الفصل الثالث والأربعون

رسل السلام

قد أسلفتُ القول: إن جلالة الحسين قُبَيل سقوط الطائف عيَّن وزير خارجيته الشيخ فؤاد الخطيب سفيرًا لدى حكومة إيران. فبادر السفير الجديد إلى التأهُّب للسفر، وهو مسرور بوظيفته هذه، مغبوط من زملائه عليها، وركب البحر من جدة مصحوبًا بكاتب سرِّه وترجمانه وياوره ومرافقه وعبيده. وقد لحق به آخر هو القدر فأدركه في الشرق العربي؛ إذ ما كاد يصل إلى عمان، في طريقه إلى بغداد فطهران، حتى وصلته دفعة واحدة أخبار الحجاز كلِّها، من سقوط الطائف إلى تنازُل الحسين!

ثم جاءه أمر من الحكومة الجديدة، حكومة الملك علي، بالرجوع إلى وظيفته السابقة، فقبل الشيخ فؤاد قسمة الجبَّار فيه، وهو يقول: سأكون هذه المرة وزير الخارجية لا ترجمانها. وقد أُوحِي إليه أنه بصفته هذه العالية يستطيع، إذا استعان بصديقه مؤلِّف هذا التاريخ، أن يسعى في سبيل السلْم بين البلدين نجد والحجاز سعيًا موفَّقًا؛ لذلك أبرق إليَّ يقول إنه يبغي مقابلتي، وإنه غير مأذون له بالدخول إلى سورية. فهل يمكنِّي أن أوافيَه إلى عمان؟

تكرَّرت البرقيات بيننا، فاتفقنا على الاجتماع في حيفا، وبعد المفاوضة هناك زُرْنا سموَّ الأمير عبد الله في مقرِّه بعمان، فرغب إليَّ عقب المذاكرة بالتوسُّط بين جلالة أخيه وعظمة السلطان. وقد أطلعني الشيخ فؤاد في اليوم التالي على برقيةٍ جاءته من الملك علي يرحِّب فيها برسول السلام.

قبلت المهمة لأسباب ثلاثة؛ أولًا: لأني على اتصال بعظمة السلطان، وعالمٌ ببعض ما يرمي إليه في سياسته العربية. ثانيًا: لأني منذ البدء في رحلتي العربية رسول السلم والتضامُن بين ملوك العرب. ثالثًا: لأني كنت قد اقترحت على عظمته اقتراحًا لحلِّ مشكل الحجاز سلْمًا، فجاءني منه جوابٌ يستحسن الاقتراح، ويشجِّع على السعي في سبيل تحقيقه. أضِفْ إلى ذلك أن عددًا كبيرًا من وجهاء المسلمين في بيروت أجمعوا على التوسُّط بين العاهلَين العربيَّين وقرَّروا أن أكون رسولَهم إليها.

سافرت والشيخ فؤاد الخطيب إلى السويس، ومنها إلى جدة، فوصلناها في ٧ ربيع الثاني  (٥ نوفمبر)، وكان قد سبقَنا إليها رسولٌ آخر من رُسُل السلام، هو المستعرِب الإنكليزي المستر فلبي١ الذي كان سابقًا وكيلَ دولته السياسي في شرقي الأردن.
قد كانت الإشاعات بخصوصه عديدة، وأظهرها أنه قادم بصفة رسمية أو شبه رسمية من قِبَل الحكومة البريطانية للتوسُّط بين عليٍّ وابن سعود، ولكن المعتمد الإنكليزي بجدة المستر بولارد٢ كذَّب هذه الإشاعة رسميًّا. وقد أكَّد لي أن المستر فلبي — وإن كان رغم إقالته من وظيفته لا يزال في سلك الموظفين — هو متطوِّع للخدمة التي جاء من أجلها، وأنه لا يمثِّل غير نفسه. وقد أثبت ذلك الملك علي؛ إذ قال: «هو صديقٌ لابن سعود وصديق لنا، وقد عرض خدمته بواسطة وكيل الحكومة العربية السابق بلندن فقبلناها.»

اجتمعتُ بزميلي بُعيد وصولي، ثم تكرَّرت الاجتماعات والمباحثات، فكنَّا في الموضوع متفقين — متفقين في وجوب التوسط بالسلم. بل في وجوب السلم لخير العرب بين نجد والحجاز.

