الفصل الثالث

باستقبالٍ قليل الحفاوة، اقترب رجلٌ عجوز ونحيف من الطرف الأدنى للطاولة، وكان يتقدم بخوف وتردُّد، وينحني انحناءً يدل على تواضعٍ شديد. كانت ملامحه حادَّة وعادية، وكان أنفه معقوفًا، وعيناه سوداوَين ثاقبتين، وجبينه مرتفعًا وبه تجاعيد، وكان ذا شعر ولحية رماديَّين طويلين. وكاد يُعَد وسيمًا لولا سِيماءُ وجهه المميزة لعِرق معيَّن كان يكرهه العامة ويضطهده النُّبلاء في تلك العصور المظلِمة. كان يرتدي قبعةً صفراء مرتفعة ومربَّعة ذات طراز غريب، وانتزعها بتواضعٍ شديد عند باب القاعة.

أومأ سيدريك برأسه ببرود ردًّا على تحيات اليهودي المتكرِّرة، وأشار إليه ليتخذ موضعًا في الطرف الأدنى من الطاولة، ومع ذلك لم يُفسح له أحد مكانًا هناك. وبينما كان إيزاك واقفًا على إثر ذلك منبوذًا بين الحضور، كما كان قومه بين الأمم، يبحث عبثًا عن تَرحاب أو مكان ليجلس فيه، تعاطَف معه الحاج الذي كان جالسًا بجوار المدخنة؛ واستغنى له عن مقعدة قائلًا باقتضاب: «أيها العجوز، إن ثوبي قد جف، وجوعي قد سكن، أما أنت فمُبتلٌّ وجائع.» قال ذلك ثم جمَّع الجمرات الخابية المُتبعثرة على الموقد الفسيح ورماها في اللهب، وأخذ من الطاولة الأطول وعاءً من الحِساء ولحم جدي مسلوقًا، ووضعه على الطاولة الصغيرة التي كان قد تناول عشاءه عليها، ومضى إلى الجانب الآخر من القاعة دون انتظار شكر من اليهودي.

انحنى اليهودي بجسده الضامر، ومد يدَيه المُرتجفتين والمُرتعشتين من البرد أمام النار، وعندما تخلَّص من شعوره بالبرد رجع بهمَّة إلى الوعاء الذي ينبعث منه البخار، الذي كان قد وُضِع أمامه، وأكل على عَجل وبتلذُّذٍ واضح يدلَّان على أنه مكث طويلًا دون طعام.

في تلك الأثناء كان رئيس الدير وسيدريك يتبادلان الحديث حول الصيد، وبدَت الليدي روينا مُنخرطةً في محادَثة مع إحدى خادماتها.

قال رئيس الدير مستكملًا حديثه مع سيدريك: «أتعجَّب أيها النبيل سيدريك أنه على قدر عِظَم ولَعك بلُغتك التي تتَّسم بالرجولة، فإن الفرنسية النورماندية لا تلقى لديك قَبولًا، على الأقل فيما يخصُّ شئون الغابات والصيد.»

قال الساكسوني: «أيها الأب الطيب آيمر، فلتعلم أنني لا أهتمُّ بتلك المصطلحات الأجنبية، التي لا أحتاج إليها كي أستمتع بالغابات.»

قال الفارس، رافعًا صوته بنبرةٍ وقحة ومُتسلطة اعتاد استخدامها في جميع المناسبات: «إن الفرنسية ليست فقط اللغةَ المُعتادة للمطارَدة، ولكنها أيضًا لغة الحب والحرب، التي تُمتلك بها قلوب النساء، ويُغلَب بها الأعداء.»

قال سيدريك: «فلتشرب معي أيها الفارس كأس نبيذ، ولتملأ كأسًا أخرى لرئيس الدير بينما أعود بذاكرتي ثلاثين عامًا لأُخبرك بحكايةٍ أخرى. لم تكن حكاية سيدريك الساكسوني بإنجليزيته السهلة في تلك الأيام بحاجة إلى أي زخرف من القول من أي شاعر مُتجول فرنسي وهي تُلقى على آذان الحسناوات. أيها الساقي! يا ولد، املأ الأقداح لنشرب أيها السيد فارس الهيكل نخبَ الأقوياء الذين حملوا السلاح، من أي عِرق أو لغة كانوا، الواقفين الآن ببسالة في فلسطين بين أبطال الصليب!»

