت، أُناشدك برمز طائفتنا المقدَّسة هذا.»
بذل بوا جيلبرت جهدًا في كَبْت ازدرائه وسخطه الجامحَين، وأجاب قائلًا: «إن براين دي بوا جيلبرت، أيها الأب الموقَّر، لا يردُّ على مِثل هذه التُّهم الهوجاء والغامضة. وإن كان ثَمة اتهام لشرفه فسيُدافع عنه بجسده، وبهذا السيف الذي لطالما حارب به من أجل المسيحية.»
قال السيد الأعظم: «إننا نُسامحك يا أخ براين، على الرغم من أن تفاخُرك بانتصاراتك الحربية أمامنا ما هو إلا تمجيد لأعمالك الخاصة، وهو نابع من العدو الذي يُغرينا بتمجيد عبادتنا. والآن، فليتقدم أمامنا أولئك الذين لديهم شهادة عن حياة هذه المرأة اليهودية ومحادثاتها.»
كان ثَمة لغطٌ في الجزء الأدنى من القاعة، وعندما سأل السيد الأعظم عن السبب كان الرد بأن بين الحشد رجلًا كان طريحَ الفِراش، وقد أعادت السجينة إلى أطرافه كامل قدرتها بدهانٍ عجيب.