الفصل الرابع والعشرون

الإنكليز والعرب

عندما انضمَّت الدولة العثمانية إلى الدول الوسطى في الحرب العظمى شرع الإنكليز يفاوضون أمراء العرب ليُدخلوهم في تلك الحرب مع الأحلاف؛ أو ليضمنوا في الأقل حيادَهم. وقد كانت المفاوضات مستمرة في سنة ١٩١٥ بين عدن وجيزان وبين القاهرة ومكة، وبين أبي شهر والرياض، والغرض الأكبر فيها هو محاربة الترك في شبه الجزيرة وصدُّهم عن تأليف كتلة عربية يقفون بها في وجه بريطانية العظمى هناك فيقطعون عليها طريق الهند.

وقد كان السيد محمد الإدريسي أول مَن لبَّى الدعوة فحالف الإنكليز في أبريل من سنة ١٩١٦ وحمل على الترك في عسير، ثم ابن السعود فعقد وإياهم معاهدة بعد ستة أشهر؛ أي في ديسمبر ثم الشريف حسين الذي اتفق وعميد بريطانية العظمى في القاهرة على البنود الخمسة المشهورة١ وذلك بعد شهر من تاريخ المعاهدة وابن سعود؛ أي في ربيع أول ١٣٣٤ /يناير ١٩١٦.

ليس من غرضنا النظر في هذه المعاهدات التي أمستْ كلها في خبر كان، ولكننا نسأل القارئ — لقصد فيما نحن بصدده — أن يذكر هذه التواريخ، ويذكر خصوصًا أن الاتفاق مع الشريف حسين لم يتمَّ إلَّا بعد الاتفاق مع الأميرَين الآخرَين.

عندما علم ابن السعود بوفاة الشيخ مبارك، وتولِّي ابنِه جابر الحكمَ في الكويت، عدل عن مهاجمة العجمان وكتب إلى الشيخ جابر يُعزِّيه بأبيه، وينصح له أَلَّا ينهج على منواله في السياسة. وبينا هو هناك؛ أي في الطريق إلى الكويت، جاء رسول من الممثِّل البريطاني في خليج فارس، السر برسي كوكس Sir Percy Cox يرجوه أن يُوافيَه إلى القطيف للمفاوضة في أمور هامَّة، فتوجَّه عبد العزيز إلى تلك الناحية واجتمع بالسرِّ برسي في جزيرة دارين هناك.

وكان همُّ بريطانية يومئذٍ أن تُخرِج الترك من العراق وسورية بل من البلاد العربية وتؤمِّن لبواخرها وجنودها الخليج والبحر الأحمر. فاتخذت لتحقيق هذا الغرض طرائق شتَّى، منها محالفة أمراء العرب وإمدادهم بالمال والسلاح على العدوِّ.

سأل السر برسي كوكس ابن سعود عما يستطيع أن يؤدِّيَه من المساعدة للأحلاف، فأجابه: «إني أساعدهم بأمرين، أعاهدهم أولًا ألَّا يجيئَهم ضررٌ منِّي ما دامت المعاهدة بيني وبينهم مرعيَّة الجانب، وأعاهدهم ثانيًا ألَّا أنضمَّ إلى حلْفٍ عربيٍّ ضدهم. وإني أؤكد لكم أنَّ العرب لا يجتمعون عليكم إذا لم أكن أنا معهم. إني أحب أن يجتمع أمرنا على مساعدة الأحلاف، نعم وسأكتب إلى الشريف حسين بهذا الخصوص إذا أحببتم.» ولكن ذاك الأمر لم يتمَّ كما سنرى، فظلَّ لذلك موقف ابن سعود موقفًا سلبيًّا.

ومن المسائل التي كانت حكومة بريطانية العظمى تريد أن تستطلع رأيَ أمراء العرب فيها مسألة الخلافة، فتكلَّم السر برسي عن انتقال الخلافة إلى العرب، واتخذ المجاملة سبيلًا إلى غرضه، فعرض المنصب على ابن سعود قائلًا: «إن حكومة جلالة الملك تستحسن ذلك وتساعد في تحقيقه.»

لم يخفَ على عبد العزيز قصدُ المعتمد، فقال: «لا ذوق لي بالخلافة، وإني لا أرى مَن هو أجدر بها من الشريف حسين.»

اطمأن بال الوكيل المحترم، وارتاحت الوزارة الخارجية إلى الخبر الذي مكَّنها من إطلاق يد المعتمد في مصر. فكانت الخلافة الطُّعْم الألذ في الصنارة التي رماها على شاطئ جدة، فالتقفها الشريف حسين وكان عظيمًا في الأرض؛ مليكًا في مكة، خليفةً في عمان، أسيرًا في قبرص! وكان ابن سعود في الأرض حكيمًا.

أمَا وقد وثبْنا وثبةً في هذا الفصل لا تجوز في اصطلاح المؤرِّخين، فلا بأس بوثبةٍ أخرى ما زلنا في أمر الحسين. كلنا نذكر أنه شرع يتكلَّم باسم العرب، بعد أن أبرم ذاك الاتفاق والمعتمد البريطاني في القاهرة، ويدَّعي أنه زعيمهم الأكبر، ثم جاء يوم التتويج أو بالحري المبايعة فهلَّلت جريدة القبلة وازدهت أعمدتها باللقب الجديد: صاحب الجلالة العظمى ملك العرب.

