انفراد إيرجيتيس الثاني البطين بالحكم والصراع بينه وبين كليوباترا الثانية

(١) وصف بطليموس السابع

تُحدثنا كل المصادر القديمة بأن «بطليموس السابع» كان ملكًا عاتيًا فظًّا غليظ القلب جعل الناس ينفضون من حوله. والواقع أنه كان مجردًا من كل عاطفة إنسانية حقة؛ هذا فضلًا عن أنه كان قبيح الوجه منتفخ الجسم بطينًا يثير شكله الضحك، ويوحي بالسخرية؛ ومن أجل ذلك أطلق عليه سكان الإسكندرية — الذين كانت لا تخطئهم النكتة — لقب البطين. ولا نزاع في أن بدانته وترهل جسمه كانا يفوقان حد المألوف بدرجة عظيمة؛ فقد حدثنا «بوزيدونيوس» عن ضخامة جسمه نقلًا عن لسان معلمه «باناتيوس» Panaetius الذي رآه في الإسكندرية.١ ومما زاد في قبح منظره ما حدثنا به «جوستن»٢ المؤرخ إذ يقول: إنه كان يرتدي ثوبًا شفيفًا ينم عن كل تفاصيل جسمه المنتفخ، مما زاد في قبحه وسماجته.

(١-١) قتل الملك الصغير وزواج بطليموس السابع من كليوباترا الثانية

وهذا العاهل على قبح خلقه رأيناه بعد دخوله الإسكندرية يكشف عما كانت تنطوي عليه نفسه من آثام وشرور؛ فقد أكد لنا المؤرخ «جوستن» أنه في نفس اليوم الذي أقام فيه الاحتفال بزواجه من «كليوباترا» ذبح ابن أخيه «نيوس فيلوباتور» وهو بين ذراعي والدته «كليوباترا»؛ ولكن الأدهش من ذلك أن هذه المرأة كان عليها أن تلقي بنفسها في أحضان القاتل في سريرها، وهو ملطخ بدم ابنها، ولا غرابة في ذلك للمطلع على تاريخ البطالمة؛ فهذا الحادث يذكرنا بحادث مماثل لهذا الذي نحن بصدده، وأعني بذلك قتل «بطليموس» «كرانيوس بن أرسنوي فيلادلف» — وقد تحدثنا عن هذا الحادث في الجزء الرابع عشر من مصر القديمة — ولكن مع الفارق أن «أرسنوي» عندما علمت بجريمة زوجها فرت هاربة إلى «ساموتراس». ولا نزاع في أن استسلام «كليوباترا الثانية» لهذا الحادث البشع قد أثار في النفوس عدم الثقة في هذا الرجل وخيانته بما لم يمكن مقاومته مهما كانت الأسباب، حتى إن الزواج الذي كانت قد عقدت أواصره بين «بطليموس البطين» و«كليوباترا» لم يكن إلا زواجًا دون معاشرة جنسية، كما يقول المؤرخ «مهفي»؛ لأن موقف الأم كان يدعو إلى الدهشة؛ بل يوحي بأنها كانت قد سُلبت كل شعور إنساني إذا كان هذا قد وقع فعلًا على مرأى منها.

وعلى أية حال فإن الزواج كان قد حدث فعلًا، وأن الابن وريث «فيلومتور» قد مات بعد ذلك مباشرة. وذلك في أحوال يحتمل أن تبقى غامضة لدرجة ما، مما ترك مجالًا للخيال يلعب دوره عن سبب اختفاء هذا الأمير، أو عن الفرد الذي ارتكب هذه الجريمة بصورة خاطفة، والواقع أن الجرائم التي ارتكبها «إيرجيتيس الثاني» فيما بعد تقشع عن عيوننا ظلمات هذا الشك؛ إذ علم الناس ما كان يجري وراء جدران القصر الملكي من آثام وجرائم لا حصر لها. وقد كان هذا الحادث مقدمة لجريمة أبشع وأشنع كما سنرى بعد.

وعلى أية حال فإن أخلاق «كليوباترا الثانية» التي عُرفت بها من قبل لا تدع مجالًا للظن بأنها استسلمت لهذا الطاغية كأنها فريسة لا حراك فيها في أحضان رجل مفترس أثيم. والواقع أنها قد وافقت على هذا الزواج لأنها كانت واقعة تحت تأثير شهوة الحكم لا لأن تكون زوج قاتل ابنها دون ريب أو شك.

(٢) بطليموس السابع يذهب إلى «منف» لِيُتَوَّجَ فيها

بعد أن استتب الأمر ﻟ «إيرجيتيس» وأصبح آمنًا على عرشه أو بعبارة أخرى عندما اعتقد أنه عاقب أهل الإسكندرية بما رأى فيه الكفاية للانتقام من أعدائه في خلال عام ١٤٤ق.م؛ أراد أن يستعطف الشعب المصري الأصيل؛ ومن ثم ولى وجهه شطر «منف» ليتوج نفسه على حسب الشعائر المصرية القديمة إرضاء للكهنة والمصريين معًا.

(٢-١) ولادة بطليموس المنفي ابن بطليموس السابع

وفي خلال إقامة الشعائر والأحفال الخاصة بعيد التتويج رُزِقَ مولودًا ذكرًا أسماه — تيمنًا وإرضاء للمصريين — «المنفي» نسبة إلى «منف» التي وُلد فيها، فكانت صدفة سعيدة.

ومما يُؤسَف له جد الأسف أن هذا الأمير الجديد الذي كان ضحية في المستقبل ضحى به والده إرضاء لشهوة الحكم. وقد أقيمت بمناسبة ولادة هذا الأمير الأفراح، وكان من جرائها الحكم بالإعدام على أفراد آخرين من جديد ممن حضروا الحفل؛ وآية ذلك أنه كان في حاشية الملك بعض رجال من أهالي «سيريني» كانوا قد حضروا معه إلى مصر من هذه البلدة؛ وذلك بسبب ما كانوا قد أدوا له من خدمات، ولإخلاصهم وولائهم له. على أن هؤلاء كانوا قد تجرءوا — بما كان لهم من مكانة ودالة — على أن يعلنوا صراحة عدم رضاهم عن تصرفات حظية الملك، التي تُدعى «إيرن» في مثل هذه المناسبة المحترمة. غير أن الملك عندما علم بهذا أمر بإعدامهم في الحال.

ولكننا نجد أن الملك أراد بعد ذلك أن يستغفر عن فعلته هذه؛ فأصدر قرارات إنسانية بمثابة هبات لهذا التتويج البهيج، وكان غرضه إعادة الطمأنينة إلى نفوس أصحاب الأملاك الذين كانت ممتلكاتهم مهددة بالضياع، وذلك على غرار ما يحدث عند خروج الناس من العهود التي سادها الاضطراب والفوضى؛٣ إذ يرون في كل إحسان مهما قل مكرمة عظيمة.

على أن «كليوباترا» كانت قد ظنت أنها اشترت ما حصلت عليه بصورة أكيدة، وهو اشتراكها في الملك بما أدته من ثمن دفعته بكل ما عندها من قوة احتمال، ومن سوء معاملة تفوق حد الوصف؛ فإنها مع ذلك لم تلبث أن استيقظت من غفلتها وثابت إلى رشدها؛ إذ ترى «إيرجيتيس» الرخو السمين من جهته قد بدأ — بعد أن صفا له الجو كما كان يظن — في الانغماس في اللذات والشهوات كما يحب ويريد، وفي الوقت نفسه أخذ يعمل على أن يشعر الشعب ومن حوله من رجال البلاط بأنه هو السيد المُطاع، ويقال: إن جل همه وقتئذ كان البحث عن ارتكاب جرائم ومخاز، هذا إلى أنه كان من دواعي سروره وغبطته أن يحارب الرأي العام وتقاليده.

(٢-٢) زواج بطليموس السابع من كليوباترا ابنة أخته

وقد ضرب في ذلك أرذل الأمثال وأوضعها؛ فقد كان — كما نعلم — متزوجًا من أخته «كليوباترا الثانية»، وقد كان هذا النوع من الزنا تبيحه له العادة التي كان يسير على نهجها ملوك مصر القدامى، غير أن ذلك لم يَكْفِهِ؛ بل نجده قد افترع ابنة زوجه وأخته «كليوباترا»، وبعد ذلك تزوج منها وأصبحت تُدعى «كليوباترا الثالثة»، وقد كان معنى هذا الاعتداء على ابنة زوجه أنه لفظ الأم ليتزوج من ابنتها (حوالي عام ١٤٣ق.م).٤ والظاهر أنه لم يحتفل بالزواج في الإسكندرية على نطاق واسع، ولكن بعد نهاية رحلة قام بها لقضاء شهر العسل في «إدفو» حيث أهدى المعبد هناك للإله «حور» رب «إدفو»، بعد بداية العمل في وضع أساسه منذ ٩٥ عامًا مضت؛ وكان ذلك في ١٨ مسرى من السنة الثامنة والعشرين من حكمه (٥ سبتمبر سنة ١٤٢ق.م)، وقد قُدِّمَت هناك الأضاحي، وأقيمت الولائم والأفراح من كل نوع.

والواقع أن «إيرجيتيس» بزواجه من ابنة أخته قد بلغ النهاية التي ما بعدها نهاية في الخروج على التقاليد والفجور السافر، هذا فضلًا عما كان عليه من وقاحة واستهتار مما أدى إلى فقدانه أية رابطة عطف تربط بينه وبين شعبه وذويه.

أما «كليوباترا الثانية» فإننا إذا رجعنا إلى الوراء ونظرنا في ماضيها لوجدنا أنها كانت قد عملت كل ما في طاقتها لتقضي على كل ما كان هناك من خلافات ومخاصمات بين أخويها «بطليموس فيلومتور» و«بطليموس إيرجيتيس الثاني»، ومنذ ذلك العهد كان الشعب الإسكندري يعطف عليها، ومن ثم فإن محبة الشعب وإشفاقه عليها قد ازدادت بالأحداث الأخيرة، وأصبح لها منزلة مرموقة في قلوب الإسكندريين، وعلى ذلك فإن هجر «إيرجيتيس» لها بهذه الصورة المشينة كان السبب المباشر لقيام الثورة المقبلة، وكان عليه أن يدافع عن نفسه، ويقدم شريعة تعطيه حق النصر.

(٣) قيام الحكم الثلاثي في مصر ونتائجه

والواقع أن «إيرجيتيس» لم يكن في مقدوره أن ينتزع من أخته «كليوباترا الثانية» لقب ملكة البلاد كما أراد، وكذلك لم يستطع أن يغتصب منها حق الصدارة ليمنحه لابنتها زوجه الجديدة؛ ومن ثم نشأ نظام غريب في بابه في حكم أرض الكنانة، وهو ذلك النظام الذي يتألف من ثالوث الملك. والمدهش أنه لم يكن يتألف من ملكين وملكة كما حدث في عهد «فيلومتور» الذي كان يحكم فيه الأخوان والأخت؛ بل في الحالة التي نحن بصددها كانت تُحكَم البلاد بملك وملكتين. فكان يحكم: الملك، والأخت الملكة وهي «كليوباترا الثانية»، والملكة الزوجة وهي «كليوباترا الثالثة». وكان جميعهم يُدعون الآلهة «إيرجيتيس» (أي المحسنين)، وكان من الطبيعي في هذه الحالة أن يتنبأ الإنسان بأن الطموح الممزوج بالغيرة لا بد أن يدب دبيبه بين الملكتين، ومن ثم تولد التنافس بينهما، وأن الذي يفيد منه هو الملك العاتي الذي كان يضارب الواحدة منهما بالأخرى، ومن ثم كان يظهر ميله وحبه للتي يرى أنه من صالحه أن يكون في جانبها، وذلك على حسب تيار الأحوال السياسية التي كانت وقتئذ تتغير وتتشكل على حسب أهواء ونزعات ومزاج الشعب الإسكندري وميوله السياسية.

