الفصل الثالث والثلاثون
سُحِب الفلاح المسكين الذي كان ساكسونيَّ المولد أمام سياج منصَّة المحكمة. كان من المؤكَّد أنه لم يُشْفَ تمامًا؛ إذ كان يستند على عكازَين وهو يتقدم لأداء الشهادة. وبكراهةٍ شديدة، أدلى بشهادته مصحوبةً بدموعٍ غزيرة، ولكنه أقرَّ بأنه منذ سنتين، عندما كان مُقيمًا في يورك، ابتُلي فجأةً بمرضٍ شديد عندما كان يعمل لدى إيزاك اليهودي الثري في مهنته، وهي النجارة، لدرجة أنه كان غير قادر على النهوض من سريره حتى أعادت له العلاجات التي أُعطيَت بتعليمات ريبيكا، وخاصةً دهان يبعث الدفء وله رائحة كرائحة التوابل، القدرةَ على استخدام أطرافه على حدٍّ ما، وقال الرجل: «وإذا أذِنت لي يا صاحب القداسة الكريم، فإني لا يُمكنني أن أظن أن الفتاة كانت تقصد إلحاق أذًى بي، على الرغم من أن حظها السيئ جعلها يهودية؛ لأنه حتى عندما كنت أستخدم دواءها كنت أتلو الصلاة الربَّانية وصلاة قانون الإيمان، ولم يقلَّ جهدها الكريم قط ولو بمثقال ذرة.»
قال السيد الأعظم: «صمتًا أيها العبد، واغرُب عنا! إنه من الأنسب لحيوانات من أمثالك أن يعبثوا ويلعبوا بالعلاجات الشيطانية، وأن تعمل لدى أبناء الشيطان. هل معك ذلك الدهان الذي تتحدث عنه؟»
أخرج الفلاح، بعد أن تحسَّس صدره بيدٍ مُرتعشة، صندوقًا صغيرًا، على غطائه بعض الأحرُف العبرية، وهو ما اعتبره معظم الحضور دليلًا قاطعًا على أن الشيطان هو صانعه. وبعد أن رشَم بومانوار الصليب على صدره، أخذ الصندوق في يده. ولما كان على علم بمعظم اللغات الشرقية، فقد قرأ بسهولةٍ الشعار المكتوب على الغطاء: «هُوَ ذَا قَدْ غَلَبَ الأَسَدُ الَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا.» قال: «إن قُوى الشياطين الغريبة هي التي يُمكنها أن تُحول الكتاب المقدَّس إلى تجديف على الرب، مازجةً السمَّ بطعامنا الضروري! أليس ثَمة طبيبٌ هنا يُمكنه أن يُخبرنا بمكوِّنات هذا الدهان الغامض؟»
ظهر طبيبان، كما ادَّعيا، وكان أحدهما ناسكًا والآخر حلَّاقًا، وأقرَّا بأنهما لا يعرفان شيئًا عن موادِّه، باستثناء أنهما ذاقا في طعمه المُرَّ والحناء، وهما كما اعتقدا من الأعشاب الشرقية. وعندما انتهى هذا الفحص الطبي، طلب الفلاح الساكسوني بتواضعٍ أن يستردَّ الدواء، ولكن السيد الأعظم عبَس بصرامة لدى سماعه الطلب، وقال للرجل المُقعَد: «ما اسمك يا رجل؟»
أجاب الفلاح: «هيج، ابن سنيل.»
قال السيد الأعظم: «إذن يا هيج يا ابن سنيل، أقول لك أن تكون طريح الفِراش أفضلُ من أن تقبَل أن تنتفع بدواء الكفار لتستطيع أن تنهض وتمشي.»
انسحب هيج بن سنيل من بين الحشد، ولكنه لاهتمامه بمصير من أحسنت إليه تباطَأ حتى يعرف مصيرها.
