الفصل الرابع

بينما كان الحاج يسير، ومعه خادم يُضيء له المكان بمشعل، عبر التركيبة المعقَّدة لغُرَف هذا المنزل الكبير غير العادي، قابَل وصيفة روينا التي كانت في انتظاره، والتي قالت له إن سيدتها ترغب في الحديث معه، وأخذت المشعل من يد آنولد وطلبت منه أن ينتظرها حتى تعود، مُشيرةً إلى الحاج أن يتبعها. قادَه ممرٌّ قصير إلى غرفة الليدي روينا؛ حيث كانت الجدران مغطَّاة بمعلَّقاتٍ مطرَّزة، وكان السرير مُحلًّى بنسيجٍ مُزْدان بالرسوم والصور، ومُحاطٍ بستائرَ مصبوغة باللون الأرجواني. كانت المقاعد كذلك مغطَّاة بأقمشةٍ مصبوغة، وكان أحدها الذي كان أعلى من البقية معَدًّا للراحة بمسند قدمَين من العاج المنقوش بإبداع.

كانت الليدي روينا جالسةً على هذا المقعد الذي يُشبِه العرش، وثلاث من خادماتها واقفاتٌ خلفها يُصفِّفن شعرها قبل أن ترقد لتستريح. أعرب الحاج عن إجلاله لها بأن جثا على ركبتَيه.

قالت بلطف: «انهض أيها الحاج؛ فالمُدافع عن الغائب له الحق في أن ينال استقبالًا مميزًا من جميع من يُقدرون الحق والشهامة الشريفة.» ثم قالت لتابعاتها: «انسحبن، عدا إلجيثا! فأنا أودُّ التحدث إلى هذا الحاج التقي.»

تراجعت الخادمات إلى طرف الغرفة الأبعد دون أن يُغادرنها.

قالت السيدة بعد توقف للحظة: «أيها الحاج، ذكرت هذه الليلة اسمًا، أعني اسم إيفانهو، في قاعات من المفترض بطبيعة الحال وبحكم القرابة أن يلقى فيها كلَّ قَبول، ولكن من سخرية القدر أنه من بين كثيرين ممن كان لا بد أن تَخفق قلوبهم لاسمه، لا يجرؤ أحد، سواي، على سؤالك أين، وفي أي حال، تركت من تحدَّثت عنه؟»

رد الحاج بصوتٍ مُضطرب: «لا أعلم سوى القليل عن الفارس إيفانهو. تمنَّيت لو عرَفته أكثرَ بما أنك يا سيدتي مهتمَّة بمصيره. أعتقد أنه تغلَّب على ظلم أعدائه في فلسطين، وهو على وشك العودة إلى إنجلترا، حيث، كما لا بد أنكِ تعلمين يا سيدتي، أي فرصة في السعادة تنتظره هنا.»

قالت الليدي روينا: «أدعو الله أن يصل إلى هنا سالمًا، وقادرًا على حمل السلاح في المباراة التي على وشك أن تُقام؛ فلو حصل أثيلستان أوف كوننجزبيرج على الجائزة فمن المحتمل أن يسمع إيفانهو أخبارًا سيئة عندما يصل إلى إنجلترا. كيف كان حاله، أيها الغريب، عندما رأيتَه آخر مرة؟ هل نال المرضُ بشدة من قوَّته ووسامته؟»

قال الحاج: «كان أشدَّ سُمرةً ونحافةً مما كان عليه عندما أتى من قبرص، وبدا أن الهمَّ يُثقِل كاهله، ولكني لم أدنُ منه لأنني لا أعرفه.»

figure
روينا والحاج، بريشة أدولف لالوز.

قالت السيدة: «أخشى ألا يجد إلا قلة في وطنه ممن يُبدِّدون سُحُب أحزانه. شكرًا لك، أيها الحاج الطيب، على معلوماتك فيما يخص رفيق طفولتي.» ثم قالت: «أيتها الخادمات، اقترِبْن وقدِّمْن كأس ما قبل النوم لهذا الرجل التقي الذي لن أَحول أكثر من ذلك بينه وبين أن ينال قسطًا من الراحة.»

أحضرَت إحدى الخادمات كأس ما قبل النوم، التي تحتوي على خليطٍ غني من النبيذ والبهارات، والتي وضعتها روينا بالكاد على شفتَيها، ثم قدَّمتها للحاج الذي، بعد أن انحنى احترامًا، ذاق منها بِضع قطرات.

استأنفت السيدة حديثها وهي تُقدم له قطعة من الذهب قائلةً: «اقبل هذا العطاء يا صديقي؛ عرفانًا بالمصاعب الشِّداد التي لاقيتَها وبالأماكن المقدَّسة التي زُرْتها.»