ولكن الرجل الذي جئنا نفاوِضه لم يكن قد وصل إلى مكة، ولا كان مقرُّه يومئذٍ معروفًا. هل هو باقٍ في الرياض أم هو في الطريق إلى الحجاز؟ وإذا كان لا يزال في الرياض فهل هو قادم إلى مكة أم لا؟ وإذا كان ينوي القدوم فمتى يا ترى يتحرَّك من عاصمة نجد؟

هذه سؤالات كنَّا نتساءلها. ولم يكن في جدة، لا في الحكومة، ولا في دور القناصل، ولا بين التجار، مَن يستطيع أن يُجيب عليها. لم يكن في جدة شخص واحد يعرف شيئًا عن ابن سعود.

وكان المستر فلبي قد كتب إلى أحد قائدي الجيش النجدي بمكة مستخبِرًا، فلم يحظَ بجواب. وقد كتبتُ أنا إلى القائدَين كليهما، إلى سلطان بن بجاد الذي يعرف أني صديق عظمة السلطان والي الشريف خالد، فلا جاء الجواب من أحدهما، ولا عاد الرسول، ثم خطر لي أن أبرق إلى عظمته بواسطة وكيله في البحرين. وقد كنَّا تباحثنا أنا والمستر فلبي في السفر برًّا عن طريق الطائف إلى الرياض، فنجتمع بعظمته في العاصمة أو في الطريق، وعقدنا النية على ذلك. فأبرقتُ إلى القصيبي في البحرين أولًا وثانيًا فجاءني منه جوابان الواحد بالعربية: «أرسلنا برقيتك إلى الإمام.» والآخر بالإنكليزية: «قد سافر الإمام إلى الحجاز.» وهذه البرقية الإنكليزية أول نبَأٍ وصل إلى جدَّة يُنبئ بسفر السلطان، فسُرَّ به الملك وسُرَّت الحكومة والقناصل، بل سُرَّت المدينة بأسرها. كيف لا ولسان حالها وحالنا واحد: لا بدَّ في قدوم السلطان أن تتغيَّر الحال فيضع عظمته حدًّا لتلك الفظائع التي كانت تُروَى أخبارها في جدة. والسلطان رجلٌ عاقلٌ حكيمٌ يمكننا أن نتفاهم وإياه.

بِتْنا والحال هذه ننتظر وصول عبد العزيز. وفي ذاك الحين علمنا أن رسولًا آخر من رسل السلْم هو قادم إلى جدة، وأنه من كبار المسلمين. سَرَّنا الخبر أنه من المسلمين، فيجيء موازنًا لمسيحية زميلي الإنكليزية ومسيحيتي العربية. والظاهر أن الفكرة هذه خطرت لجلالة الملك، فقَبِل بتوسُّط السيد طالب النقيب الذي كان يومئذٍ في الإسكندرية. والسيد طالب الذي جاء ذكْرُه غير مرة في هذا التاريخ هو صديق للسلطان عبد العزيز، وهو كذلك صديق المستر فلبي الذي عرفه في العراق يوم كان من المستشارين هناك، وكان السيد وزيرًا طالبًا للعرش، فإذا كان السلطان لا يقبل بتوسُّط المستر فلبي ولا بتوسطي، وهو في البلد المقدَّس وفي ظلِّ الكعبة، فلا بدَّ أن يأذن بالزيارة في الأقل لمن اجتمع به مرارًا في الكويت وفي البصرة، وكان ضيفَه في القصيم، بل لمن توسَّط مرة بينه وبين الترك لصديقه الحميم السيد طالب النقيب.

عندما وصل السيد طالب كان خطُّ الدفاع حول جدة، بما فيه من الاستحكامات والمتاريس والخنادق والأسلاك الشائكة والألغام، قد تمَّ كلُّه. وهو في شكل هلال طولُه من البحر إلى البحر نحو ستة أميال. وكان الملك عليٌّ قد استعاد شيئًا من الأمل والاطمئنان، بل كانت ثقته بالفوز — سلمًا أو حربًا — تزداد يومًا فيومًا مع ازدياد عدد الجيش النظامي وقوته؛ لأن الشريف والده كان يبذل المال والأمير أخاه يبذل الهمة في سبيل التطوع في الشرق العربي «للدفاع عن بيت الله الحرام» … وهذا خط الدفاع يا عبد العزيز، وهؤلاء أصدقاؤك وأصدقاؤنا رُسُل السلام.

١  H. St. John Philby.
٢  R. W. Bullard.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