وقد برهنت الحوادث على أن هذا الانقلاب الذي أحدثه هذا الملك في نظام الأسرة البطلمية قد أحيا نار الكراهية الدفينة التي كانت تضطرم في نفوس سكان الإسكندرية للملك البطين من جديد، ومن جهة أخرى نلحظ أن آمال أولئك المهاجرين — الذين كانوا قد أفلتوا من انتقامه عندما رأوا سير الأحوال في الإسكندرية — قد انتعشت ودب في نفوسهم دبيب الأمل.

(٣-١) ظهور القائد «أتامانيس جالاتيس» والمدعي الجديد للملك

ونرى أن هؤلاء المهاجرين التفوا حول قائد قديم كان صديقًا للملك «فيلومتور» الراحل؛ وهذا القائد هو «أتامانيس جالاتيس» السالف الذكر، وكان «إيرجيتيس» قد جرده من كل أمجاده وعامله معاملة سيئة مما جعله يضطر إلى الالتجاء إلى بلاد الإغريق، وكان أول عمل قام به هذا القائد لهدم «إيرجيتيس» أنه نشر شائعة مؤداها أن الملك «فيلومتور» قد وكل إليه أمر آخر ذكر من نسله الشرعي وأمه هي الملكة «كليوباترا الثانية». وقد ضمن القائد إثبات حق هذا المدعي الجديد بشدة، واستعد فعلًا لإحضاره إلى مصر، بعد أن يعمل على ما يكفل استيلاءه على تاج الملك.٥ وتدل الأحوال على أن الفرصة كانت مواتية لخلع «إيرجيتيس» هذا الملك الطاغية؛ إذ كان الكل يُجمع على مقته وبغضه؛ ومن ثم أصبح تحت رحمة الجنود المرتزقين الذين كانوا سنده الوحيد. غير أن هؤلاء بدورهم كانوا قد أظهروا له كل وقاحة وتمرد؛ يبرهن على ذلك أنه اتفق ذات يوم أن الخزينة الملكية كانت مفلسة، ولم يكن في مقدورها صرف مرتبات هؤلاء الأجناد؛ وقد كان من جراء ذلك أن سُمعت أصوات احتجاجاتهم تدوي عاليًا مهددة بسوء العاقبة لدرجة أن هؤلاء المرتزقين وعدوا بانضمامهم إلى القائد «جالاتيس» الذي كان يهدد بسقوط ملك «إيرجيتيس»، ولكن في هذا الموقف الحرج قام أحد الحكام العسكريين الذي يُدعى «هيراكس» Hierax بتقديم المبلغ اللازم لصرف أجور الجنود، ومن ثم أوقف انفجار الثورة على الملك.

وعلى الرغم من تزعزع عرش «إيرجيتيس الثاني» فإنه بقي مدة طويلة لم يُصِبْهُ أذى. والواقع أننا لم نسمع أي شيء بعد عن الحركة التي قام بها «جالاتيس» ولا عن المدعي الجديد لعرش البلاد الذي كان في حيازته، ومن المحتمل أن عدم نجاح مؤامرة هؤلاء المهاجرين هو قلة المال الذي يمكنهم من أن يشرعوا في إشعال نار حرب أهلية. ومما يؤسف له أنه قد مرت بضع سنوات دون أن تمدنا المصادر التي بين أيدينا بأية حوادث في هذا الصدد.

(٤) سير الأحوال في سوريا

والظاهر أن أنظار المؤرخين وقتئذ كانت قد تحولت نحو سير الأحوال في «سوريا»؛ حيث كانت الأحداث هناك قد أقضت مضجع «كليوباترا» كبرى بنات الملك «فيلومتور»، فعانت من المصائب أكثر مما كانت تعانيه أختها «كليوباترا الثانية» في مصر.

وتفسير ذلك أن زوج «كليوباترا تيا» الثاني، وهو «ديمتريوس الثاني نيكاتور» كان قد قضى الست سنوات التي جاءت بعد انتصاره (عام ١٤٦–١٤٠ق.م) في محاربة رعاياه الذين فرض عليهم حقوق الفاتح المنتصر بكل قسوة، وعلى الثائرين الذين كانوا يقفون في وجه استبداده وعتوه. وقد كان من جراء ذلك أن رجلًا يُدعى «ديو دوتوس» وهو الذي كان يُلقَّب «تريفون» Tryphon قد جاء ومعه ابن «إسكندر بالاس» و«كليوباترا تيا» من عند النباطيين، وأعلنه ملكًا على «سوريا» عام ١٤٦ق.م باسم الملك «أنتيوكوس السادس إبيفانس ديونيسوس». وقد أصبحت سوريا منذ ذلك الحين مقسمة فريقين؛ أحدهما: معسكر «تريفون» والملك الجديد واتخذ «أنطاكية» مقرًّا له، وكان يعارض هذا الفريق في فلسطين أمراء اليهود، أما الفريق الآخر: فكان على رأسه «ديمتريوس» الذي كان يسيطر على سائر البلاد وعلى «سليوس» الواقعة على نهر العاصي «الأرنت»، وهي التي اتخذها «ديمتريوس» عاصمة لملكه مؤقتًا. وعلى أية حال لم تَمْضِ مدة طويلة حتى تخلص «تريفون» من «أنتيوكوس السادس» (عام ١٤٣-١٤٢ق.م) ليحكم هو مكانه، والظاهر أن هذا الملك الفتى كان قد تُوفِّي على أثر عملية جراحية.٦ ولا نزاع في أن «تريفون» كان قد أخذ درسًا عن «إيرجيتيس» الذي كان قد قدم تفسيرًا مقبولًا عن موت «بطليموس نيوس فيلوباتور».

(٤-١) ديمتريوس ملك سوريا وغرامه بالأميرة روديجين ونتائجه

وفي خلال تلك الفترة أحس «ديمتريوس» أنه بسبب هذه الاضطرابات قد تصبح أقاليمه التي في الشرق عرضة للوقوع نهائيًّا في يد البارثيين (إيران)؛ ومن أجل ذلك قام بحملة على هؤلاء الغزاة لاسترداد «إيران»، غير أن الحظ خانه هناك وهُزِم هزيمة منكرة، وأُخذ أسيرًا، وقد عزاه — في خلال مدة أسره — الحب الذي نشأ بينه وبين الأميرة «روديجين» ابنة الملك «متراداتيس» قاهره (١٣٨-١٣٧ق.م).

وعندما كان «ديمتريوس» يمني نفسه بالآمال في العودة إلى ملكه الذي حُرم منه، وذلك بمساعدة ملك «بارثيا»، وقد حاول الإفلات من أسره من وقت لآخر؛ نجد أن «أنتيوكوس» السيدي (أنتيوكوس السابع السيديتي) كان مستمرًّا في محاربة «تريفون». أما «كليوباترا تيا» التي كانت حبيسة مع ابنها وأطفالها في مدينة «سليوس» فقد وهبته نفسها وعرش الملك عندما علمت أن زوجها قد تزوج من الأميرة «روديجين».

وبذلك حل «أنتيوكوس السابع» محل أخيه بوصفه ملكًا وزوجًا؛ فكان بذلك بديلًا لأخيه من غير إكراه. والواقع أنه كان يعد نفسه بمثابة حارس لكل ما كان سيسلمه يومًا ما إلى الملك الشرعي الأسير (١٣٩-١٣٨ق.م)، والظاهر أن «أنتيوكوس السابع» أخذ بعد ذلك يلتفت إلى «تريفون»، وبخاصة أنه كان وقتئذ قد أصبح مكروهًا في «أنطاكية»، هذا فضلًا عن قيام خلاف بينه وبين اليهود؛ وفوق كل ذلك كان مجلس الشيوخ الروماني قد أظهر جفوته له وتغاضيه عنه، وذلك على الرغم من تقربه منه؛ ومن ثم ألقى بنفسه إلى التهلكة بما أظهره من قلة الحزم وعدم الروية، وفعلًا أدت كل هذه الأسباب مجتمعة إلى أن «تريفون» هذا قد أُسِرَ، ثم أُعْدِمَ بعد أربعة أعوام من اغتصابه ملك سوريا (عام ١٣٨ق.م). أما «أنتيوكوس» فإنه على الرغم مما أظهره من الميل إلى إعلان الحرب على «البارثيين» من أجل خلاص أخيه فإنه لم يكن في استطاعته القيام بهذه الحرب في تلك الفترة؛ إذ كان عليه قبل أن يقوم بهذا العمل الجبار أن يحول مجهوده نحو اليهود، ويرقبهم عن كثب، ثم يعلن عليهم الحرب في اللحظة المناسبة؛ أما اليهود فإنهم على الرغم مما كان بينهم من مشاحنات وخلافات داخلية، فإنهم أفادوا من المنازعات الخارجية التي كان «أنتيوكوس» مشغولًا بها لأجل أن يوطدوا استقلالهم الذاتي، هذا وكان اليهود قد تعودوا الالتجاء إلى مجلس الشيوخ عندما كانت تحل بهم كارثة أو تصيبهم مصيبة.

(٤-٢) مجلس الشيوخ يرسل بعثًا إلى الشرق لتفقد أحواله يرأسه «سبيون»

على أن مجلس شيوخ «روما» — الذي كان يُعتبر المهيمن على سياسة العالم وقتئذ — أراد أن يقف على جلية الأحوال في الشرق، وذلك بعد أن وردت إليه أخبار متضاربة؛ ومن أجل ذلك كلف بعثًا من عظماء رجاله؛ ليأتي إليه بالمعلومات الصادقة حوالي عام ١٣٦-١٣٥ق.م. وهذا البعث كأن يتألف من «سبيون أمليان» Scepion Emelien قاهر «قرطاجنة» وبصحبته «موميوس» الآخي والقنصل «ميتلوس» Metellus أخ «ميتلوس» المقدوني. وكان كل هؤلاء من الشخصيات الذين يحتلون مكانة في الصف الأول في مجلس الشيوخ، وقد كانت مهمتهم تنحصر في بحث أحوال الممالك المحالفة لروما. ولا بد أن نشير هنا إلى أن تاريخ هذا البعث كان موضع نقاش وجدال.٧

(٤-٣) البعث يبتدئ بزيارة مصر

وتدل الشواهد على أن هذا البعث الروماني قد بدأ عمله بزيارة مصر. وقد وصف لنا بعض المؤرخين التناقض العجيب الذي ينطوي على سخرية لاذعة؛ وأعني بذلك التناقض الذي مُثل في الصورة التي وُضِعَتْ لكل من «سبيوس» و«بطليموس البطين» في كفتي الميزان، وذلك عندما تقابلا سويًّا في الإسكندرية؛ فقد ظهر البطل الروماني الجمهوري بمظهر الرجل البسيط في ملبسه والوقور في أخلاقه، ومعه صديقه الفيلسوف «بانيتيوس» Panetios وبعض الخدم الذين كانوا يرتدون ملابس محترمة تدل على ذوق سيدهم، في حين أن «بطليموس إيريجيتيس الثاني» قد ظهر بوجه سمج وجسم مثقل بالكسل، تبدو عليه علامات الانهماك في اللذات، يجر ساقيه المتراخيتين، ويبرز أمامه كرشه المنتفخ، مما جعله يستحق دون جدال أن يُطلق عليه لقب «البطين». هذا، ونلحظ أنه عندما رست السفينة التي كانت تقل البعث الروماني سار «سبيوس» إلى الأمام وقد غطى رأسه بعباءته لأجل أن يحجب نفسه عن أنظار العامة، ولكي يتفادى حب استطلاعهم، غير أنه لم يلبث أن اضطر إلى استجابة طلب الشعب الذي كان يهرع لرؤياه، وكشف عن وجهه، وتابع سيره بين الهتافات المعبرة عن الاعترافات بالجميل.

