الفصل السابع والأربعون

المفاوضات

الحارس على الباب الشرقي لخطِّ الدفاع يكلم بالهاتف القيادة في القشلة: «عاد النجاب من مكة ومعه كُتُب إلى القناصل وإلى السيد طالب والريحاني وفلبي.» القيادة بالهاتف إلى القصر: «عاد النجاب من مكة.» رئيس الديوان الهاشمي بالهاتف إلى رسل السلام: «عاد النجاب …»

بادرنا إلى القصر، فأدخلَنا الحاجب غرفة الملك علي الخاصة، فاستقبلنا فيها وزير الخارجية، ثم دخل جلالته متعمِّمًا بعمامته البيضاء ذات الذؤابة، لابسًا جبة سوداء فوق أنباز من الحرير، وبيده كُتُب ثلاثة أعطانا إيَّاها مختومة، فقال أحدنا: الملك اليوم موزِّع بريد، فضحك جلالته وأمر بالقهوة.

قرأ كلٌّ منَّا كتابه، وقدَّمه للملك فقرأه وأعاده دون أن يفوهَ بكلمة، ثم تبادلنا الكتب كذلك ساكتين، فاطلع كلٌّ منَّا على ما كتبه السلطان عبد العزيز إلى الآخر.

قال في كتابه إلى «الصديق العزيز المستر فلبي»:

إذا كنتم حضرتم لمقابلتنا ومباحثتنا في بعض الشئون الخاصة بنا فعلى الرُّحْب والسَّعة، وسنسهِّل الطريق للاجتماع بكم خارج الحرم، أما إذا كنتم تنوون التدخُّل في مسائل الحجاز فلا أرى في البحث فائدة … وإنه ليس من مصلحتي الخاصة ومصلحتك يا صديقنا جَعْلُكم وسيطًا في هذه المسألة الإسلامية المحضة.

وجاء في كتابه إلى «حضرة الأخ المحترم السيد طالب النقيب».

لقد ذكرتم أنكم تودُّون مقابلتنا فنحن نرحب بكم، ولكن يجب أن نعرف هل المقابلة شخصية ودِّية أم هي للوساطة في مسألة الحجاز؟ فإذا كان الغرض من الزيارة التوسُّط في هذه المسألة فإني لا أرى فائدة من ذلك … وإذا كان الشريف عليٌّ يودُّ حقيقةً حقنَ الدماء فعليه أن يتخلَّى عن جدة، أما إذا قَبِلَه العالم الإسلامي وانتخبه حاكمًا للحجاز فمحلُّه غير مجهول.

وقال في جوابه على كتاب المؤلِّف:

ذكرتم أنكم مُوفَدون من قِبَل جماعة في سورية وأنكم تحملون كتابًا منهم إلينا. أرحِّب في كلِّ حال بصديقنا العزيز أمين الريحاني، ولكن أحب أن ألفت نظركم إلى أمر هامٍّ، وهو إذا كان البحث يتناول المسألة الحجازية فلا أرى فيه فائدة؛ لأن مشكل الحجاز يجب أن يحلَّه المسلمون. وترك الأمر لهوى أنفسِنا ليس ممَّا تُجيزُه المصلحة الإسلامية ولا العربية … وفي كلِّ حال، إني أحبُّ توضيح الأمر وجلاءَه قبل المقابلة.

لا سبيل إذن للتوسُّط، ولكن طريقة السلطان في ردِّ كلٍّ منَّا اختلفت باختلاف الصفات والأحوال؛ فالمستر فلبي تأكَّد أن عظمته لا يمانع إذا غادر جدة في أول باخرة: «إن المسألة إسلاميَّة محضة وليس من مصلحته ولا من مصلحة ابن سعود أن يتدخَّل بها.» وكان للسيد طالب بصفته مسلمًا بقيَّةٌ من الأمل: «وكيف لا يسمح ابن سعود بزيارة في الأقل بمكة؟ ومتى تواجهنا تباحثنا، والمواجهة نصف الحجة في الإقناع.» أما المؤلف فالسلطان ترك له بابًا مفتوحًا؛ إذا قال: «إني أحب توضيح الأمر وجلاءَه قبل المقابلة.»