تلقَّى الحاج العطية بانحناءةٍ أخرى وتبع إلجيثا إلى خارج الغرفة. أرشده آنولد إلى جزءٍ وضيع من المبنى، حيث عددٌ من الغُرف الصغيرة، أو بالأحرى الصوامع، المعَدة لمبيت الخدم الأدنى شأنًا والغرباء من ذوي المراتب الدنيا.

قال الحاج: «في أيٍّ من هذه ينام اليهودي؟»

أجاب آنولد: «إن وِجار الكلب الكافر في الصومعة المُجاورة لقداستك. بحق القديس دونستان، كم ستحتاج إلى حكِّها وتنظيفها كي تعود صالحةً لمبيت مسيحي؟!»

قال الغريب: «وأين ينام جيرث مُربي الخنازير؟»

رد العبد: «جيرث ينام في الصومعة عن يمينك؛ إذ إن اليهودي في تلك التي عن يسارك.»

ألقى الحاج بجسده على الأريكة الخشنة بعد أن أخمد مشعله، ونام حتى وجد أولُ شعاع من أشعة الشمس طريقَه عبر النافذة الصغيرة ذات القضبان؛ عندئذٍ انتفض مُستيقظًا. وبعد أن أدَّى صلواتِ الصباح وهندَمَ ثوبه، غادَر الصومعة، ودخل صومعة إيزاك اليهودي، رافعًا المزلاق بهدوء.

كان النزيل مُستلقيًا في نومٍ قلق على أريكة، وكانت يداه وذراعاه تتحرك بارتعاش كما لو كان يُجاهد كوابيسه، وسُمِعت هذه الهتافات بوضوح: «لأجل إله إبراهيم، اصفح عن رجلٍ مُسنٍّ تعيس! أنا فقير، أنا معدم. وإن مزَّقت أسلحتكم أطرافي إربًا إربًا فلن أستطيع أن أُرضيَكم!»

لم ينتظر الحاج حتى ينتهي اليهودي من رؤياه، وإنما هزَّه بعصا الحج التي كان يحملها. انتفض الرجل العجوز مُستيقظًا وثبَّت على الحاج عينَيه السوداوين الحادَّتين، اللتين كانتا تُفصِحان عن مفاجأةٍ عارمة وخشية.

قال الحاج: «لا تخشَ شيئًا مني يا إيزاك؛ فقد أتيتك صديقًا.»

قال اليهودي: «ليُجازِك إلهُ إسرائيل. لقد حلمت، ولكن ليتمجَّد أبونا إبراهيم، لم يكن سوى حلم! وما نفعك من يهوديٍّ بائس في مثل هذه الساعة المُبكرة؟»

قال الحاج: «جئت لأقول لك إنه إن لم تُغادر هذا المنزل على الفور وترحل على عجل، فقد تكون رحلتك محفوفة بالمخاطر.»

قال اليهودي: «يا أبانا المقدَّس! من ذا الذي يهتمُّ بتعريض حياة فقير بائس مثلي للخطر؟»

قال الحاج: «يُمكنك تخمين الغرض أكثر مني، ولكن ثِق فيما أقول؛ فعندما عبر فارس الهيكل القاعة ليلة البارحة تحدَّث مع عبدَيه المسلمين باللغة العربية، التي أفهمها جيدًا، وكلَّفهما هذا الصباحَ أن يترقَّبا رحيل اليهودي، وأن يُمسكا به عندما يكون على مبعدة من المنزل، وأن يقتاداه إلى قلعة ريجينالد فرونت دي بوف.»

من المستحيل وصفُ شدة الرعب الذي كان قد أطبق على اليهودي لدى سماعه لهذه المعلومة؛ حيث بدا أنه قد سيطر على الفور على جميع قدراته.

وقال: «أيها الإله المقدَّس، إله إبراهيم! يا موسى المقدَّس! يا هارون المبارَك! لا يحلم المرء الحلم عبثًا، ولا تأتي الرؤيا عبثًا؛ فأنا أشعر بالفعل بأسلحتهم تُمزِّق أوصالي! أشعر بالمُخلِّعة تمرُّ فوق جسدي!»

قال الحاج: «قِف يا إيزاك، وأنصِتْ لي. لرعبك ما يُسوغه، ولكني أقول لك قِف، وسأدلُّك على وسيلة الهرب. غادِرْ هذا المنزل في الحال. سأُرشدك عبر المسارات السرية للغابة، التي أعرفها كما يعرفها أيضًا أيُّ حَراجي يتجول فيها، ولن أتركك حتى تُصبح في مأمن لدى شخص من الأعيان أو بارون ذاهب إلى المباراة، وربما يكون لديك وسيلة لنيل عطفه.»