(٤-٤) وصف زيارة البعث لمصر

أما «إيرجيتيس الثاني» فنراه وقد أسرع في السير أمام ضيوفه، والواقع أن أهالي الإسكندرية قد فرحوا برؤيته وهو مرتدٍ ثوبًا خفيفًا يكاد يكون شفيفًا، وكان العرق يغمره وأنفاسه تتلاحق بسرعة كما كان يبذل مجهودًا جبارًا للحاق برجال البعث الذين كانوا قد أرادوا أن يهزأوا منه عندما رأوا أنه كان يجر ساقيه جرًّا في شوارع الإسكندرية بسبب بدانته. وفي خلال سير الموكب مال «سبيوس» على زميله «بانيتيوس» وهمس في أذنه قائلًا: لقد أفاد فعلًا أهالي الإسكندرية من زيارتنا؛ إذ يرجع الفضل إلينا في أنهم قد رأوا مليكهم يتنزه على قدميه.

ولقد كان من الطبيعي أن يستقبل «بطليموس» هؤلاء المبعوثين الرومان بكل أبهة وحفاوة وبكل ما لديه من جاه. والواقع أنه أقام لهم ولائم فاخرة، كما أطلعهم على النفائس التي كانت تحتويها الخزانة الملكية، وذلك أثناء جولاته معهم في قصره، ومما يلفت النظر في أخلاق المبعوثين الرومان أنهم كانوا يُمَيَّزُون بما جُبِلُوا عليه من فضائل كريمة؛ فلم يتناول واحد منهم مما قُدِّمَ إليه من الطعام إلا ما كان ضروريًّا، هذا مع ترفعهم عن الأطعمة الغالية التي تدل على البذخ والإسراف؛ زعمًا منهم أنها تفسد الروح والجسم معًا. أما الثروات والنفائس التي كان الملك يُعْجَبُ بها ويعرضها أمامهم، فإنهم لم يأبهوا بها أبدًا؛ بل كانوا في الواقع يغضون من أبصارهم عنها أثناء سيرهم في جنبات القصر؛ ولكن من جهة أخرى كانوا يقبلون على مشاهدة ما كان يستحق الالتفات فعلًا؛ فمن ذلك أنهم فحصوا عن كثب موقع المدينة، وأهمية الفنار وخصائصه. وبعد ذلك نجد البعث يصعد في النيل حتى مدينة «منف» الخالدة. وفي خلال تلك المرحلة لمسوا مقدار خصوبة أرض مصر وقدروها حق قدرها، كما قدروا ما يسبغه فيضان النيل السنوي على البلاد من نفع، وكذلك عرفوا عدد مدن مصر وما فيها من سكان يخطئهم العد، كما عرفوا موقع مصر الحصين وأحوالها الممتازة التي تؤكد قيام إمبراطورية عظيمة وتضمن أمانها، وبعد أن رأوا — والدهشة تملأ نفوسهم — جموع السكان الفقراء، وكذلك تخطيط الأماكن المصرية، أجمعوا على أن هذه البلاد يمكن أن تصبح دولة قوية عظيمة إذا وُضِعَ على رأسها أسياد جديرون بتولي شئونها.

(٤-٥) مغادرة البعث مصر وتقريرهم عنها

وبعد أن انتهت جولة البعث في أرض الكنانة غادروها قاصدين جزيرة «قبرص»؛ ومن ثم ولوا وجوههم شطر «سوريا». والآن لا يسعنا في هذا المجال إلا أن نترك لرجال البلاغة والبيان العناية بنظم عقود المديح في فضائل رجال هذا البعث الذين اكتفوا من الحياة بأكل ما يسد رمقهم، ولم يغرهم ما عُرِضَ أمام أعينهم من النفائس والقناطير المقنطرة من الذهب، وعلى أية حال يمكن الإنسان أن يكون على يقين من أن رجال هذا البعث المتزنين قد دونوا ملاحظاتهم عن كل ما شاهدوه، وأن التفاتهم لم يكن بأية حال من الأحوال يرمي إلى غرض حتى لا يُفْهَم أنه كان شهوة أو رغبة شخصية. وقد حملوا معهم إلى «روما» الاعتقاد بأن بلادًا تزخر بالثراء مثل مصر لا يجب أن تفلت من يد الرومان، أما من جهة النصيحة الطيبة التي أمكنهم أن يقدموها إلى «بطليموس» بسلوكهم هذا فلا نعلم لها من أثر فعال؛ إذ الواقع أن «إيرجيتيس» ظل يعيش بين ندمائه الذين كانوا يشاطرونه متعه الرخيصة، وكذلك بين جنوده القدامى المدنسين. هذا، وقد كان مكروهًا من أهالي الإسكندرية أكثر مما كان في سائر بلاد القطر؛ إذ إن رجال الدين الذين عرفوا فيه الغيرة على إقامة المعابد، وكما أن الأهالي بوجه عام تعرف فيه ميله لتخفيف عبء السخرة عنهم؛ ومن أجل هذا كانوا يميلون إليه بعض الميل.

(٤-٦) زيارة البعث أتت بنتيجة عكسية

وما لا شك فيه أن زيارة السفراء الرومان لمصر لم تَأْتِ إلا بنتيجة عكسية؛ وذلك أنها زادت في غضب مدينة الإسكندرية التي جُبِلَتْ من أول نشأتها على الكبرياء؛ فقد أحس الأهالي من هذه الزيارة أن ملكهم الطاغية كان يستند على مساعدة الأجنبي له. وقد انتهزت «كليوباترا الثانية» التي كان يحبها الشعب الإسكندري هذه الفرصة، وحركت النار التي كان وميضها متأججًا تحت الرماد؛ وذلك للانتقام لنفسها بما كانت تكنه من حقد دفين بين جوانحها لهذا العاتي الذي ارتكب معها أبشع جرائم القتل إن صح ذلك.

(٤-٧) قيام ثورة في البلاد وهرب إيرجيتيس إلى «قبرص»

وعلى هذا لم تلبث الثورة التي كانت مُنْتَظَرَة منذ زمن طويل أن اندلع لهيبها أخيرًا عام ١٣١-١٣٠ق.م. وعلى قدر ما يمكن أن نحكم به بما لدينا من تأريخ غير مؤكد فيما يخص هذه الحوادث المحزنة؛ نفهم أن الملك البطين أراد أن يقضي على بوادر هذه الثورة، وذلك بنشر الزعر والهلع في نفوس سكان الإسكندرية؛ فمن ذلك ما قِيل أنه ذات يوم أحاط ملعبًا رياضيًّا مكتظًّا بالشباب، وذلك بطائفة من رجال شرطته الذين ما لبثوا أن أشعلوا فيه النار، وقضوا على الذين نجوا من الحريق بالقتل.٨ غير أن هذا العمل الأخير جعل الكيل يطفح والأمور تتأزم حتى بلغ السيل الزبى والحزام الطبيين ولم يَبْقَ في القوس منزع، لدرجة أن الشعب الذي خرج عن شعوره صمم على حرق هذا الطاغية في مقره، وإشعال النار في قصره. غير أن «إيرجيتيس» كان قد أحس بالخطر، ولم ينتظر حتى ساعة إنزال العقاب به؛ إذ نراه قد أفلت سرًّا مع زوجه الفتاة وأولادها وولد آخر كان قد رُزِقَ به من زوجه الأولى «كليوباترا الثانية» وهو الذي يُسَمَّى «المنفي» والذي كان لا يزال فتى، وقُدِّرَ له أن يكون بمثابة رهينة عنده، وقد عُلِمَ بعد فرار «بطليموس إيرجيتيس» بمدة وجيزة أنه هرب إلى «قبرص»، وأنه جمع حوله هناك جيشًا من الجنود المرتزقين تمهيدًا لعودته على رأس هذا الجيش إلى الإسكندرية. ولا بد أن نلحظ هنا أن ثورة الشعب الإسكندري لم تهب على أسرة البطالمة؛ بل كانت ثورته بالذات على «بطليموس إيرجيتيس الثاني» شخصيًّا؛ وعلى ذلك فقد كان على الشعب أن يعلن سقوط هذا الملك الهارب، وفي الوقت نفسه يعترف بالملكة «كليوباترا الثانية» ملكة على مصر. غير أنهم أرادوا بعد ذلك أن يسيروا على نهج العادة المتبعة التي كانت تحتم وجود ذكر على عرش الملك، ومن أجل ذلك أخذوا يبحثون في الأسرة المالكة عن ذكر يمكن أن يقوم بدور الزوج للملكة «كليوباترا» سواء أكان ذلك حقيقة أم رمزًا على حسب قانون وراثة العرش. ومما يؤسف له أنه لم يوجد فرد تتوافر فيه الشروط المطلوبة؛ لأن أولاد «بطليموس السابع» الذين أنجبهم من «كليوباترا الثالثة» لم يقبل الإسكندريون ترشيح واحد منهم للملك، ولكن كان هناك ممثل واحد ذكر من الأسرة جدير بأن يقوم بهذا الدور وهو بكر أولاد «بطليموس السابع» الذي أنجبه من زواج غير شرعي من امرأة تُدْعَى «إيرن». ومن المحتمل أنه هو الذي كان قد وُكِّلَ إليه حكومة «سرنيقا». هذا، ولم يكن لدى أهالي الإسكندرية غير هذا المخرج.

(٤-٨) بطليموس السابع يقتل ابنه انتقامًا من والدته كليوباترا الثانية

ولكن «بطليموس البطين» علم بالخبر، وأفسد عليهم خطتهم بارتكاب جريمة جديدة؛ وذلك أنه طلب إلى ابنه ملك «سرنيقا» أن يحضر عنده في «قبرص»، وعلى أثر وصوله إلى «قبرص» قضى على حياته. وعندما سمع أهل الإسكندرية بهذا النبأ المفجع قاموا بتهشيم تماثيل «بطليموس السابع» تهشيمًا تامًّا، وقد كان جواب هذا الملك اللعين أفظع وأنكى على هذه الإهانة التي ادعى أن «كليوباترا الثانية» هي المسئولة عنها؛ فقد قام في الواقع بانتقام خسيس دنيء ماكر كالذي نسمع عن أمثاله في الأساطير، وبخاصة في قصة «أوزير» و«ست» عندما قطع الأخير جسم الأول ونثره في أنحاء أرض الكنانة، وذلك أن «إيرجيتيس» أمر بقتل ابنه «المنفي» على مرأى منه، ثم قطعه إربًا إربًا، ثم وضع أشلاءه في صندوق أرسله إلى أمه «كليوباترا» زوجه وأم الطفل القتيل إلى الإسكندرية بمثابة هدية لها في يوم عيد ميلادها.٩ وإذا كان هذا الحادث قد وقع فعلًا على يد هذا البطين فإن انشراحه قد كان يبدو بطبيعة الحال أكثر كمالًا إذا كان قد أمكنه أن يقدم لحم ابنه وابنها طعامًا لها كما حدث في الأسطورة التي تروي لنا قصة «أتري» Atree — ابن «بولبس» وملك «ميسيني» المشهورين — الذي كان يكره أخاه «تيست» Thyeste فانتقم منه أشنع انتقام يمكن تصوره، وذلك أنه ذبح تانتال Tantale و«بليستين» Plisthene ابنا «تيست» وقدم لحمهما طعامًا لوالدهما في وليمة. ولكن على أية حال نجد في هذه القصة أن الجاني قد قُتِلَ بيد «إيجيست» Egisthe وهو ابن آخر من أولاد «تيست». والواقع أن غضب الشعب الإسكندري وحنقه على «بطليموس البطين» قد بلغ أقصى مداه عندما سمع بهذه الجريمة التي لا يمكن أن تُجَارَى في شناعتها وشدة هول وقعها في نفوس الشعب.
والآن يتساءل الإنسان ماذا ستكون نتيجة الصراع الذي أصبح الآن بين أهالي العاصمة الذين لم يكن لديهم من القوة إلا ما ملكت أيديهم وحسب، لا سيما بعد أن أصبح من المؤكد أن سائر أهالي القطر لا يهمهم أمر هذه المنازعات التي كانت بين الإسكندريين وبين هذا البطين العاتي الحانق الذي جمع في «قبرص» أسطولًا وجيشًا ليدخل بهما الإسكندرية كرة أخرى، ويستولي على عرش الملك الذي طُرِدَ منه؟ والجواب على هذا السؤال ليس في الاستطاعة تقديمه هنا؛ لأن المصادر القديمة التي في أيدينا لا تسعفنا قط. غير أن المؤرخ الكبير «بوشيه لكلرك» أجاب على هذا السؤال مستفهمًا بدوره هل يجب علينا أن نتعرف على «إيرجيتيس الثاني البطين» بأنه هو «بطليموس الكبير» أو العجوز (أي بطليموس سوتر) الذي على حسب ما ورد في قطعة من «ديدور» قد أرسل القائد «هيجيلوكوس» Hegelachos ليحارب الإسكندريين الذين كان يقودهم رجل يُدْعَى «مارسياس» Marsyas، وأنه بعد أن هزم أهل الإسكندرية هزيمة منكرة أظهر كرمًا وحسن معاملة لم تكن منتظرة لمناهضة «مارسياس»؟
وعلى أية حال يحدثنا «ديدور» أن «بطليموس البطين» أخذ في تغيير اتجاهاته؛١٠ إذ بدأ يظهر بمظهر الإنسان بتهدئة غضب الأهالي عليه. وكذلك يتساءل «بوشيه لكلرك» هل يكون «هيجيلوكوس» هذا هو الموظف الذي يُسَمَّى «لوكوس» Lochos بن «كاليميديس» Callimedes الذي كان في حمايته التجار الإغريق منذ استيلاء الملك «بطليموس» الإله المخلص (سوتر) على الإسكندرية، وقد أقاموا له تمثالًا في «ديلوس»؟١١ والواقع أننا نعرف أن «لوكوس» هذا قد أصبح حاكمًا حربيًّا على منطقة «طيبة» ويحمل ألقابًا تدل على عظم مكانته (راجع CIG., 4896 A-B = Strack 103 Obelisque of Philae).