عُدْنا الكرَّة على العظمة السعودية، فكتب المستر فلبي مودِّعًا وكتب السيد طالب مستأذِنًا بزيارة «شخصية ودية» وملحًّا بالإسراع؛ لأنه مضطرٌّ أن يعود إلى مصر قريبًا، وكتب المؤلِّف كتابًا يستوجب بعض البيان.

قد أسرَّ إليَّ أحدُ الأصحاب في القصر شيئًا عن السيد طالب مستغربًا مضحكًا، وأكَّد لي أنه جادٌّ فيما قال. أليس السيد خصم الملك فيصل أخا الملك علي؟ أوَليس السيد صديق ابن سعود؟ فلا يُستغرَب إذا اتفق الاثنان على خصمَيهما مليكَي العراق والحجاز. قلت لصديقي: إن تصوره وإن كان سياسيًّا تصوُّر شاعر، ومع ذلك فقد وضعتُ ارتيابَه موضعَ الجدِّ، وبما أني ظننتُ أنه أسهل على السلطان أن يقابل طالبًا بمكة من أن يخرج في تلك الأحوال إلى حدَّاء مثلًا ليقابل صديقه العربي المسيحي، صمَّمت على إرسال رسول مسلم لأصلَ إليه برسالتي قبل السيد. وفي كلِّ حال لم يكن في الإمكان أن أؤدِّيَ كتابةً الرسالةَ كلَّها؛ لذلك كتبتُ إلى عظمته أقول:
إن لصديقي حسين العويني التاجر السوري١ في جدة علاقات تجارية في مكة المكرمة، وهو يحضر للتجارة وللزيارة، فيتشرَّف بمقابلتكم إذا أذنتم ويحمل إلى عظمتكم بعض خبري. إني أثق بحسين أفندي كلَّ الثقة. وفي اليسير الذي سينوب عني به ما يُغني عن البيان. فإذا أذنتم بقدومه مُروا مَن يلاقيه إلى منتصف الطريق ويصحبه محافظًا إلى مقامكم العالي.

أرسلنا الكُتُب هذه في ١٢ جمادى الأولى وبِتْنا ننتظر الأجوبة، فمرَّ الأسبوع ولم يَعُد النجاب. عندئذٍ أرسل الملك علي يدعونا للمفاوضة فحضرنا نحن الثلاثة، ولم يكن غيرنا في المجلس، ففتح جلالته الحديث قائلًا: «دعوتُكم لأبسُطَ ما جدَّ في الحالة وأستشيركم. قد جئتم أيها الأفاضل إلى جدة لخير الفريقين بل لخير العرب. ويسوءني والله أن تُمَسَّ كرامتكم من أجل أحد منَّا. أنا والله مخجول. قد مرَّ الأسبوع ولم يجئْكم الجواب من ابن سعود. والرجل متحرِّك، فهو الآن يُفسد القبائل علينا، ورجاله منعوا عرباننا من إرسال الفحم كالعادة إلى جدة. ونحن هنا ماسكون أنفسنا. خط الدفاع يزداد منعَة كلَّ يوم، وجنودنا مستعدون للحرب، والطيارات كلُّها أصبحت صالحة للعمل؛ لذلك قد قرَّرنا أن نُرسل غدًا بلاغًا إلى أهل مكة بالطيارة، ثم نُرسل سرب الطيارات لرمي القنابل في الأبطح، علَّ ذلك يوصلنا إلى نتيجة فاصلة. وقد دعوتكم لأستشيرَكم في المسألة.»

تكلم السيد طالب أولًا، فقال: «هل قنابلكم صالحة؟ هل أنتم متأكدون أنها تنفجر، فإذا كانت قديمة ولا تنفجر تعود بالضرر عليكم، فلا يخشى العدو بعدئذٍ الطيارات، يجب أن تجرِّبوها قبل أن تُقدِموا على العمل، فإذا كانت صالحة فلا بأس.»