قال السيد براين دي بوا جيلبرت: «لا يجدر بشخصٍ يرتدي هذه الشارة أن يُجيب، ولكن إلى مَن يُمنَح إكليل الغار من بين أبطال الصليب، بخلاف أبطال الهيكل المقدس المتَّخِذين عهدًا على أنفسهم؟»

قالت الليدي روينا: «ألا يوجد إذنْ في الجيش الإنجليزي من يستحقُّون أن تُذكَر أسماؤهم مع فُرسان الهيكل وفُرسان القديس جون؟»

أجاب دي بوا جيلبرت قائلًا: «معذرةً يا سيدتي؛ فالعاهل الإنجليزي جلب بالفعل لفلسطين زمرةً من المُحاربين البُسلاء، الذين لا يفوقهم سوى هؤلاء الذين كانت صدورهم دائمًا دروعًا واقية لتلك الأرض المبارَكة.»

قال الحاج، الذي كان واقفًا قريبًا بما يكفي لأن يستمع إلى حديثهم، وقد استمع لهذه المحادثة بنفاد صبر جلي: «لا يفوقهم أحد.» فالتفت الجميع نحو المكان الذي صدر منه هذا الإقرار غير المتوقَّع، وكرَّر الحاج بصوتٍ حازم وقوي: «أقول إن الفُرسان الإنجليز لا يفوقهم أحدٌ مِن بين مَن حملوا يومًا سيفًا دفاعًا عن الأرض المقدَّسة. وأضيف، لأنني رأيتُ بأم عيني، أن الملك ريتشارد بنفسه ومعه خمسةٌ من فُرسانه قد أقاموا مباراةً فروسية بعد الاستيلاء على سانت جون داكر، وتحدَّوا فيها كل المتقدِّمين. وأشهد أنه في ذلك اليوم خاض كلُّ فارس ثلاث جولات، وطرح أرضًا ثلاثةَ خصوم. وأُضيفُ أن سبعةً من هؤلاء المهاجِمين كانوا من فُرسان الهيكل؛ ويعلم السيد براين دي بوا جيلبرت جيدًا صِدق ما أقوله لكم.»

قال سيدريك: «سأُعطيك هذا السِّوار الذهبي أيها الحاج إن استطعت أن تُخبرني بأسماء أولئك الفُرسان الذين رفعوا ببسالةٍ منقطعة النظير اسمَ إنجلترا الجميلة.»

رد الحاج: «سأفعل ذلك بسرور، ودون مكافأة؛ فقسَمي يُحرِّم عليَّ، إلى حين، أن أمَس الذهب. الأول في الشرف كما في حمل السلاح، وفي الشهرة وفي قدره على حدٍّ سواء، كان ريتشارد الشجاع، ملك إنجلترا.»

قال سيدريك: «أسامحه، وأغفر له انحداره من نسل الطاغية الدوق «وليام».»

تابَع الحاج قائلًا: «الثاني كان إيرل ليستر، والثالث كان السيد توماس مولتون أوف جيلسلاند.»

قال سيدريك مُهللًا: «إنه على الأقل من أصلٍ ساكسوني.»

واصَل الحاج: «والرابع هو السيد فولك دويلي.»

تابَع سيدريك: «ساكسوني أيضًا، على الأقل من ناحية الأم. ومَن كان الخامس؟»

«الخامس كان السيد إدوين تورنهارا.»

صاح سيدريك: «ساكسونيٌّ أصيل، وبه روحُ هينجست!» وتابَع بتلهُّف: «وماذا عن السادس؟ ما اسم السادس؟»

قال الحاج بعد أن توقَّف قليلًا وبدا أنه يستجمع ذاكرته: «كان السادس فارسًا شابًّا أقلَّ شهرةً وأدنى منزلة، ولم يكن انضمامه إلى تلك الصحبة المبجَّلة بهدف مساعدتهم في مغامرتهم بقدر ما كان لاستكمال عددهم، أما اسمه فيغيب عن ذاكرتي.»