(٤-٩) انفراد كليوباترا بالملك

وعلى أية حال فإن ما جُمِعَ من مصادر متفرقة عن هذه الفترة المظلمة يدل على أن «كليوباترا الثانية» قد انفردت بملك مصر باسم «كليوباترا فيلومتور سوتيرا» (= كليوباترا محبة أمها الإلهة المخلصة). غير أنه لم يكن لها من ناصر غير أهالي الإسكندرية، وغير جزء ضئيل من أرض الكنانة؛ إذ يبدو أن أهالي مدينة «طيبة» قد اعترفوا بها ملكة على غرار ما فعله أهل الإسكندرية.

ومما لا شك فيه أن هذه الحركة التي قامت على «إيرجيتيس» في «طيبة» وجعلتها تناصر «كليوباترا» كان سببها غياب حامية هذه المدينة وانهماكها في إخماد عصيان فلاحي بلدة «أرمنت» الواقعة على الضفة الأخرى من النيل، وقد أُخْمِدَ هذا العصيان فعلًا في مهده على يد الجيش الذي بقي على ولائه للملك «إيرجيتيس الثاني البطين». هذا، ولدينا رسالة تحدثنا عن هذا العصيان مُؤَرَّخَة بالثالث والعشرين من شهر كيهك من العام الخمسين من عهد «بطليموس إيرجيتيس الثاني» (= ١٤ يناير سنة ١٣٠ق.م)، كتب هذه الرسالة جندي يُدْعَى «استالداس» Esthaldas١٢ كان عليه أن يذهب لينضم إلى فرقة حرس المقدمة في «أرمنت». وكان قد وصل إلى مسامع هذا الجندي أن الحاكم الحربي لمقاطعة «طيبة» المسمى «باوس» سيقود — إلى «أرمنت» في الشهر القادم (طوبة) — قوة كافية لقمع عصيان أهالي «أرمنت» ومعاملتهم معاملة الخارجين على السلطة الشرعية في البلاد.

(٤-١٠) ثورة طيبة على بطليموس السابع

هذا، وحوالي شهر أكتوبر عام ١٣٠ق.م خرجت مدينة «طيبة» على «إيرجيتيس الثاني البطين»، ولكن حامية مدينة «قفط» وكذلك الجزء الأعظم من الجنود الذين كانوا تحت إمرة «باوس» الحاكم في هذه الجهة قد بقوا دائمًا على ولائهم للملك «البطين» ولزوجه وأولاده.

وعلى أية حال لم تُعرف المدة التي ظلت خلالها «طيبة» تقاوم «بطليموس البطين». أما ثورة «أرمنت» فقد قُضِيَ عليها على أكثر تقدير في ربيع عام ١٢٩ق.م، ويظهر أن ثوار «طيبة» لم يلقوا سلاحهم في نفس الوقت.

على أنه لدينا بردية مؤرخة بالثامن من شهر كيهك عام ٤٣ من حكم «بطليموس البطين» (= ٩ يناير سنة ١٢٧ق.م)، وهذه الورقة تتحدث عن كهنة وكاهنات خاصين بعبادة الأسرة المالكة، ومن ثم على أية حال يمكن أن نأخذ بما استنبطه المؤرخ «ماير»١٣ القائل بأن المناوشات استمرت قائمة في «طيبة»، غير أنه لا يُستنبط من ذلك أن «البطين» لم يكن قد استولى فعلًا على الإسكندرية من جديد.

(٤-١١) الصلح بين كليوباترا وبطليموس السابع

والواقع أن حكم «كليوباترا الثانية» قد بدأ بوصفها ملكة منفردة على البلاد ثم انتهى في الإسكندرية لمدة قصيرة جدًّا؛ إذ يظهر أنها قدمت خضوعها نهائيًّا في خلال عام ١٢٩ق.م لمجريات الأمور.

ولا نزاع في أنه كان من الغريب بل من المدهش حقًّا أن نرى «إيرجيتيس الثاني البطين» بعد دخوله الإسكندرية دخول الظافر المنتصر كما حدثنا بذلك المؤرخ «ديدور» أخذ يظهر لين جانب وحسن معاملة لم تكن متوقعة منه أبدًا على حسب ما صوره لنا المؤرخون الذين قالوا عنه إنه كان محبًّا للانتقام فتاكًا بخصومه. ومن أجل ذلك نجد أن الإسكندريين قد ذُهِلُوا لهذه المعاملة السمحة حتى إنه لم يَكَدْ أحد يصدق أنه مخلص فيما يظهره من تغير مفاجئ لم يكن في الحسبان. أما من جهة «كليوباترا» فكان لديها من الأسباب الخاصة ما لا يجعلها تعتمد على سماحة «البطين» التي كانت في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب؛ ومن أجل ذلك فرت إلى جوار زوج ابنتها «ديمتريوس الثاني» ملك «سوريا» حاملة معها ما في خزانتها من نقود ومتاع. وقد أمرت أن تُوضع كل ثروتها معها في السفينة التي أقلعت بها إلى مخبئها الجديد. وكانت «كليوباترا» تأمل في أن تجد في «أنطاكية» ملجأ مأمونًا كما كانت تأمل أن تجد هناك العون والنجدة التي كانت قد طلبتهما في العام المنصرم ولكن دون جدوى.١٤

(٥) الموقف السياسي والحرب في سوريا

عندما رأى ملك «بارثيا» أن «أنتيوكوس السابع سيدتيس» قد قام بحملة على بلاده لتخليص أخيه «ديمتريوس» من الأسر؛ فطن لذلك وأطلق سراحه. وعلى أثر ذلك أتى «ديمتريوس» إلى بلاده، غير أنه وجد نفسه في موقف غريب حقًّا؛ وتفسير ذلك أن الملك «فرات الثاني» Phrate ملك «بارثيا» كان يعتمد على ما عساه أن يحدث من اضطرابات بسبب المنافسة بين الأخوين على الملك؛ إذ الواقع أنه لم يكن هناك في «سوريا» إلا عرش واحد وامرأة واحدة مشتركة بين الأخوين؛ وذلك لأن «أنتيوكوس السابع» كان قد تزوج من «كليوباترا تيا» بعد وقوع أخيه في الأسر، وكانت في الوقت نفسه لا تزال على ذمة أخيه الأسير. ولما كان «أنتيوكوس السابع» محبوبًا من الشعب بقدر ما كان أخوه مكروهًا، فإنه من أجل ذلك لم يكن في استطاعته أن ينزل لأخيه عن الملك حتى لو أراد ذلك، ولكن موت «أنتيوكوس السابع» على يد أهل «بارثيا» قد حل المشكل، وعلى الرغم من ذلك فإن هذا الحادث لم يجعل «ديمتريوس» يروق في أعين الشعب؛ بل الواقع أن الشعب قد زاد كرهه له في تلك الآونة أكثر من قبل أسره. يُضاف إلى ذلك أن زوجه التي أراد أن يعيد معاشرتها من جديد كانت تمقته؛ وذلك لأنها كانت لا ترى فيه إلا زوج «روديجين» ابنة ملك «بارثيا». هذا فضلًا عن أنه كان يظهر أمام الشعب بمظهر المتكبر العاتي. ويُلحظ أنه في تلك الفترة كان قد أرخى لحيته على الطريقة الشرقية، ومن ذلك يُفهم أنه كان مُرْتَدًّا عن الهيلانستيكية.١٥ ولقد بلغ من كره الشعب ﻟ «ديمتريوس» بسبب سوء أخلاقه أن أصبحت دائرة حكمه محصورة في قصره؛ ومن ثم كانت الحروب الداخلية قاب قوسين أو أدنى، وأنه بقيام هذه الفتنة يمكن طرده من البلاد. وتدل الأحوال على أن «كليوباترا تيا» كانت هي التي تدبر العدة بنفسها لهذه الحرب، للخلاص من هذا الخائن لعهوده معها؛ وتفسير ذلك أنها قد آوت «سيزيك» Cyzique آخر ابن رُزِقَتْهُ من «أنتيوكوس السابع» في مكان أمين؛ ليتولى عرش الملك في اللحظة المناسبة، وهو الذي عُرِفَ بعد توليه العرش ﺑ «أنتيوكوس التاسع»، وكان يُطْلَق عليه لقب «سيزيك». وقد كان هذا الأمير مؤهلًا تمامًا لتولي عرش الملك؛ فقد كان حزب والده يعاضده، وقد كان العزم على الأخذ بهذا الرأي في حالة بقاء بكر أولادها وهو «سليوكوس» ومعه أخته «لأوديس» في «بارثيا» كما كان له الحق في الملك ويعاضده تمامًا حزب والده.

(٥-١) كليوباترا الثانية تصل إلى أنطاكية

غير أن وصول «كليوباترا الثانية» ملكة مصر إلى «أنطاكية» في هذه اللحظة المشحونة بالمتاعب والعقبات والاضطرابات ما لبث أن حول سوء الحال إلى حالة أحسن؛ إذ من المحتمل أن هذه الملكة قد عملت جل طاقتها لإصلاح ذات البين لتجعل الأمور تعود إلى مجاريها بين «كليوباترا تيا» ابنتها وبين زوجها، وذلك بما يتفق مع خطتها التي رسمتها لنفسها، وبما يتفق مع رأي «ديمتريوس» أن قيام حرب بينه وبين مصر يكون فيها خلاصه؛ وذلك لأن الجنود — الذين لم يجرؤ على جعلهم يزحفون على «جان هيركان» و«أدوم» في «فلسطين» خوفًا من أن يخونوه — كان من المحتمل أن يتبعوه عندما يهيئ لهم فتح مصر وإطلاق أيديهم في نهبها.