ثم تكلَّم المستر فلبي: «من رأيي يا جلالة الملك أن تنتظروا إلى أن يجيء الجواب، ومثل هذا العمل الحربي قبل ذلك في الأقل لا يأتي بفائدة.»

أما المؤلف فلم يرَ من الحكمة أن تُرسَل الطيارات إلى مكة بصفة حربية: «إنكم وإن أمرتم برمي القنابل في الأبطح فقط تضرون بمصلحتكم حتى وإن تقيَّد الطيارون بأمر القيادة العليا. نحن نعرف أن الأبطح ساحة خارجة مكة إلى الشمال الشرقي منها، ولكن العالم لا يعرف ذلك، وأول قنبلة تقع هناك يطير البرق خبرها، فتنشره الجرائد خصوصًا المعادية لكم بالقلم العريض: الملك علي يُمطر مكة نارًا من الطيارات. طيارات الملك علي تطير فوق الكعبة، وترمي قنابلها في قلب المدينة! وهذا مضرٌّ باسم جلالتكم ومضرٌّ بالمصلحة العربية.»

قد وافق المستر فلبي على رأيي وأومَأ الملك برأسه أنه مقتنع، ولكنه ظلَّ متمسكًا بنظريته أن الطيارات تُخرِج ابن سعود من مكة، وتحمله على الفصل في الأمر. فطلبنا تأجيل العمل ثلاثة أيام، فأجاب جلالته الطلب، ثم قال السيد طالب: «وأثناء ذلك جرِّبوا القنابل.»

ولكن التجربة لم تكن ضمن خطِّ الدفاع بل في الطريق إلى مكة فوق بحرة، وقبل أن تنتهيَ مدة الانتظار. فغضب المستر فلبي غضبةً إنكليزية وقلنا على الصلح السلام. على أن النجاب عاد في صباح اليوم التالي، أي العاشر، يحمل الأجوبة من السلطان، وفيها لصديقه المستر فلبي الدعاء بالسفر الميمون: بأمان الله. وفيها للأخ المحترم السيد طالب أن مكة في حال من الاضطراب لا تجوز معها المخاطرة براحته، «وستصلكم وأنتم في مصر أخبارُنا الطيبة إن شاء الله.»

وفيها في جوابه على كتابي:

قد سمحت لصديقكم حسين العويني بالقدوم إلينا، فزوِّدوه بكلِّ ما لديكم من الكتب والأفكار والآراء … وإننا نرجو أن يُحسن نقل أفكار صديقنا أمين الريحاني … وإني أشكرك على تجشُّمك المشاق الجسيمة في خدمة العرب وفي سبيل قضيتهم.

قد جلا هذا الجواب جوَّ القصر فبشَّ الملك واستبشر الوزراء، كما أنه لطف بروح الجندية خارج السور، والجندية طبعًا وصفةً عدوةُ السلام.

بادرنا إلى الجواب والعمل، فكتبت إلى عظمة السلطان أقول: «إني مرسلٌ مع العويني كتابًا من وجهاء المسلمين في بيروت، ومذكِّرة ضمَّنتُها آرائي في الحالة الحاضرة، وأشرت إلى نقاط يتوسَّع في شرحها العويني. فإذا كنت مصيبًا فمولاي وصديقي عبد العزيز لا يتبع غير الصواب، وإن كنت مخطئًا فحبي وإخلاصي يشفعان بما قد يُعَد نقصًا في علمي. أما إذا كان فيما قدمت مزيج من الخطأ والصواب فأنا أول مَن يرغب في التمحيص. وإني أقبل الحقيقة من السوقة، فكيف لا أقبلها من الملوك. علِّموني، يا طويل العمر، إذا كنت مخطئًا، واسمعوا لي إذا كنت مصيبًا.»

لم يشأ العويني أن يسافر من جدة إلَّا محرمًا، فأشفقنا عليه من بَرْد ديسمبر، خصوصًا في الليل، ولكنه أصرَّ على الإحرام، وهو يقول: «لوجه الله وللقضية العربية.»

