الفصل التاسع والعشرون

صلح صغير

بعد أن نُكِب الملك حسين في تربة فخسر جيشه بأجمعه، فتح لابن الرشيد الشاب قلبه وخزنته، ومستودع الذخيرة والسلاح في المدينة، فعزَّزت جريدة القبلة أقوال الديوان الهاشمي: عدوُّك عدونا يا ابني، بل عدو العرب والإسلام. وهذا السلاح منَّا للحرب، وهذا المال. أما الرجال فعندك شمر وفيها الأشبال.

figure
الملك حسين والبلاد العربية صورة رمزية نُشِرت في أَوْج العهد الهاشمي في الحجاز.

وكان سعود بن عبد العزيز الرشيد قد عقَد وعبد العزيز بن سعود، بعد المناوشات الأخيرة قُرْب حائل في الشهر السابق لهدنة الحرب العظمى، صلحًا سمَّيناه صغيرًا. والأمير سعود هذا هو الذي فرَّ به خاله ابن السبهان إلى المدينة عندما قتل أولادُ عبيد إخوتَه الثلاثة. الحجازُ أَوَاهُ صغيرًا، والحجاز يمدُّه كبيرًا بالسلاح والمال لمحاربة صاحب نجد.

وقد كان سعود بن عبد العزيز مثل اسمه عكس خصمه عبد العزيز سعود، عكسه في أصالة الرأي وبُعْد النظر. فلما جاءه من جلالة الحسين السلاح والمال، وجميل الأقوال، قبل في الحال.

أما ابن سعود عبد العزيز فكان قد أدخل خلال الحرب العظمى إسفين التوحيد في شمر فشقَّها قسمين. وعندما باشره ابن الرشيد العداء كتب إلى رؤساء تلك القبيلة كلهم، الأصدقاء والمتذبذبين والأعداء، يُنذرهم ويقول: «مَن كان معنا فليقْدُم إلينا، ومَن كان مع ابن الرشيد فليرحل إليه.» فكان الجواب من أكثر المقدَّمين أنهم مقيمون على ولائه وسوف لا يلبون دعوة ابن الرشيد.

فلما أدرك الأمير سعود أن قبائل شمر ليست معه يدًا واحدة أرسل إلى عبد العزيز وفدًا يقول إنه قد تسرَّع، وإنه آسف على ما بدا منه، بل إنه راغب في تجديد الولاء، فجُدِّد عهد الصلح (١٣٣٨ﻫ / ١٩١٩ و١٩٢٠م) بالرغم عن اعتراض أهل نجد، ولكنه لم يَدُم منذ ذاك الحين عامًا كاملًا، ولم يكن ابن سعود المعجِّل في نقضه كما تدلُّ على ذلك حوادث هذا العام. قد كانت السيادة في الجوف يومئذٍ للأمير نوري الشعلان، فأثارت بعض أعماله الأهالي عليه، فحاربوه وأرسلوا يستنجدون ابن الرشيد.

أنجدهم ابن الرشيد حبًّا وكرامة، وهو مسرور بعذر يقدِّمه للملك الحسين، كأنه يقول: «اضطرتنا فتنةُ الجوف إلى تأجيل الحملة على ابن سعود.» ومسرور بفرصة سانحة للاستيلاء على تلك الناحية.

مشى سعود برجاله إلى الجوف، فاصطدم هناك بقوات لنوري يقودها ابنُه نواف وعودي أبو تايه فنازلوه وغلبوه، فأرسل يستنجد شمر فلم يلبِّه في بادئ الأمر رؤساؤها خوفَ بعضهم من ابن سعود، ومحافظةً من الآخرين على عهد الولاء وإياه. على أنهم أرسلوا إليه يستشيرونه في الأمر فأجابهم: «إني على صلح وابن الرشيد فلا أمانع مَن أرادوا أن ينجدوه.»

وكان ابن الشعلان الشيخ نوري قد أرسل إلى ابن سعود، عندما علم بما فعل أهل الجوف، يستنجده على ابن الرشيد، فكتب عبد العزيز إليه يقول: «إني صديق لك ولابن الرشيد، فلست إذن مشاركًا في هذه الحرب، ولكني أنصح لك أن تتحصَّن في حصون الجوف وتتخذ خطة الدفاع فلا تهاجم ابن الرشيد ولا تحاربه في الخارج؛ لأن جنوده مدرَّبون على القتال وهم قديمو العهد في الحروب، وجنودك من البادية من أهل البل (إبل) فلا يُركَن إليهم، ولا هم في القتال أقران شمر.» لم يعمل نوري بنصيحة عبد العزيز فكان من الخاسرين؛ إذ إنه عند وصول نجدات شمر هجم عليهم فكسروه شرَّ كسرة، واستولوا على الجوف.

ولكن سعود بن الرشيد، الذي كان يومئذٍ في الحادي والعشرين من سنِّه، لم يَعِش بعد انتصاره على ابن الشعلان شهرًا كاملًا، فقد قُتِل بعد أن عاد إلى حائل، قتله ابنُ عمِّه عبد الله بن طلال، الذي ذُبِح كذلك في اليوم نفسه (في الفصل الثاني والثلاثين خبرُ هذه الفاجعة مُفصَّلًا) وتولَّى الإمارة بعده عبد الله بن متعب بن عبد العزيز بن الرشيد، فأرْكبَ إلى ابن سعود رُسُلَ السلام وهو يريد تجديد عهد الصلح والولاء.

كان أهل نجد يعارضون في إجابة طلب ابن الرشيد المرة السابقة، فجاء عبد العزيز هذه المرة يشدِّد في شروطه ويجدِّد فيها. قال لرسل حائل: «إني مجيبكم في كلِّ ما تطلبون، ولكني ألفتُ نظرَكم إلى ما بدا من أمرائكم السابقين، وهذي هي كتبهم إلى الشريف ينكثون عهودًا بيننا وبينهم ويرموننا بأشنع التُّهم. يقولون إننا خوارج، وإننا … وإننا … أنا الآن على هذا، أما شئون شمر الداخلية فلا أتدخل فيها، وأما الخارجية فيهمني أمرُها، فقد طالما أضرَّت سياستها بنجد ومصالحه. لا بد إذن من تنازُلكم عن إدارة الشئون الخارجية في شمر واعترافكم لي بذلك، وينبغي أن يكون الاعتراف خطًّا ليُنشَر فيعرفه جميع الناس.»

عاد الوفد إلى حائل يحمل شروط ابن سعود إلى أهلها وإلى أُولِي الأمر فيها. أما أهلها وأكثر المقدمين في شمر فأجمعوا على القبول، وأما أولي الأمر من آل السبهان والرشيد، وبعض الزعماء مثل عقال بن عجيل وضاري بن طوالة، ناهيك بعبيد القصر والسيدة فاطمة السبهان جدة سعود — «ستي» فاطمة الحاكمة من وراء الستار — فأبَوا كلهم أن يذعنوا لابن سعود، وقالوا: الحرب! فأُعلِنت الحرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