قال السيد براين دي بوا جيلبرت بسخرية: «أيها السيد الحاج، هذا النسيان المزعوم، بعد كل ما تذكَّرته، جاء بعد فوات الأوان، ولن يخدم غرضك. سأُخبرك بنفسي باسم الفارس الذي تسبَّب حظُّه وخطأ جوادي في سقوطي أمام رمحه. لقد كان الفارس إيفانهو، ولم يكن أيٌّ من الستة، بالنظر إلى عمره، أكثرَ شهرة منه في استخدام السلاح، ولكني سأقول، وبمِلء فمي، إنه لو كان في إنجلترا وجرُؤ، في مباراة هذا الأسبوع، على تَكرار التحدي الذي حدث في سانت جون داكر، فسأعطيه، وأنا على صَهوة جوادي وحاملًا سلاحي كما أنا الآن، كلَّ أفضلية في اختيار سلاحه، وسأتحمَّل نتيجة ذلك.»

ردَّ الحاج: «كان تحدِّيك سيلقى استجابةً عاجلة لو كان خَصمك بجوارك. وما دام الأمر كما هو عليه فلا تُعكِّر صفو هذه القاعة بتبجُّحك في مسألة الصراع الذي تعرف تمام المعرفة أنه لن يقع. إن رجع إيفانهو يومًا من فلسطين فأنا ضامنُه في أنه سيُلاقيك.»

قال فارس الهيكل: «يا لها من ضمانة! وماذا تُقدِّم رهنًا على ذلك؟»

قال الحاج وهو يُخرج من جيب صدره صندوقًا من العاج ويرشم الصليب على نفسه: «هذا الأثر المقدَّس، الذي يحتوي على جزءٍ من الصليب الحقيقي، جُلِب من دير جبل الكرمل.»

دون أن يرفع قلنسوته أو يُظهِر أيَّ تبجيل للقداسة المزعومة للأثر، انتزع الفارسُ من عنقه سلسلةً ذهبية ورماها على الطاولة، قائلًا: «ليحتفِظْ رئيس الدير آيمر برهينتي وبرهينة هذا المُتجول المجهول الاسم؛ دليلًا على أنه عندما يأتي الفارس إيفانهو ويُصبح داخل حدود بحار بريطانيا الأربعة، فإنه سيخضع لتحدِّي براين دي بوا جيلبرت، وإن رفض التحدي فسأعلن أنه جبان على جدران جميع أديرة الهيكل في أوروبا.»

قالت الليدي روينا قاطعةً صمتها: «لن تكون ثَمة حاجةٌ إلى ذلك؛ فسأعلو بصوتي، إن لم يرفع أحدٌ غيري في هذه القاعة صوته نيابةً عن إيفانهو الغائب. أؤكِّد أنه سيَقبل كل تحدٍّ مبجَّل بنزاهة. إن كان تعهُّدي الضعيف سيُضيف ضمانًا لرهن الحاج المقدَّس الذي لا يُقدَّر بثمن، فإنني أتعهَّد باسمي وسمعتي أن إيفانهو سيُواجه هذا الفارس المُختال المواجهةَ التي يبغيها.»

حينئذٍ كانت كأس النعمة تُدار على الضيوف، الذين — بعد انحناءات عميقة للمالك والليدي روينا — نهضوا مُختلطين بعضهم ببعض في القاعة، بينما انصرف رأسا العائلة مع خدمهما من بابَين منفصلَين.

قال فارس الهيكل لإيزاك اليهودي عندما مرَّ عليه بين الحشد: «أيها الكلب الكافر، ألن تمرَّ في طريقك على المباراة؟»

ردَّ إيزاك وهو مُنحنٍ في مذلةٍ شديدة: «أنوي ذلك بالفعل، إن سمحَت بَسالتكم المبجَّلة.»

قال الفارس: «أجل؛ كي تنهش أحشاء نُبلائنا بالرِّبا، وتخدع النساء والصِّبيان بالزينة والألعاب. أراهن على أن معك مخزونًا من الشيكلات في كيس نقودك اليهودي.»

قال اليهودي شابكًا يدَيه: «ليس معي شيكلٌ واحد أو بنسٌ فِضي أو نصفُ بنس. ليكن إله إبراهيم في عوني! فلن أذهب إلا طالبًا للمساعدة من بعض إخوتي من بني جنسي ليُعاونوني على دفع الغرامة التي فرضها عليَّ بيت مال اليهود. ساعدني يا أبانا يعقوب! أنا صعلوكٌ فقير.»

ابتسم فارس الهيكل ابتسامةً مريرة وهو يردُّ عليه قائلًا: «اللعنة عليك أيها الكاذب المُنافق!» ثم مضى في طريقه كما لو كان يترفَّع عن الاستمرار في الحديث معه، وأخذ يتحدث مع عبيده المسلمين بلغةٍ غير معروفة للمُحيطين بهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