ليأذن القارئ أن نقف مرةً أخرى مستطردين. ليس الذنب في تفريق كلمة العرب ذنب الإنكليز وحدهم كما يظنُّ الناس، وهاكم الحقيقة كلَّها.

يجيئهم أحد الأمراء مُدَّعيًا أنه سيِّد العرب أجمعين، وأنهم كلهم أطوع له من بنانه، فيسبرون الإنكليز غوره ويتحققون صدْق كلامه أو كذبه؛ ولكنهم يوالونه لأنه على شيء من القوة.

ثم يجيئهم الآخر ودعواه أكبر من دعوى مَن تقدَّمه أو مثلها، وكذلك الآخرون، فيضطر الإنكليز أن يحدِّدوا قوَّة الواحد إكرامًا للآخر، فتكون النتيجة التقسيم والتفريق.

عندما طفقت جريدة القبلة تهلِّل لملك العرب، وتهتف للمنقذ الأكبر، استبشر غلاةُ القومية، وزعماء النهضة العربية، فردَّدوا الهتاف ولسان حالهم يقول: هو ذا الزعيم الأكبر، هو ذا المنقذ الأعظم!

على أنه ما كادوا يفرحون حتى جاءتهم الأخبار أن دول الأحلاف اعترفت بالحسين ملكًا على الحجاز — الحجاز فقط. فقالوا إذ ذاك: «هي ذي أوروبة عدوة النهضة، بل هي ذي إنكلترة تفرِّقنا لِتَسُودنا.»

والحقيقة هي أن ابن سعود في مفاوضاته والسر برسي كوكس بخصوص المعاهدة اشترط ألَّا يتكلم الشريف باسم العرب ويدَّعي أنه ملك العرب، فقُبِل الشرط حبًّا وكرامة، وكان الاعتراف بالحسين ملك الحجاز — الحجاز فقط.

أما وقد برَّأنا من هذا القبيل ذمَّة بريطانية العظمى، فيجب علينا، من أجل التاريخ أيضًا، أن نسجِّل عليها فَعْلَتها الكبرى في إبرام ذاك الاتفاق مع الحسين، وقد وهبَتْه فيه البلاد العربية كلها ما عدا عدن والبصرة.

لا نظنُّ القارئ نسيَ التواريخ التي سألناه أن يذكرها في مطلع هذا الفصل، أو أنه يذكر في الأقل أن الاتفاق الإنكليزي الحجازي أُبرِم بعد عقد المعاهدتَين العربيتَين في جيزان ودارين. وقد اعترفت الحكومة البريطانية فيهما بسيادة الأميرين السيد محمد الإدريسي والإمام عبد العزيز آل سعود، كلٌّ في بلاده، وبسيادة مَن يتولَّى الحكم بعدهما من بيتهما، ثم ضمَّنت حدود البلادين، وتعهدت بالدفاع عنهما إذا اعتُدي عليهما، ثم بعد هذه الضمانات كلها أدخلت البلادَين — بلادَي نجد وعسير — في دولة عربية يرأَسها الملك حسين!

figure
الملك عبد العزيز وإلى يساره المؤلف أمام الطيارة بجدة.

لا حاجة إلى القول إن تلك المفاوضات كانت سرية؛ إذ لولا ذلك لما تمكَّنت من الخداع، أو لما كانت هي خادعة نفسها. فإما أن وكلاءَها السياسيين ومعتمديها كانوا جاهلين بعضهم أعمال بعض، فكانت هي المخدوعة، وإما أنها لم تهتمَّ يومئذٍ لغير مصلحتها — الوقتية المحلية — فخدعت من أجلها الجميع.

وكان ابن سعود أثناء الحرب من المخدوعين، ولكنه وهو الحكيم الذي لا يطمح إلى غير ما يستطيع تحقيقه في زمن معلوم، عقد تلك المعاهدة التي استمرت مرعيَّة سبع سنوات؛ أي من بداية سنة ١٩١٦ إلى بداية سنة ١٩٢٣.

بعد عقد معاهدة دارين توسَّط السر بوسي كوكس بين ابن سعود وابن الصباح في مسألة العجمان، فقَبِل عبد العزيز أن يُوقِف حركاته الحربية على شريطة أن يطرد صاحبُ الكويت العجمانَ من بلاده. وقد عمل الشيخ جابر بنصيحة السر برسي فأجاب طلب ابن سعود.

أما «العرائف» الذين أغراهم الأعداء بنسيبهم الكبير، فقد أدركوا أن أخوالهم العجمان٢ لم يناصروهم إلا لمآربَ خصوصية ولمطامع سياسيَّة لهم في الأحساء، وأدركوا كذلك أن ابن الرشيد والشريف حسينًا في مساعداتهما لهم إنما هم كالعجمان، ولكنَّ مطامعَهما السياسية أكبرُ وعداءَهما أشد؛ لذلك عادوا تائِبين إلى عبد العزيز، وهم اليوم كلهم — سبعة بيوتات — مقيمون في الرياض.
١  ذكرت في «ملوك العرب» الجزء الأول، صفحتَي ٦٠ و٦١.
٢  أول مَن تزوج من العجمان جدُّهم سعود بن فيصل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