الفصل السابع والثلاثون

ذروة المجد والخطر

عندما كان السلطان عبد العزيز في الأحساء يراقب عن كَثَب مؤتمر الكويت، وينتظر متيقِّظًا نتائجه، كان الملك حسين في عمان وقد جاءها ليُشرف — كما قال — على جميع البلاد المقدسة، ويزور الأماكن التي فيها مراكز للحكومة، ويوطِّد السيادة العربية في الشرق العربي.

ولكن مسألة الخلافة بعد أن طرد الترك الكماليون الخليفةَ والأسرة السلطانية من تركية، شغلت العالم الإسلامي وكانت يومئذٍ تشغل أمراء العرب وخصوصًا الملك حسين. فجاء عمان ليقرب من الأقطار الحية الراقية في العالم العربي؛ وليجسَّ نبضها في هذه المسألة الإسلامية الكبرى.

١٣٤٣ﻫ / ١٩٢٣-١٩٢٤م: وعندما وصل القطار الملكي إلى العاصمة في ٨ جمادى الثانية من هذا العام (١٧ يناير سنة ١٩٢٤) شاهد جلالته في المحطة مشهدًا فريدًا مجيدًا، خفقتْ له قلوب السياسة، ورفرفت فوقه آمالُ الملك كلها. هناك كانت الوفود والجموع في انتظاره، وفود سورية وفلسطين، ومشايخ العربان، من نواحي الشرق العربي، ورجال الحكومة من عرب وإنكليز، والصحافيون من مصر والقدس وبيروت والشام، والجنود والجموع من بَدْو وحَضَر في الثياب العربية والإفرنجية والجركسية، هناك عندما أطلَّ جلالته من القطار رفع الناس أصواتهم هاتفين: ليحيَ ملك العرب! ليحيَ المنقِذ الأعظم! وقد كان الاستقبال حارًّا باهرًا. اصطفَّت جنود الجيش العربي على الطريق من المحطة إلى المدينة، وجال العربان من فرسان وهجانة، وهم يهزجون الأهازيج البدوية، ورفع تلاميذ المدارس أصواتهم بالهتاف والأناشيد، وشاركت في الترحيب الطيارات الإنكليزية التي كانت تغمغم في الفضاء.

ثم صعد الخطباء والشعراء مِنصَّة البيان، وطفقوا يخطبون وينشدون، مهلِّلين مكبرين، ومهددين الإنكليز والفرنسيس، بل الأوروبيِّين أجمعين.

— ليحيَ ملك العرب، المنقذ الأعظم! لتحيَ النهضة العربية! وليسقط كلُّ مَن يسعى ضدَّها وضدَّه! ليسقط الاستعماريون والمستعبِدون! وكان جلالته يسمع الخطباء والشعراء من شرفة البيت الذي أُعِدَّ له، البيت المقابل للأثر التاريخي الجليل — الملعب الروماني المتهدِّم. وللزمان في هُزْئه بلاغةٌ تعجز دونها الشعراء والخطباء.

ثم قابل جلالته الوفود فقال تكرارًا: إنه لا يتنازل عن مبدأٍ واحدٍ من المبادئ التي هي أركان النهضة: «لا أتنازل عن حقٍّ واحد من حقوق البلاد، لا أقبل إلَّا أن تكون فلسطين لأهلها العرب، أقول لأهلها العرب. لا أقبل بالتجزئة ولا أقبل بالانتدابات. ولا أسكت وفي عروقي دمٌ عربي عن مطالبة الحكومة البريطانية بالوفاء بالعهود التي قطعتْها للعرب. إذا رفضت الحكومة البريطانية التعديل الذي أطلبه فإني أرفض المعاهدة كلَّها، أقول المعاهدة كلَّها. لا أُوقِّع المعاهدة قبل آن آخُذَ رأْي الأمة. إني عامل دائمًا في سبيل الاتفاق وأمراء العرب. إني عامل دائمًا في سبيل الوحدة العربية، والاستقلال التام، أقول الاستقلال التام للأقطار العربية كلِّها. ولا فرق عندي إذا كان مركز الحكومة العربية في الحجاز، أو في سورية، أو في العراق، أو في نجد.»