في أثناء هذه الفترة من المحاكمة، أمر السيد الأعظم ريبيكا أن تكشف عن وجهها، فتكلَّمت للمرة الأولى، وأجابت بصبر، ولكن بوقار، قائلةً إنه لم يكن من عادة بنات قومها أن يكشفن عن وجوههن عندما يَكُن وحدهن وسط جمع من الغُرباء. بعثَت النبرة العذبة لصوتها ونعومة ردها إحساسًا بالشفقة والتعاطف لدى الحاضرين، لكن بومانوار كرَّر أوامره بأنه يتعين على ضحيته أن تكشف عن وجهها. وكان الحراس على وشك أن يخلعوا عنها نقابها امتثالًا لأوامره عندما نهضت واقفةً أمام السيد الأعظم، وقالت: «كلا، ولكن من أجل بناتكم.» ثم قالت وهي تستعيد ذاكرتها: «وا أسفاه، ليس لديكم بنات! ولكن من أجل ذكرى أمهاتكم، لا تجعلوني أُعامَل هكذا في حضرتكم؛ فلا يليق بفتاةٍ أن تنكشف أمام مثل أولئك الخدم الأجلاف.» وأضافت، بنبرةٍ تنمُّ عن الأناة والحزن كادت أن تُذيب قلب بومانوار نفسه: «سأُطيعك؛ فأنت الأكبر سنًّا بين قومك، ونزولًا على أوامرك سأُظهِر ملامح وجه فتاة ذات مصير تَعِس.»
أزاحت نقابها عن وجهها، ونظرت إليهم بملامح يختلط فيها الخجل بالوقار. أثار جمالها الفائق همهمة اندهاش، ولكن شعور هيج بن سنيل كان عميقًا عندما أحسَّ بأثر رؤية طلعةِ مَن أحسنت إليه. فقال للحراس على باب القاعة: «دعوني أمضِ، دعوني أمضِ! فالنظر إليها مرةً أخرى قد يقتلني؛ لأنني شاركت في قتلها.»
قالت ريبيكا عندما سمعت صياحه: «صه أيها الرجل المسكين؛ فلم تؤذِني بقولك الحقيقة، ولا يُمكنك أن تُساعدني بالشكوى والعويل. أرجوك، اصمت؛ امضِ إلى بيتك وانجُ بنفسك.»
كان الحراس على وشك أن يدفعوا بهيج للخارج شفقةً عليه، ولكنه وعدهم بالصمت، وأُذِن له بأن يبقى. عندئذٍ، نُودي على جنديَّين، كان أحدهما قد رأى ريبيكا تُعالج رجلًا جريحًا، أُحضِر معهم إلى قلعة توركويلستون. قال إنها أتت بإشاراتٍ معيَّنة فوق الجرح، وكرَّرت بعض الكلمات الغامضة، فانفصل الرأس الحديدي لسهم نُشَّاب مربَّع الشكل عن الجرح، وتوقَّف النزيف، والْتأمَ الجرح، وفي غضون ربع الساعة كان الرجل المحتضر يمشي فوق الأسوار، ويُساعد الشاهد في إدارة منجنيق أو آلة لقذف الحجارة. من المحتمل أن هذه الأسطورة قد بُنيت على حقيقة أن ريبيكا كانت ترعى إيفانهو الجريح في قلعة توركويلستون. أخرج الشاهد من جيبه رأس السهم نفسه الذي استُخرج بمعجزة من الجرح طبقًا لقصته. ونظرًا إلى أن وزن الحديد كان أونصةً كاملة فقد أكَّد تمامًا على حكايته، رغم كَوْنها من نسج خياله.
كان رفيقه كذلك شاهدًا من فوق سورٍ مُجاور للمشهد بين ريبيكا وبراين دي بوا جيلبرت، وذلك عندما كانت على وشك أن تُلقي بنفسها من أعلى البرج. وحتى لا يتخلَّف عن رفيقه فقد صرَّح هذا الرجل بأنه رأى ريبيكا جاثمةً على سور البرج، وهناك اتخذت هيئة بَجعة بيضاء كالحليب، وطارت بهذه الهيئة ثلاث مرات حول قلعة توركويلستون، ثم عادت لتستقرَّ فوق البرج، ورجعت مرةً أخرى إلى هيئتها الأنثوية.