(٥-٢) وصول ديمتريوس في زحفه على مصر حتى «بلوز» وارتداده

وقد أفلحت «كليوباترا» في الوصول إلى تنفيذ خطتها، كما أفلح «ديمتريوس» في الزحف بجيشه حتى «بلوز»، غير أنه عندما لاقى بعض المقاومة تخاذل جنوده الذين كانوا يعقدون الآمال ويبنون القصور في خيالهم بما ينتظرهم من ثراء وفير دون عناء. وقد عصا الجنود أوامره؛١٦ ومن ثم كان لزامًا عليه أن ينكص على عقبيه مذمومًا مدحورًا.

(٥-٣) قيام ثورة في أنطاكية

وقد زاد الطين بلة أنه في خلال هذه الفترة اندلعت نار الثورة في «أنطاكية»، وحذت حذوها «أبامي»، وعلى أثر ذلك امتدت الثورة شيئًا فشيئًا إلى المدن الأخرى، ولم يَمْضِ طويل زمن حتى سمعنا أن الثوار اتصلوا بالملك «إيرجيتيس الثاني» يرجونه أن يرسل إليهم ملكًا يختاره هو على شريطة أن يكون من سلالة «السليوكيين».١٧ ولقد كان من أكبر دواعي سرور «إيرجيتيس الثاني» من المفاجآت السارة أن يسمع ويرى أنه يوجد ملك آخر في العالم غيره مكروهًا من شعبه أكثر منه، كما أنه اغتبط برؤية العاصفة التي كانت ستنقض عليه قد أخطأته، وانقضت على رأس أعدائه.

(٥-٤) مساعدة إيرجيتيس للثوار في سوريا

وسرعان ما عمل «البطين» على إجابة طلب أهل «أنطاكية»، غير أنه لما لم يجد في متناوله أميرًا من «السليوكيين» الحقيقيين فإنه أرسل وريثًا للملك من صنع يديه؛ إذ اختار شابًّا مصريًّا ابن تاجر يُدْعَى «بروتاركوس» Protarchos، وهو على حسب ما رواه المؤرخ «جوستن»١٨ قد رُشِّحَ بوصفه أنه ابن كان قد تبناه «أنتيوكوس السابع». أما المؤرخ «يوزيب»١٩ فيقول: إنه كان ابن «الإسكندر بالاس». وعلى أية حال أطلق «بطليموس إيرجيتيس الثاني» على صنيعته اسم «الإسكندر»، وهذا الاسم يعيد للذاكرة اسم «الإسكندر بالاس» الذي رشحه للملك فيما مضى في أحوال مشابهة «بطليموس فيلومتور»، وقد جهزه بجيش جرار. وفعلًا أبحر هذا المدعي الجديد قاصدًا «أنطاكية» وعند وصوله رحب به الشعب. ولم يَمْضِ على توليه العرش مدة حتى صك نقودًا مُثلت عليها صورته عام ١٢٨ق.م. وعلى الرغم من تولي هذا الدعي عرش الملك، فإن الأحوال لم تستقر له إلا بعد ثلاث سنوات قضاها في حرب مع مناهضه. وفي نهاية الأمر هُزِمَ «ديمتريوس» في «دماس»، كما هجرته «كليوباترا تيا»؛ فقد أوصدت أبواب «بطليمايس» في وجهه بعد أن أتى إليها فارًّا من ساحة القتال، وبعد ذلك نجده قد قُتِلَ في مدينة «صيدا» بأمر من الحاكم هناك، وذلك عندما كان يحاول الإبحار ليلتجئ إلى معبد «ملقارت»٢٠  Melqart عام ١٢٥ق.م، وبعد هذه الحروب نرى «الإسكندر الثاني» الذي لُقِّبَ «زابيناس» Zabinas (أو العبد الذي اشتراه سيده من السوق) قد أصبح ملكًا على «سوريا» دون منازع، ولم يَبْقَ أمامه إلا إخضاع «فنيقيا» حيث كانت «كليوباترا تيا» لا تزال تحكم فيها باسم الأسرة الشرعية.
وتدل الأحوال أن الحظ قد ابتسم للملك «إيرجيتيس الثاني» أكثر مما كان يأمل عندما أراد أن يحذو حذو أخيه «فليومتور»؛ وتفسير ذلك أن «الإسكندر زابيناس» ملك سوريا كان مثله كمثل «الإسكندر بالاس» قد اعتبر نفسه صنيعة ملك مصر. ومن المحتمل أن الملك «البطين» أراد أن يسير في تقليده لأخيه حتى النهاية، فحاول أن يستغل خدماته لملك «سوريا» الجديد بأن يجعله ينزل له عن «سوريا الجوفاء» غير أن «الإسكندر زابيناس» لم ينزل على إرادة الملك «البطين»، وعندئذ رأى «بطليموس البطين» أن يفيد من سوء تقديره للأحوال التي كانت تجري حوله؛ ومن أجل ذلك وجد أنه من الخير له أن يعقد صلحًا مع أخته «كليوباترا الثانية»، وعلى أثر ذلك ولت وجهها شطر الإسكندرية لتأخذ مكانها على عرش مصر في الإسكندرية بوصفها الملكة الأخت بجوار ابنتها «كليوباترا الثالثة» الملكة الزوجة، وذلك في عام ١٢٤ق.م.٢١

(٥-٥) سياسة كليوباترا تيا في سوريا بعد قتل أبيها

وهذا الصلح أو التراضي الرسمي كان من آثاره انقلاب في مجرى السياسة المصرية؛ وذلك أن «بطليموس البطين» عرض وقتئذ على ابنة أخته «كليوباترا تيا» أن يعيد لها كل ملك «سوريا» وذلك بخلع «الإسكندر زابيناس». على أن «كليوباترا تيا» لم تعد بعد بالمرأة المستسلمة الخاضعة التي تنتقل من يد إلى يد أخرى بحد السيف؛ لأن مرارة تجارب الحياة وما قاسته من أهوال خلال حياتها التعسة قد جعلها تتحول إلى امرأة طموحة، ومن ثم أرادت أن تكون هي الآمرة بعد أن سئمت الاستسلام؛٢٢ ومن ثم قبلت عرض «إيرجيتيس الثاني».
ونحن نعلم أنها خانت زوجها «ديمتريوس» ولم تعارض في قتله، وبعد ذلك نجدها قد أمرت بقتل ابنها الأكبر «سليوكوس الخامس» الذي كان قد استولى على لقب ملك دون إذن منها عام ١٢٥ق.م، وفعلت فعلتها هذه لتعطي تاج الملك لابنها الثاني ابن «ديمتريوس الثاني»، وقد سُمِّيَ «أنتيوكوس الثامن» وهو الذي كان يُلَقَّبُ «جريبوس» Grypos (أي صاحب الأنف المعقوف)، وكان قد وعدها الأخير بأن يكون طوع بنانها، وأن يتركها تحكم البلاد بدلًا منه. ويقول المؤرخ «أبيان»٢٣ إن سبب قتلها لابنها «سليوكوس الخامس» كان لأحد أمرين؛ إما لأنه كان يريد أن ينتقم منها لقتلها والده، أو لأنها كانت ثائرة على الكل. وعلى أية حال فإن ارتكاب مثل هذه الجرائم لم تكن تدعو الملك «البطين» لأن يبتعد عنها؛ إذ إنها في الواقع كانت تسير على نهج إجرامه فكلاهما سفاك … وعلى أثر توقيع المعاهدة بينها وبين «إيرجيتيس» بما عرضه عليها نجد أنه قد حافظ على عهده، ووضع جيشًا تحت تصرف «أنتيوكوس الثامن» ابنها؛ هذا فضلًا عن أنه زوَّجه من ابنته «كليوباترا تريفانا» Tryphaena؛ وذلك ليبرهن لسكان البلاد أنه قد وطد العزم على ألا يتخلى عن مرشحه لملك «سوريا».
والظاهر أن السوريين عندما رأوا أن الحظ كله قد تحول إلى «أنتيوكوس جريبوس» أسرعوا إلى الانفضاض من حول «الإسكندر زابيناس» وتخلوا عن معاضدته، وفعلًا دارت عليه الدائرة في أول واقعة التقى فيها مع عدوه، وقد حاول أن يقاوم في «أنطاكية»، غير أنه لما لم يكن لديه مال للاستمرار في الحرب فقد عرج على خزائن المعابد فاستولى على ما فيها، وقد كان من جراء التعدي على حرمة المعابد أن هب القوم في وجهه لانتهاك قدسية تلك المعابد، وقد كانت نتيجة ذلك أن فر «الإسكندر زابيناس»؛ ولكنه وقع في يد الناهبين الذين سلموه بدورهم ﻟ «أنتيوكوس الثامن» الذي أنهى الحرب الداخلية هذه بقتل مناهضه عام ١٢٣ق.م (راجع Justin, XXXIX, 2, 3–6.)

ومما تجدر ملاحظته هنا أنه منذ أن استتب الأمر في «سوريا» لم نَرَ «إيرجيتيس الثاني» — على ما يظهر — يهتم بأحوال هذه البلاد، ولا مراء في أنه كان في مقدوره أن يتتبع سير الأحوال في «سوريا» بما فُطِرَ عليه من برود الرجل الخبير بالدسائس الإجرامية التي كانت قائمة هناك، وهي التي أدت في النهاية إلى إنزال العقاب الإلهي على «كليوباترا تيا» عام ١٢١ق.م؛ إذ لاقت حتفها بيدها هي.

(٥-٦) موت كليوباترا تيا بالسم

وذلك أن هذه الملكة السفاكة الطموحة بعد أن ضحت بدم زوجها ومن بعده بدم ابنها؛ أرادت — تلبية لإرضاء شهوة الحكم التي كانت تسيطر عليها — أن تقضي على حياة ابنها «أنتيوكوس» (الأعقف الأنف) بدس السم له في كأس قدمتها له، غير أنه كان قد علم بذلك من قبل، ورفض تجرع الكأس، وفي الحال أجبرها على أن تشربها؛ وبذلك قضت نحبها بيدها،٢٤ فكان جزاءً وفاقًا.

والظاهر أن «بطليموس إيرجيتيس الثاني» — الذي كان قد أخذ يطعن في السن — أمضى السنين السبع التي بقيت له من عمره في تنظيم أحوال أسرته بعد أن تدخل سنين عدة في شئون «سوريا» دون نتيجة فعالة (١٢٣–١١٦ق.م)، كما أخذ يكفر عن سيئاته وما ارتكبه من آثام.

(٦) سياسة إيرجيتيس الثاني في الفترة الأخيرة من حياته

(٦-١) بطليموس السابع ينقلب إلى إنسان ويصدر القوانين العادلة

من المدهش حقًّا أن ما وصل إلينا من المؤرخين القدامى عن الفترة الأخيرة من حياة «إيرجيتيس الثاني» يكاد يناقض تمامًا ما عرفناه عنه في خلال مدة حكمه الأولى؛ فقد ظهرت لنا أخلاقه ومعاملاته للشعب في ثوب جديد يدعو إلى الدهشة إذا ما قُرِنَ بأيام حكمه في بادئ عهده، وتدل الأحوال على أن ضميره قد استيقظ بصورة جلية؛ فكان أول ما قام به أنه أخذ يلتفت إلى إدارة البلاد، والسهر على راحة الشعب، وتخفيف عبء الحياة عن المظلومين بين أفراده، ومن ثم أخذ يتقبل بصدر رحب شكاوى رعاياه وتظلماتهم، كما أخذ يحميهم من تعسف الموظفين، ولا أدل على ذلك من التظلم الذي قدمه كهنة الإلهة «إزيس» صاحبة معبد الفيلة؛ فقد قدموا ظلامة بأنهم أُجْبِرُوا على القيام بتقديم كل لوازم الموظفين والأجناد الذين كانوا يمرون بهم أثناء تأدية أعمالهم، ومن ثم أصبح هؤلاء الكهنة في حالة خراب شامل من جراء ما ابْتُزَّ منهم من أموال ظلمًا وعدوانًا، وقد كانت هذه الحالة المحزنة ناشئة من الانقسام في حكم البلاد أيام الاضطرابات التي وقعت بين هذا العاهل وبين «كليوباترا الثانية»، ومن أجل ذلك أصدر «إيرجيتيس» — حسمًا لكل المنازعات والشكاوى والتظلمات، ولوضع الأمور في نصابها — مرسومًا في عام ١١٨ق.م لتنظيم كل الأحوال في طول البلاد وعرضها، وهذا المرسوم صدر باسم الملوك الثلاثة (أي بطليموس إيرجيتيس الثاني، وكليوباترا الثانية أخته، وكليوباترا الثالثة زوجه)؛ ومن ثم نفهم أن المرأة قد بدأت تشترك في حكم البلاد بصورة جدية منذ هذه الفترة من عهد البطالمة. وهذا المرسوم وصل إلينا مُدَوَّنًا في ورقة عُثِرَ عليها في بلدة «أم البرجات» «تبتنيس» وقد نشرها العالمان «جرنفل» و«هنت» عام ١٩٠٢ ميلادية، وهذه البردية تُعتبر من أهم الوثائق التي تضع أمامنا صورة واضحة عن سير الحكومة البيروقراطية في عهد البطالمة المتأخر.