ولا عجب بعد هذه التصريحات المدهشة إذا تمَّت المبايعة بالخلافة. فبعد المآدب والاجتماعات العامة المتعدِّدة، وبعد الاجتماعات الخاصة ورؤساء الوفود، وكبار موظفي الإنكليز، نُودِي بالملك حسين بن علي خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين، فبايعه السوريون والفلسطينيون الذين كانوا هناك، ورؤساء عرب الأردن، والحجازيون الذين كانوا مع جلالته، وفريق من العراقيين.

•••

وفي غُرَّة ذي القعدة من هذا العام، بعد أن عاد جلالة الملك حسين إلى مكة، وقد أضاف إلى لقبَيْه الكبيرَين اللقبَ الثالث الأكبر؛ أي خليفة المسلمين، عُقِد في الرياض اجتماعٌ عام برئاسة الإمام عبد الرحمن حضره العلماء، ورؤساء القبائل، والسلطان عبد العزيز، فافتتح حضرة الإمام الجلسة قائلًا:

قد جاءني كُتُب عديدة من الإخوان وهم يبغون الحج، وقد أرسلت هذه الكتب في حينها إلى ولدنا عبد العزيز. وها هو أمامكم فاسألوه عما يبدو لكم.

السلطان عبد العزيز : «وصلني كلُّ ما كتبتموه وأحطت علمًا بكلِّ ما شكوتموه. إن لكلِّ شيء نهاية فلا تيأسوا، وإن الأمور مرهونة بأوقاتها.»
سلطان بن بجاد : «يا لإمام حنَّا نبغي الحج، ولا نريد أن نصبر أكثر ممَّا صبرنا على ترك رُكْن من أركان الإسلام مع قدرتنا عليه. ليست مكة ملكًا لأحد، ولا يحق لأحد أن يمنع المسلمين أو يصدَّ المؤمنين عن أداء فريضة الحج. نريد أن نحجَّ يا عبد العزيز، فإذا منعنا الشريف حسين دخلنا مكة بالقوة. وإذا كنتم ترون أن من المصلحة تأجيل الحج في هذا العام فلا بدَّ من غزو الحجاز لنخلِّص البيت الحرام من أيدي الظالمين والمفسدين.»
السلطان عبد العزيز : «مسألة الحج من المسائل التي يرجع الفصل فيها إلى علمائنا، وها هم حاضرون فليتكلموا.»
الشيخ سعد بن عتيق : «إن الحج من أركان الإسلام، ومسلمو نجد، والحمد لله، يستطيعون أن يؤدُّوا هذا الركن على الوجه الأتمِّ بالرضا أو بالقوة، ولكنَّ من أصول الشريعة النظر إلى المصالح والمفاسد. فالأمر الذي قد يؤدِّي إلى ضرر أو مفسدة يُدفَع (يؤجَّل من أجله الحج)، فهل هناك من مفسدة أو مضرَّة قد تنتج عن الترخيص لمسلمي نجد بالذهاب إلى بيت الله؟ ذلك ما نريد أن نقف عليه من الواقفين على السياسة.»
في الأعوام الخمسة الماضية كان السلطان يجيب على هذا السؤال بالإيجاب، فيمنع أهل نجد عن الحج خوفَ أن يحدث ما لا تُحمَد عُقْباه، وقد كان يعالج مشاكل نجد والحجاز بالطرق السلمية السياسية. أما في هذا الاجتماع فقد قال عظمته مخاطبًا العلماء والإخوان:

نحن لا نودُّ أن نحارب مَن يسالمنا، ولا نمتنع عن موالاة مَن يوالينا، ولكن شريف مكة كان دائمًا — كما تعلمون — يزرع بذور الشقاق بين عشائرنا. وهو الوارث من أسلافه بغْضَنا. ومع ذلك فقد بذلت كلَّ ما في وسعي لحلِّ المشاكل التي بيننا وبين الحجاز بالتي هي أحسن، وكنت كلما دنوتُ من الحسين تباعَد، وكلما لِنْتُ له تجافَى. إي وربِّ والكعبة. ولستُ أرى في تطوُّر الأمور ما يُنعِش الأمل، بل أرى الأمور تزداد شدَّة وارتباكًا، ولا يحسُن الاستمرار في خطة لا تعزِّز حقوقنا ومصالحنا.

وقف السلطان عند هذه الكلمة، فهتف الجميع: توكَّلنا على الله! إلى الحجاز! إلى الحجاز!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