ثم أعطاني ساعة الوداع غلافًا مختومًا، وقال: «إذا لم أرجع يا أمين، فهذا الغلاف لأمي في بيروت.» عندئذٍ أدركتُ حقيقة الخطر، خطر الطريق في الأقل، وأحسست بشيء ثقيل حلَّ في قلبي، ولكني موَّهت ما بي وأنا أُسِرُّ إليه الكلمةَ الأخيرة.

ودَّعْناه أمام القصر، بعد أن ودَّع جلالة الملك، فركب البغلة التي كانت تحمل حقائبه وسار بعد الغروب بأمان الله يصحبه خادمُه والنجاب ورفيق آخر، بأمان الله، ولكن الطريق لم تكن آمنة؛ فقد لقي صديقي ورفاقه في بحرة تلك الليلة في القهوة المهجورة المظلمة التي أوَوا إليها، ما يروِّع حتى البدو. دخلوا بعد نصف الليل ليناموا أو يستريحوا قليلًا، فأحس العويني عندما ألقى بيده إلى الأرض أن هناك شيئًا مائعًا لزجًا، فأشعل عودًا من الكبريت فإذا به دم، وإذا بالدم لا يزال طريًّا، فأشعل عودًا آخر فإذا بالجثة — جثة أعرابي — قريبة منه! ولكنه ورفاقه — بعد استراحةٍ قصيرة في العراء — أدلجوا من ذلك المكان سالمين، فوصلوا في ظهر اليوم التالي إلى المخيَّم السلطاني بالشهداء.٢

وكان العويني رسولًا مكرمًا وفي أحاديثه مع السلطان مقنِعًا، فلم يبطئ عظمته هذه المرة بالجواب. غاب العويني ثلاثة أيام فقط، فعاد في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر. وصل إلى جدة مساء ذاك اليوم، فوقف في باب الردهة التي كنَّا ننتظره فيها، وهو يحمل حقيبته ويبتسم ابتسامة خفقت لها القلوب سرورًا، وقد كان ساعتئذٍ مع الملك رئيس الحكومة الشيخ عبد الله سراج، ووزير الخارجية الشيخ فؤاد الخطيب، ورئيس الديوان الهاشمي السيد أحمد السقاف. سلَّم العويني وجلس على السجادة، فأخرج من حقيبته كتاب السلطان ودفعه إليَّ، فقرأته وقدَّمته لجلالة الملك، فطالعه ونور الجذَل يكسو مُحيَّاه.

– «قُضِي الأمر وما تبقَّى غير الجزئيات. بارك الله فيك يا حسين، بارك الله فيك يا أمين.» قال هذا وقبَّلنا نحن الاثنين، ثم نزع عن رأسه العقال والكوفية ونادى: «هاتوا شاي … يشهد الله أني لا أحبُّ أن تُهرَق نقطة واحدة من دم العرب.»

كان جلالته تلك الليلة في بهجة قلَّما شاهدناه في مثلها. ولا غروَ فمن سجاياه الشريفة أنه رجل مسالم محبٌّ للسلم.

١  حسين العويني أديب سوري ووطني عربي ثابت العقيدة، صريح الكلمة، صادق اللهجة، صلْب العود. وقد أدَّت به وطنيتُه العربية في أول عهد الفرنسيس في سورية إلى المنفى بالكورة، فقضى وبعض وجهاء بيروت في الأسْرِ هناك بضعة أشهر، ثم جاء الحجاز تتجاذبه السياسة والتجارة، فتعاطى الثانية ولم يهجر كلَّ الهجر الأولى. كان أول مَن اجتمعتُ بهم من السوريين عند وصولي إلى جدة، فدعاني للطعام في اليوم التالي، فلقيتُ بيتَه رحبًا، وكل ما فيه من فُرُش وذوق لامعًا، فنزلت ضيفًا عليه، وكنت كلَّ يوم، لِما بدا لي من إخلاصه وصدْق وطنيته، أزدادُ حبًّا له وإعجابًا به، فتآخينا وتعاونَّا في سبيل السلْم والعرب.
٢  كان قد نُقِل المخيَّم من المعابدة بالأبطح إلى الشهداء خارج مكة في طريق جدة، والشهداء سهل يبعد عن جرول؛ أي طرف مكة الغربي نصف ساعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