عندما سمع إيزاك الجزءَ الأخير من الجملة، بدا خوفه الغريزي يتجدد بكامل قوَّته، وتبدَّى مرةً أخرى على وجهه وهو يصيح بدهشة: «لديَّ وسيلة لنيل عطفه! وا حسرتاه! فليس ثَمة سوى طريق واحد لنيل عطف مسيحي، ولكن كيف ليهودي فقير أن يجده، وقد استنزفه اغتصابُ أمواله فأصبح في بؤس أليعازر؟ حبًّا في الرب، أيها الشاب، لا تخدعني. من أجل الآب الأعظم الذي خلَقنا جميعًا، يهودًا وغير يهود، إسرائيليين وإسماعيليين، لا تخُنِّي! ليس لديَّ وسيلة لنَيل رضا شحَّاذ مسيحي، ولو كان ذلك ببنسٍ واحد.»

قال الحاج: «لو كنت محمَّلًا بجميع ثروة قومك، فما الذي سأجنيه من إلحاق الضرر بك؟ لقد نذرت نفسي للفقر في هذا الثوب، ولا يحقُّ لي أن أُغيِّره بأي حال إلا لو كان ذلك بجواد ودرع من زَرَد. فلتبقَ هنا إن شئت، وقد يحميك سيدريك الساكسوني.»

قال اليهودي: «وا أسفاه! لن يتركني أسافر مع أتباعه؛ فسيخجل الساكسونيون أو النورمانديون على حدٍّ سواء من صحبة إسرائيلي مسكين، وسيتركونني أسافر وحدي عبر أملاك ريجينالد فرونت دي بوف. أيها الشاب الصالح، سأذهب معك! لنُسرع! لنُعِدَّ العدة! ولنفرَّ! ها هي عصاك، فلِمَ تتلكَّأ؟»

قال الحاج: «لا أتلكَّأ، ولكن يجب عليَّ تأمينُ وسيلة مغادَرة هذا المكان. اتبعني.»

قاد الطريق إلى الصومعة المجاوِرة، التي كان فيها جيرث مُربي الخنازير، وقال: «انهض يا جيرث. انهض سريعًا. افتح البوَّابة الخلفية، واجعلني أخرج أنا واليهودي.»

قال جيرث: «اليهودي يترك روثيروود. يجب أن ينتظر كل من كان يهوديًّا أو غير يهودي حتى تُفتَح البوَّابة الكبيرة؛ فلا ندع الزُّوار يُغادرون متسلِّلين في هذه الساعات غير المناسبة.»

قال الحاج بنبرةٍ آمرة: «ولكني لا أعتقد أنك سترفض لي ذلك الطلب.»

قال ذلك وانحنى على سرير مُربي الخنازير المُضطجع وهمس بشيء في أذنه باللهجة الساكسونية. هبَّ جيرث واقفًا كما لو كان قد تكهرب، وأضاف الحاج قائلًا: «احترِسْ يا جيرث، يجب أن تكون حريصًا. أقول لك افتح البوَّابة الخلفية، وستعرف المزيد قريبًا.»

أطاعه جيرث بخفة وسرعة، وتبعهما اليهودي مُتعجبًا من التغير المُفاجئ في سلوك مُربي الخنازير.

بمجرد خروجهم من البوَّابة الخلفية قال اليهودي: «بَغْلتي! بَغْلتي!»

قال الحاج: «اجلب له بَغْلته، واسمع، اجلب لي واحدةً أخرى؛ كي أتحمَّل رفقته حتى يتجاوز هذه الأنحاء. وسأرجعها لك سالمةً مع أحد مواكب سيدريك في آشبي. أما أنت …» وهمس بالباقي في أذن جيرث.

قال جيرث: «سأفعل، سأفعل عن طِيب خاطر.» ثم غادَر على الفور ليُنفذ مهمته.

وسرعان ما ظهر على الجانب الآخر من الخندق المائي ومعه بغلتان؛ فعبَر المسافران الخندق فوق جسر مُتحرك، وسرعان ما وصلا إلى البغلتَين. ثبَّت اليهودي بعد ذلك، بسرعة وبيدين ترتجفان، خلف السرج حقيبةً صغيرة من قماش البَقْرم الأزرق كان قد أخرجها من تحت عباءته، وكانت تحتوي — كما غمغمَ قائلًا: «على ملابس للتغيير، فقط ملابس للتغيير.» ثم امتطى البهيمة بخفة، ولم يُضِع وقتًا في تسوية حواف سترته الطويلة لتحجب الحمولة التي كانت معه تمامًا عن الأنظار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