ويعتقد المؤرخ «بريسكه» Preisicke بحق أن هذا المرسوم يُعد بمثابة اتفاق بين «كليوباترا الثانية» والملك «بطليموس البطين». وسنرى أن «بطليموس» قد نزل عن أشياء كثيرة من حقوقه، ولا نزاع في أن الارتباك الذي كان ضاربًا أطنابه في البلاد وقتئذ يرجع سببه بدرجة عظيمة إلى الهبات التي كانت قد أُعطيت أيام الشقاق الذي كان سائدًا بين الحكومتين المتناهضتين وأتباعهما، وكانت تلك الهبات لم يُصَدَّقْ عليها إلا من حكومة واحدة، ومن ثم وُجد أن كثيرًا من الأهلين كانوا يملكون أراضي فعلًا دون مستند أكيد معتمد يثبت ملكيتهم لهذه الأراضي، يُضاف إلى ذلك أن معابد مصرية كانت قد انحازت لإحدى الحكومتين، وتسلمت منها هبات من الأراضي، وكذلك امتيازات من الملك «إيرجيتيس الثاني» أو الملكة «كليوباترا الثانية»؛ كل ذلك كان لا بد من إعادة النظر فيه من جديد. وعلى أية حال كان الغرض الذي يرمي إليه المرسوم أن يضرب صفحًا عما حدث في فترة الانشقاق، وأن تُعتبر الممتلكات الحالية فعلية من الوجهة القانونية الصحيحة. وعلى ذلك فإنه كان لزامًا على الملكة «كليوباترا الثانية» أن تعترف بالهبات التي وهبها «إيرجيتيس الثاني» لأتباعه أو بعبارة أخرى أعداء «كليوباترا الثانية»، كما يجب على «إيرجيتيس الثاني» بدوره أن يعترف بالهبات التي وهبتها «كليوباترا الثانية» لأتباعها أي لأعداء «إيرجيتيس الثاني»؛ وأن يأخذ كل من الطرفين على عاتقه بألا يتدخل في شئون الآخر.

هذا، ويُلحظ أن هذه الوثيقة قد عُنْوِنَتْ بعبارة عفو شامل، ولم يُسْتَثْنَ من هذا العفو إلا القتلة وأولئك الذين خرقوا الحرمات المقدسة، وكل الجرائم والأحكام الجنائية حتى ٩ برمودة العام الثاني والخمسين من حكم الملك «إيرجيتيس الثاني» (= ٢٨ مارس عام ١١٨ق.م).

وهاك بعض ما جاء في هذا المرسوم من مواد هامة:
  • أولًا: إعلان عفو شامل لكل الجرائم التي ارْتُكِبَتْ في البلاد قبل شهر برمودة من العام الثاني والخمسين، ولا يستثنى من ذلك إلا القتلة ولصوص المعابد.
  • ثانيًا: الأفراد الذين اشتركوا في النهب وهربوا بسبب ذلك سيُسْمَحُ لهم إذا عادوا إلى وطنهم أن يزاولوا حياتهم التي كانوا عليها من قبل ذلك، وما بقي من أملاكهم لا تستولي عليه الحكومة.
  • ثالثًا: يُلْغَى كل المتأخر من الضرائب إلا في حالة المزارعين الملكيين الذين يزرعون نصيبهم بمقتضى إيجار وراثي.
  • رابعًا: النزول عن ديون الحكومة التي كان قد فرضها الحاكم العسكري فيما يتعلق بتوليهم الوظيفة؛ (ومن المحتمل أن كل الموظفين أصحاب المكانة كان عليهم أن يدفعوا مبالغ ضخمة مقابل وظائفهم).٢٥
  • خامسًا: يجب أولًا على محصلي العوائد في الإسكندرية ألا يستولوا على البضائع التي كانت في منطقة «إكزهايرسيس» Exhairesis (وهي التي يمكن أن تُحْضَر إليها السلع دون ضريبة إلى المدينة)، وأية بضاعة محرمة استُولي عليها في «إكزهايرسيس» يجب أن تُوَرَّد إلى إدارة السكرتير المالي، ولن يكون المسافرون على الأقدام من المدينة إلى داخل البلاد عرضة لأي ضريبة يجمعها جباة العوائد، باستثناء العوائد القانونية (يُحْتَمَلُ أن ذلك يعني البضائع التي كانت تُحْمَل على ظهور الحمير والجمال)، ويجب أن تُفْحَصَ بأيدي مراقبي الضرائب، ولكن البضائع التي يحملها الإنسان على رأسه أو على ظهره أو في يده من الأشياء التي تُوجَد مع الفقراء؛ فإنه يُسْمَحُ أن تمر دون أخذ ضريبة عليها. وعلى أية حال فإن الأفراد الذين يسيرون على الأقدام عليهم أن يدفعوا عوائد عن الأشياء التي تُنْقَلُ بالقوارب من شاطئ لآخر، ولا يُسْتَوْلَى على البضائع التي ترد مهربة إلا عند البوابة التي تؤدي من الميناء إلى المدينة Xenixkon emporion.
  • سادسًا: في مقدور كل أولئك الذين يملكون أراضيَ فعلًا وكانوا قد استولوا عليها بطريقة غير قانونية في خلال الاضطرابات؛ أن يضموها إلى ملكيتهم بأن ينزلوا أولًا عن الأرض لملوكهم، فيدفعون إيجار سنة من المحصول، ثم يتسلمون الأرض ثانية من الملوك بوصفها هبة قانونية. هذا، ولن يُفْرَض عليهم غرامات عن السنين السابقة لسنة ٥٢ الحالية. كما يثبت الوطنيون المصريون الذين استولوا بصورة غير قانونية على أراضٍ من أراضي الجنود المرتزقة، وتصبح هذه الأراضي ملكًا لهم.
  • سابعًا: تُلغى بعض الخدمات التي كان على الجنود المرتزقة أن يفرضوها على أصحاب الأراضي الذين ذُكِرُوا في الفقرة السابقة.
  • ثامنًا: تثبت دخول المعابد الفعلية وتصبح ملكها، وكذلك الأراضي التي تديرها المعابد بنفسها فإنها تستمر في إدارتها دون تدخل أي فرد (والواقع أن هذا مشروع وضعه الملك يجب بمقتضاه ألا يتدخل عماله في أمور المعابد).
  • تاسعًا: تُلْغَى الضرائب المتأخرة على المعابد.
  • عاشرًا: تُدْفَع مصاريف دفن العجول المقدسة من الخزانة الملكية.
  • حادي عشر: تثبت ملكية وظائف الكهانة التي اشْتُرِيَتْ من الحكومة.
  • ثاني عشر: يثبت امتياز اللجوء لتلك المعابد التي تتمتع به.
  • ثالث عشر: يجب أن تُفْحَصَ المخالفات فيما يخص المكاييل والموازين التي يستعملها محصلو دخل الحكومة النوعي.
  • رابع عشر: أولئك الذين يزرعون من جديد أرض الكروم أو أرض بساتين الفاكهة التي كانت قد أصبحت بورًا؛ سيملكون هذه الأراضي دون ضرائب لمدة خمس سنوات، أما في السنين الثلاث التي تلي ذلك فيدفعون ضرائب مخففة. أما الأراضي التي تقع في الإقليم المرتبط بالإسكندرية فإن زارعيها يُعْطَوْنَ ثلاثة أعوام أخرى دون ضريبة.
  • خامس عشر: تبقى الأراضي أو المنازل التي اشْتُرِيَتْ من التاج ملكًا شرعيًّا للمشترين (ويظن المؤرخ «بريسكه» أن المقصود من هذه الفقرة هو أن كلًّا من «إيرجيتيس» و«كليوباترا الثانية» قد اتفقا على تبادل الاعتراف فيما يخص العقود والمعاملات بين جيران كل منهما).

    هذا، ويُلحظ أن الأسطر التي أعقبت الفقرة السابقة قد وُجِدَتْ مهشمة من أول السطر ١٠٢ حتى السطر ١٣٣، ولا يمكن استنباط شيء منها يمكن الأخذ به. ثم يأتي بعد ذلك:

  • سادس عشر: إن أصحاب البيوت التي حُرِقَتْ أو دُمِّرَتْ يمكنهم أن يعيدوا بناءها كما كانت (أي دون استصدار أمر آخر كان يجب أن يُحْصَلَ عليه فيما يتعلق ببناء جديد)، وكذلك المعابد يمكن إعادة بنائها (والمعابد الصغيرة دون شك التي أقامها أفراد أو قرى؛ وذلك لأن الأحزاب المتناحرة كانت على ما يظهر لم تسكت عن هدم مباني بعضها بعضًا)، ولكن على شرط ألا يزيد ارتفاعها عن عشر أذرع، ويُسْتَثْنَى من هذا التنازل بلدة «بانوبوليس» (ولا بد أن هذه البلدة كانت مركز حركة ثورية. ويقترح كل من الأثريين «جرنفل» و«هنت» أن القطعة التي جاءت في «ديدور» وهي التي تتحدث عن «بانوبوليس» بمثابة معقل وطني للثورة في عهد «بطليموس فيلومتور» قد أُسِيء وضعها، وأن الحصار الذي كان قد ضُرِبَ حولها كان قد وقع فعلًا فقط قبل عام ١١٨ق.م بقليل، ولكن المؤرخ مارتن يضع هذا الحادث في عام ١٣٠ق.م،٢٦ والظاهر أنه يُحتمل أن مكانًا مثل ذلك كان مركزًا للثورة الوطنية في عهد «فيلومتور» وقد ظل مكانًا ملائمًا بمثابة معقل حصين للثوار. ومن المحتمل أن المادة التي حرمت على «بانوبوليس» Panopolis أن تقيم معابد لا يزيد ارتفاعها على خمس عشرة قدمًا قد كانت إجراءً لضمان الأمن لا عقابًا؛ وذلك لأن المباني بالحجر التي تبلغ هذا الارتفاع كان من الممكن استعمالها لحرب الشوارع).
  • سابع عشر: إن أولئك الذين يعملون مزارعين أو عمال مصانع في خدمة الملك قد أصبحوا محميين من اضطهادات الموظفين مثل الحاكم الحربي للمقاطعة والسكرتير المالي وضباط الشرطة وغيرهم.
  • ثامن عشر: لا ينبغي لحكام المقاطعات الحربيين وكذلك الموظفين الآخرين أصحاب الرتب العالية أن يستولوا لأنفسهم على أرض جيدة ويزرعوها لا سيما إذا كانت تُزْرَع فعلًا من قبل بوصفها جزءًا من أرض التاج بزراع ملكيين.
  • تاسع عشر: لا ينبغي لطبقات خاصة من الناس أن يوطنوا عندهم جنودًا مرتزقين وهذه الطبقات تشمل: (١) الإغريق الذين يعملون في الجيش. (٢) الكهنة. (٣) الزراع الملكيين. (٤) أولئك الذين يشتغلون ببعض صناعات مُرَخَّص لهم بها بتصاريح من التاج؛ مثل: نساجي الصوف، وصناع النسيج، ورعاة الخنازير، ومربي الإِوَزِّ، وصناع الزيت والجعة، والنحالين. وفي الأماكن التي يكون فيها لأي عضو من الطوائف المذكورة بيت آخر خلافًا للبيت الذي يسكن فيه؛ فإنه يكون للجنود المرتزقين أصحاب الأطيان الحق في أن يسكنوا فيها بشرط ألا يحتلوا أكثر من نصف البيت المذكور.
  • عشرون: لا ينبغي لحكام المقاطعات الحربيين ولا للموظفين الآخرين أصحاب الوظائف العالية أن يجبروا أي فرد من الناس على أن يشتغل لحسابهم دون أجر.
  • واحد وعشرون: (هذه الفقرة معناها غامض غير أنه يُفْهَم منها أنها تعفي رجال الشرطة والحرس في كل البلاد من التزامات يمكن أن تُفْرَضَ عليهم بسبب ارتكاب مخالفات حدثت في الماضي).
  • اثنان وعشرون: تُرْفَعُ الغرامات التي فُرِضَتْ على أولئك الذين لم يؤدوها على حسب القانون، وذلك فيما يخص احتكار الزيت.
  • ثلاثة وعشرون: تُلْغَى الغرامات التي وقعت على أولئك الذين لم يقوموا بتوريد الحسك والبوص لإصلاح الجسور (جسور النيل).
  • أربعة وعشرون: تُلْغَى الغرامات التي وقعت على أولئك الذين لم يزرعوا قطع أرضهم على حسب القانون حتى عام ٥١ (من حكم هذا الملك). أما عن عام ٥٢ وما بعده فإن القانون يُطَبَّق.
  • خمسة وعشرون: تُلْغَى الغرامات التي وقعت على أولئك الذين قطعوا أشجارًا في حوزتهم دون إذن من الحكومة.
  • ستة وعشرون: (هذه الفقرة تحدد موضوع السلطة القضائية عند الإغريق وعند السكان المصريين. والقانون هنا يحدد أنه في الحالات التي يكون في حزب إغريقي يتنازع مع حزب آخر مصري فإن المسألة يحدد الفصل فيها على حسب اللغة التي دُوِّنَتْ بها الوثائق؛ فإذا كانت الوثائق باللغة الديموطيقية، فإن القضية يُنْظَر فيها أمام قاضٍ مصري؛ ليحكم فيها على حسب القانون المصري، وإذا كانت الوثائق بالإغريقية؛ فإن القضية تُقَدَّم أمام قاضٍ إغريقي Chrematistaie وإذا كان الفريقان المتخاصمان مصريين فإن القضية يُفْصَل فيها أمام قاضٍ مصري Laokritai وقد تحدثنا عن هذا الموضوع في غير هذا المكان).
  • سبعة وعشرون: لا ينبغي أن يُحْجَز على أشخاص المزارعين الملكيين، وكذلك العمال الذين يعملون في المعامل التي يكون فيها للتاج مصلحة بسبب دين؛ إذ يمكن الحجز على سلعهم، ولكن ذلك لا يُطبق على الآلات اللازمة لأعمالهم.
  • ثمانية وعشرون: لا ينبغي أن يُجْبَر عمال النسيج على العمل للموظفين دون أجور مجزية.
  • تسعة وعشرون: لا يجوز لأي موظف أن يستولي على قوارب لاستعماله الشخصي.
  • ثلاثون: لا يجوز لأي موظف أن يسجن أي فرد من أجل مخاصمة شخصية أو من أجل دين له. وإذا كان لديه أية تهمة يوجهها لأي شخص فعليه أن يرفع دعواه أمام المحكمة المختصة.٢٧

هذه هي مواد مرسوم العفو الشامل الذي أصدره «بطليموس السابع» وشريكتاه في الملك «كليوباترا الثانية» أخته و«كليوباترا الثالثة» زوجه. ومن بين سطوره نفهم ما كانت عليه حالة البلاد من الناحيتين القضائية والإدارية، ولحسن الحظ لدينا قضية عن ملكية وقعت أطوارها في عهد هذا الملك، وتُعْتَبَر في الواقع المصدر الأصلي للمعلومات الخاصة بالنظام القانوني في عهد البطالمة بوجه عام. ومن أجل ذلك كان لزامًا علينا أن نذكر شيئًا عن هذه القضية الفذة في بابها، وأعني بذلك قضية «هرمياس».

(٦-٢) قضية هرمياس وأطوارها

الواقع أن القليل الذي نعرفه عن الاتجاه الذي كان يُتخذ في المحكمة أمام القضاة الإغريق والتعابير الخاصة بسلطتهم القضائية فيما يتعلق بسلطة الموظفين الإغريق؛ نحن مدينون به لملف قضية «هرمياس»، تلك القضية التي رفعها الأخير على بعض حانوتي «طيبة». وهذه القضية يمكن تتبع خطواتها مدة عشر سنين؛ أي من السنة الرابعة والأربعين حتى السنة الرابعة والخمسين من حكم الملك «بطليموس إيرجيتيس الثاني البطين» (١٢٥–١١٧ق.م)، وفي خلال تلك المدة نشاهد كل مصادر هذه القضية الشهيرة والأوراق الخاصة بها قد حُرِّرَت باللغتين الديموطيقية والإغريقية. وقد عُثِرَ عليها جميعًا في حجرة حوالي عام ١٨٢٠ ميلادية. ولما كانت هذه البرديات قد بِيعت على مرات، كما هي العادة في مثل هذه الأحوال التي تباع فيها الآثار خلسة إذا لم تأت عن طريق حفائر منظمة؛ ومن ثم أصبحت مبعثرة في متاحف أوروبا. والغريب أن فحص كل أوراق هذه القضية لم ينته بعد.٢٨

والواقع أننا لم نجد في مجاميع أوراق البردي التي كشفت عنها أعمال الحفر مجموعة مثلها من الأوراق تضع أمامنا قضية كاملة متصلة الحلقات تبحث في موضوع قضائي يقدم لنا معلومات محسة عن موضوعات لا نعرف عنها إلا القليل فيما يخص مجلس المحكمين والموظفين، كما تكشف لنا الإجراءات الملتوية في القضايا المدنية.

وسنحاول هنا أن نقدم تحليلًا موجزًا عن تقلبات هذه القضية، ولأجل أن نصل إلى ذلك لا بد أن نرجع إلى الوراء من الناحية التاريخية؛ لنربط خيوط هذه القضية بما كان يجري قبل وقوعها.

فالظاهر أنه في بداية عهد الملك «بطليموس الخامس» كان إقليم «طيبة» — كما نوهنا عن ذلك من قبل — في ثورة عارمة، وكان جنود الملك قد اكتسحوا العدو نحو الحدود الأثيوبية. يُضاف إلى ذلك أن الأجانب من مقدونيين وإغريق وفرس قد عوملوا معاملة سيئة وطُرِدوا. ومن بين هؤلاء كان فارسيٌّ يُدْعَى «بطليموس»، وكان متزوجًا من حفيدة فرد يُدْعَى «هرمون بن هرمياس»، وكان «بطليموس» هذا يعمل في حامية ﺑ «طيبة»، وكان عليه أن يترك بيته والحرم الخاص به في «طيبة» لرئيس زوجه. ونجده بعد ذلك لم يهتم بالعودة إلى سكنى بيته هذا الذي نُهِبَ وأصبح خرابًا. ومن المحتمل أن «بطليموس» هذا قد استوطن هو وزوجه في «أمبوس»؛ حيث نجد ثانية أن ابنه «هرمياس» يعمل ضابط فرسان في الحامية المصرية هناك.

وقد مرت السنون دون أن يعلن «بطليموس» هذا ملكيته للبيت وحرمه؛ ومن أجل ذلك ظن أولاد عم «بطليموس» أنه في مقدورهم والحالة هكذا أن يقسموا هذا البيت وحرمه؛ لأنه ليس له صاحب، وقد حدثت فعلًا تقسيمات وبيوع قام بها أولاد الذين استولوا على البيت وأحفادهم؛ مما جعل عدد ملاكه يختلف من جيل لجيل. وأخيرًا بعد أن قُسم هذا الإرث إلى أجزاء بِيع على التوالي بالتجزئة إلى أسرة حانوتيين. وبعد أن أصبحت هذه الأسرة الأخيرة هي المالكة لكل أرض البيت وحرمه أو ما يقرب من ذلك بنى أفرادها البيت من جديد ووضعوا فيه أدواتهم. وفي أثناء ذلك عرف المدعو «هرمياس» بن «بطليموس» متأخرًا أنه قد وقع تصرف بهذه الصورة في متاعه. ونجده قد أفلح في إلغاء أحد البيوع الذي كان قد تم مؤخرًا، وهو البيع الذي كان قد عقده «أبوللونيوس» بن «داموت» لكاهن «آمون» المسمى «هرمياس» بن «نحمنيس» ووضع يده بذلك على قطعة أرض من البيت المتنازع عليه تبلغ مساحتها عشرين ذراعًا، وهي التي كان يملكها «أبوللونيوس».

ولكنه لأجل أن يصل إلى ذلك لجأ إلى القضاء، وحصل على شهادة من كاتب الملك، وذلك بمقتضى تقارير قدمها لكاتب المركز وكاتب القرية للإقليم، وقد اعترقا فيها بأن الأرض المتنازع عليها كانت مسجلة في سجل المساحة باسم «هرمون» بن «هرمياس» جد أم «هرمياس» المدعي. غير أنه لم يَدَّعِ آنئذ أكثر من ذلك؛ ويُحتمَل أن ذلك يرجع إلى أنه قد فطن في خلال سير القضية إلى أنه قد يكون من الصعب عليه أن يطرد من البيت الحانوتية الذين كان بأيديهم مستندات كان يجب عليه أن يفترض صحتها.

غير أنه ظهر أحد أقارب «هرمياس» وكان أشد منه مراسًا وعزيمة؛ وتفسير ذلك أنه في عام ٤٤ من حكم الملك «إيرجيتيس الثاني» (عام ١٢٧-١٢٦ق.م) ظهر فارس من الجنود المرتزقين في حامية «طيبة» يُدعى «أبوللونيوس» واسمه بالمصرية «بسمونت» Psmont بن «هرمياس» الذي يُسمى بالمصرية «بتينبهوت» Petenephot وأمه هي «لوبايس» Lobais، وقد تنبه «أبوللونيوس» هذا إلى أنه وارث المرحوم والده، وعلى ذلك لا بد أن يكون بذلك الوارث على أقل من نصف (٧ / ١٦) من هذا البيت الذي يحتله الحانوتية.

وقد ذهب بناء على ذلك في شهر توت عام ٤٤ من حكم «إيرجيتيس البطين» (أي عام ١٢٧ق.م) يطالب أولئك المعتدين بحقه، فأجابوه بالسب والضرب. وقد كان من جراء هذا الدرس الذي تلقاه عمليًّا من أيدي المعتدين أن أصبح في حيرة من أمره مدة عشرة أشهر. وأخيرًا قرر أن يكتب شكاية للملك، وكان ذلك في أبيب عام ٤٤ (يوليو-أغسطس عام ١٢٦ق.م)، وقد أشار في شكايته إلى أنه يرغب في أن يحيله الملك إلى قضاة أكفاء من الذين يقومون بالفصل في القضايا في كل إقليم «طيبة». وفي هذه اللحظة بالذات كان القضاة الإغريق يعقدون جلسة أو في طريقهم إلى ذلك في مدينة «بطليمايس»، وكان «أبوللونيوس» قد وضع شكايته هناك في صندوق الرسائل الخاص بهذه المدينة. ومن المحتمل أنه كان يقصد بذلك أن يكون المحكمون قد ابتعدوا عن «طيبة» لأجل أن يفاجئ الحانوتية بأن يفرض عليهم إجراءات مستعجلة، وذلك بأن يكلفهم مشقة الانتقال الذي كان متعبًا لحضور الجلسة، كما كان يرمي في الوقت نفسه إلى إدخال الرعب في قلوبهم بأن يشعرهم بأن المسئولية القانونية تحتم بأنه سيكون في استطاعته أن يقدم شكوى أخرى يطلب فيها معاقبتهم على ضربهم له، وإحداث جروح في جسمه.