كان السيد الأعظم قد أخذ الأصوات، ثم سأل ريبيكا بلهجةٍ رسمية عما لديها من أقوال ردًّا على حُكم إدانتها الذي كان على وشك النطق به.
قالت اليهودية الحسناء بصوتٍ مُرتجف من أثر الانفعال: «أعي أن طلب رحمتك سيكون أمرًا لا طائل منه، كما أنني أعدُّه وضيعًا. ولو ذكرتُ أن علاج المريض والجريح من ديانةٍ أخرى لا يُمكن أن يُغضِب المؤسس المُسلَّم به لعقيدتَينا، لكان ذلك غير مُجدٍ أيضًا! ولو ردَدتُ بأن كثيرًا من الأقوال التي تفوَّه بها هؤلاء الرجال ضدي (الذين أرجو أن تعفو عنهم السماء!) مستحيلة، ما نفعني ذلك في شيء؛ لأنك تؤمن بإمكان حدوثها! كما أنني لن أُدافع عن نفسي على حساب ظالمي، الذي يقف هناك مُستمعًا للحكايات الخيالية والتخمينات التي يبدو أنها تُحول الطاغية إلى ضحية. فليحكم الرب بيني وبينه! ولكني أُفضِّل أن أستسلم للموت عشر مرات على النحو الذي تشي به رغبتكم تجاهي، على أن أستمع لعبارات التودد والغزل التي ألحَّ عليَّ بها رجل الشيطان هذا، وأنا أسيرته بلا صديق أو مُدافع عني، ولكنه على إيمانكم، ومن شأنِ أقلِّ تأكيد يصدُر عنه أن يُبطِل أشد احتجاجات اليهودية المكروبة جديةً؛ ومن ثَم فلن أردَّ له التهمة الموجَّهة ضدي، ولكني سأحتكم له، أجل يا براين دي بوا جيلبرت، سأحتكم لك، عما إذا لم تكن هذه التُّهم باطلة، بل مروِّعة ومفتراة بقدر ما هي قاتلة.»
ساد صمتٌ قصير، وتوجَّهت العيون كلها إلى براين دي بوا جيلبرت الذي كان صامتًا.
قالت: «تكلَّمْ إن كنت رجلًا؛ إن كنت مسيحيًّا، تكلَّمْ! أستحلفك بالرداء الذي ترتديه، وبالاسم الذي ورثته، وبالفروسية التي تتفاخر بها، وبشرف أمك، وبقبر أبيك وعظامه؛ أستحلفك أن تُجيب عما إذا كانت هذه الأشياء صحيحة.»
قال السيد الأعظم: «أجِب عليها يا أخي، إن كان العدو الذي تُصارعه سيُعطيك القوة.»
في الواقع بدا بوا جيلبرت مُضطربًا بفعل عواطفه المُتصارعة التي كادت أن تجعل ملامح وجهه تتشنَّج، وفي النهاية أجاب بصوتٍ مُرتبك وهو ينظر إلى ريبيكا ويقول: «اللفيفة! اللفيفة!»
قال بومانوار: «أجل، هذه شهادة بالفعل! إن ضحية سحرها لا يُمكنه سوى أن يذكُر اللفيفة اللعينة التي لا بد أن الطلاسم المكتوبة فيها هي سبب صمته.»
ولكن ريبيكا فسَّرت الكلمات المُنتزَعة الصادرة عن بوا جيلبرت تفسيرًا آخر، وناظرةً إلى قُصاصة الرَّق الذي كانت لا تزال مُمسكة بها في يدها، قرأت المكتوب عليها بحروفٍ عربية: «اطلبي مُحاربًا نصيرًا!» ثم أتاحت التعليقات المهمهِمة، التي سرَت بين الجمع على الرد الغريب لبوا جيلبرت، الفرصةَ لريبيكا كي تفحص اللفيفة ثم تُمزقها على الفور دون أن يُلاحظها أحد. وعندما توقَّف الهمس تكلَّم السيد الأعظم قائلًا:
«لا يُمكنك يا ريبيكا أن تستخلصي أي نفع من شهادة هذا الفارس التعيس؛ لأنه، كما نعي جيدًا، ما زال العدو ذا سلطان قوي عليه. ألديكِ شيءٌ آخر تُريدين قوله؟»
قالت ريبيكا: «ما زالت لديَّ فرصةٌ واحدة للحياة، حتى بمقتضى قوانينك القاسية. لقد كانت حياتي بائسة، بائسة، على الأقل مؤخرًا، ولكني لن أتخلَّى عن هِبة الرب، بينما يُعطيني وسيلة الدفاع عنها. إنني أُنكر هذه التهمة، وأُصِر على براءتي، وأُعلن بُطلان هذا الاتهام، وأُطالب بامتياز تحديد الحكم عن طريق القتال، وسأظهر ومعي نصيري.»
رد السيد الأعظم: «ومن يا ريبيكا الذي سيُشهِر رمحه دفاعًا عن ساحرة؟ مَن سيكون نصيرَ اليهودية؟»
قالت ريبيكا: «إن الرب سيبعث لي بطلًا؛ فلا يُمكن ألا يوجد في إنجلترا البهيجة والمِضيافة والكريمة والحُرة، حيث الكثيرون مستعِدُّون لتعريض حياتهم للخطر من أجل الشرف، مَن يُقاتل من أجل العدالة، ولكنه يكفيني أن أُطالب بتحديد الحكم عن طريق القتال، وها هو عربون التحدي من جانبي.»
خلعَت قفازها المطرَّز من يدها، ورمت به أمام السيد الأعظم بحركةٍ امتزجت فيها البساطة بالوقار، وأثارت دهشة الجميع وإعجابهم.
قال: «أيتها الفتاة، إن كانت الشفقة التي أشعر بها تجاهك نابعةً من أي أعمالٍ شريرة مارستِها عليَّ فإن إثمك عظيم، ولكني أُفضِّل أن أظنَّها أرَقَّ مشاعر الطبيعة التي يحزنها أن يصير هذا الجسد الجميل وعاءً للهلاك. تُوبي يا ابنتي، واعترفي بأعمال سحرك، وارجعي عن عقيدتكِ الشريرة؛ قَبِّلي هذا الرمز المقدَّس، وكل شأنكِ سيكون على ما يُرام في هذه الحياة وفي الحياة الآخرة. ففي أحد أديرة الراهبات، حيث الأنظمة صارمة، سيكون لديكِ وقت للصلاة والتوبة السليمة التي لن تندمي عليها. فلتفعلي هذا لتعيشي؛ فماذا فعل لكِ ناموس موسى حتى تموتي من أجله؟»
قالت ريبيكا: «لقد كان شريعة آبائي التي نزلت بين رعود وعواصف على جبال سيناء وسط السحاب والنيران.»
قال بومانوار: «فليتقدَّم راعي كنيستنا، ويُخبر هذه الكافرة العنيدة …»
قالت ريبيكا بوداعة: «عذرًا على المقاطَعة؛ فأنا فتاة لا أملك مهارة الجدال في أمرٍ ديني، ولكنني على استعداد لأن أموت من أجله إن كانت هذه هي مشيئة الرب. أرجو أن تُجيبني إلى طلبي بنصيرٍ يُحارب عني.»
قال بومانوار: «أعطوني قفازها. إنه بالفعل رهنٌ ضئيل لغرضٍ مُميت! انظري يا ريبيكا، إن قفازك الهش والخفيف هذا مقارنةً بقفازاتنا الفولاذية الثقيلة هو مِثلك مقارنةً بفارس الهيكل؛ لأنكِ تحدَّيتِ طائفتنا.»
ردَّت ريبيكا: «ضع براءتي في الميزان، وسترجُح كِفة القفاز الحريري على القفاز الحديدي.»
«إذن، فأنت مُصرةٌ على رفضك الاعترافَ بذنبك، وعلى الإقدام على ذلك التحدي الجريء؟»
أجابت ريبيكا: «أُصِر بالفعل، أيها السيد النبيل.»
قال السيد الأعظم: «فليكن الأمر كذلك إذن، باسم السماء، وليُظهر الربُّ الحق!»
أجاب كبار المقار من حوله قائلين: «آمين.» ودوَّت الكلمة بين الجمع بأكمله.