غير أن الحانوتية لم يجبنوا أمام تهديداته؛ إذ قد جمعوا معلوماتهم، وواجهوا بها «أبوللونيوس» بقوةٍ لدرجة أنه تخلى عن شكواه تمامًا. ويُحتمَل أن ذلك قد حدث بسبب بعض هدايا صغيرة قُدِّمَتْ له، وكان ذلك في الشهر التالي ٢٥ مسرى من عام ٤٤ من حكم الملك (= ١٣ سبتمبر سنة ١٢٦ق.م) أمام «هيراكليديس» الخبير الزراعي في منطقة طيبة. على أنه قد كان ممكنًا أن يكون أكثر مهارة إذا واجه القضية، وأفحم هذا الخصم الأول، وذلك بدلًا من جعله يسحب شكواه كأنه كان يخاف أن تُوضَع حقوقه تحت الفحص بوساطة قاضٍ.

ومن أجل ذلك نجد أن القائد «هرمياس بن بطليموس» وهو فارسي الأصل جدد القضية لحسابه وتابعها بكل حماس مدة عشر سنوات. ويتساءل الإنسان هل كان «هرمياس» هذا مقتنعًا بصحة حقه الذي تركه ساقطًا بسبب إهماله لمدة أربعين عامًا، أو أنه كان يأمل في أن يجعل الحانوتية يقررون بأن يشتروا السلام؟ والواقع أن هذا هو ما لا يمكن الإجابة عليه. وعلى أية حال كان «هرمياس» هذا يأتي من «أومبوس» إلى «طيبة» في خلال العام الأربعين كأنه رجل قد أُخْبِرَ حديثًا بأن بيته — وهو بيت والده الموروث عن الأسرة — قد احتله دون حق الحانوتية «حور» و«بزنخونسيس» و«خنوبريس» Chonopres وزوجاتهم، وهؤلاء كانوا يَدَّعُون حق ملكية البيت؛ لأنهم اشتروه من «لوبايس» Lobais ابنة «إريوس» Erieus. هذا، ونجد أن «هرمياس» بدلًا من أن يقاضي هؤلاء الحانوتية هاجم «لوبايس»، وهي — كما سنرى بعد — لم تكن إلا واحدة من الأفراد المسئولين بالنسبة للمشترين، وقد كانت الطريقة القانونية المثلى — كما قال محامي الحانوتية — هي أنه كان عليه أن يذكر أمام القضاء الملاك الأصليين الذين لهم الحق وحدهم في أن يدعوا بصفة ضامنين للبائعين. هذا، وقد وضع «هرمياس» شكوى في «طيبة» نفسها في الصندوق الخاص بالشكاوى بعنوان قاضي منطقة «طيبة» التي كان يرأسها «ديونيسوس». وقد أُعْلِن الطرفان لحضور جلسة شهر بشنس (مايو-يونيو عام ١٢٥ق.م). وفي الجلسة اعترفت «لوبايس» بأنه لم يكن لها أبدًا حق ملكية في هذا البيت المتنازع عليه. وهذا الاعتراف هو الذي ثبت على الأقل حق ادعاء «هرمياس». من المحتمل أن «لوبايس» قد أعلنت أنها غير مسئولة أمام المدعي، أو أنه لم يكن في مقدورها أن تبرز في الحال مستندات كانت مشتبكة في عدد من التغيرات والتبديلات التي حدثت قبل هذا الوقت مثل عقود القسمة والبيع التي عملت بالتجزئة. وإن القضاة رأوا على أثر ذلك أنه ليس لديهم معلومات كافية؛ ولذلك فإنهم أَجَّلُوا النظر في القضية.
ومهما يكن من أمر فقد ظهر أن القضية قد رُتبت أو على الأقل هذا ما تظاهر به «هرمياس». وبعد ذلك عاد إلى «أومبوس»، ولكنه في العام التالي أُخبر بأن الحانوتية كانوا لا يزالون يحتلون البيت، وأنهم هيأوه لصناعتهم الدنسة،٢٩ وقد أكد أن هذا البيت الذي أقاموا فيه هذه الصناعة الدنسة (التحنيط) يجاور محرابي الإلهة «هيراو» Hera (وهي الإلهة «موت» عند المصريين) والإلهة دميتر Demeter (= إزيس)، وهاتان الإلهتان تفزعان من الجثث، وأخيرًا وجد المدعي في ذلك البرهان الذي سيقدمه منذ الآن بعناد؛ وذلك على الرغم من كل التفنيدات؛ وهي أن قواعد الصحة العامة تحرم على الحانوتية أن يمارسوا حرفتهم أو حتى يسكنوا على الشاطئ الأيمن للنيل، وأنه يجب عليهم ألا يتعدوا مع عملائهم الموتى موقع «مومنيا» الكائن على الشاطئ الأيسر للنيل، وذلك مثل المحنطين الذين يريد أن يخلطهم بهم. ومعروف دون شك أن الحانوتية كانوا يمارسون في «طيبة» نفسها مهنة كَهَنِيَّة، وأنهم هم الذين كانوا يقومون بقيادة الموكب السنوي العظيم الذي كان ينقل قارب آمون إلى الضفة الأخرى للنيل ثم يعود بالإله «آمون» إلى معبده بعد انقضاء بضعة أيام، وأن هذه الرحلة الرمزية في النيل تؤلف جزءًا من المواكب الجنازية للعملاء (الزبائن) الذين يقودون لهم جنازهم. وأخيرًا لم يكن في مقدوره أن يخفي ضعف هذه الطريقة لإثبات حقه، وبعد أن برهن على أن الحانوتية قد استعملوا البيت لغرض منكر فإنه لم يبرهن في الوقت نفسه على أنه هو المالك الشرعي له.

وعلى أية حال نجد أن «هرمياس» لم يفكر بعد ذلك في أن يلجأ إلى القضاة الذين كان يعتقد أنهم معنتون متزمتون أكثر مما يجب. ولما عاد إلى «طيبة» قدم في عام ٤٦ مذكرة إلى الحاكم العسكري «هرمياس» الذي كان ينتظر أن يكون في صفه لبعض أسباب لا نعرفها على وجه التأكيد. غير أن الحانوتية لم يجيبوا على الادعاء الذي وُجِّهَ إليهم، ومن ثم أخذوا يماطلون ويسوفون القضية، وعلى ذلك لما ثبطت همة «هرمياس» بهذه الكيفية لزم الصمت مدة ثلاثة أعوام في حامية «أمبوس»، وفي نهاية العام التاسع والأربعين (١٢١ق.م) سنحت له فرصة حسبها أنها فرصة منقطعة النظير في صالحه؛ وذلك أن الحاكم العسكري الذي كان على ما يظهر في أغلب الأحيان يقوم بجولات في المقاطعتين أو ثلاث المقاطعات التي كانت تحت سيطرته قد حضر إلى «طيبة»، فأسرع «هرمياس» إلى مقابلته في شهر مسرى (أغسطس-سبتمبر عام ١٢١ق.م) ومن ثم توصل إلى أن يجعل الحاكم العسكري يعمل كل ما لديه من سلطان في موضوع قضيته، ولكن لما كان خصومه غائبين فإنه أمر «هرموجين» الذي كان يعمل معه قائدًا في هذه الفترة بأن يسلمه البيت، غير أنه على أثر سفره ثانية من «أومبوس» شوهد أنهم قد اندفعوا إلى البيت الذي كانوا لا يزالون يسكنون فيه حتى الآن وكأنهم سيل العرم. والواقع أن الحانوتية لم يهتموا إلا قليلًا جدًّا بدسائسهم الباطلة التي كانوا يأتونها فيما بينهم في تلك الخطة، وهي التي كانت تنحصر في أعمال تقسيم وبيع هذه الملكية المتنازع عليها، وكذلك عمل ترتيبات كان من نتائجها أن أصبح «حور» هو المالك الرئيسي للبيت المتنازع عليه من بين الحانوتية.

وفي هذه الأثناء نجد أن «هرمياس» أخذ ينكر هذه الطرق الملتوية التي كان يقوم بها خصومه، وقرر أن يضع قضيته أمام المجلس الأعلى القانوني الذي يشرف عليه قائد القوة الحربية لكل المقاطعة. ففي شهر أمشير من العام الخمسين من حكم «بطليموس السابع» (= فبراير-مارس ١٢٠ق.م) قدم «هرمياس» مذكرة إلى «هيراكليديس» الذي كان من بين رؤساء الحرس ورئيس الخيالة والحاكم العسكري لكل قوات منطقة «طيبة»، وقد استعرض فيها مظلمته وما اتخذ من تصرفات في القضية من قبل، وعلى أثر ذلك أمر «هيراكليديس» بإعلان الحانوتية بالحضور على يد المحضر «أرتيميدوروس»، غير أن الحانوتية ظلوا مثابرين على خطتهم في المماطلة؛ فقد تسلموا نسخة من الإعلان، ولكنهم لم يحضروا أمام الحاكم العسكري. ولما لم يحضروا ظن «هرمياس» أنه بعدم حضورهم يخدعونه لترك البيت لهم كما كانت الحال من قبل. ولكن من المحتمل أن الحانوتية كانوا يعرفون أن «هيراكليديس» سيرحل من هذه المنطقة، وأنه سيحل محله آخر في القريب العاجل، وبذلك فإن طلب حضورهم سيسقط من تلقاء نفسه. غير أن «هرمياس» كان قد فطن لذلك فقدم تظلمًا جديدًا لخلف «هيراكليديس» وهو قائد جنود المقاطعة المسمى «بطليموس»، وكان يحمل لقب «السمير الوحيد وقائد الفرسان»، وأخيرًا تولى هذا القائد قضية «هرمياس» بصفة جدية؛ ففي الثامن من شهر بئونة عام ٥١ (= ٢٦ يونيو عام ١١٩ق.م) عقد «بطليموس» جلسة في المحكمة يساعده فيها «بطليموس» بن «أجاتاركوس» و«إريني» ابن «إريني» ويحمل نفسه الرتبة التي يحملها الرئيس و«أمونيوس» Ammonios الفارسي و«سيسوسيس» Sesoosis العقيد وغيرهم من القضاة. ثم فُتِحَت الجلسة. وقد حفظت لنا بردية موجودة بمتحف اللوﭬر التحقيق الذي جرى في هذه الجلسة. هذا، ولم يتخلف الحانوتية هذه المرة، فقد حضر «حور» وشركاؤه ومعهم محاميهم المسمى «دينون». ولم يكن «هرمياس» في حاجة إلى الكلام؛ إذ قرأ أمام أعضاء المحكمة المذكرة التي أودع فيها كل مظلمته، وقد وردت منها نسخة في المحضر، وقد جاء فيها كيف أن «حور» و«بنسخونيس» و«باناس» وزوجاتهم قد أفادوا مما أجبره عليه سوء طالعه، وهو نقل مسكنه إلى مكان آخر مما أدى إلى اجتياح بيته بالقوة الغاشمة، وهو الذي كان قد ورثه عن أجداده، ومن ثم أصبح هؤلاء الحانوتية يتصرفون فيه على حسب أهوائهم. وقد حاول مرات عدة استرداده ولكن دون جدوى، وها هو ذا الوقت قد حان أخيرًا لطرد المعتدين الذين تجاسروا على إحضار جثث موتى في مسكنه الذي اغتصبوه منه ظلمًا وعدوانًا.

على أن محامي الحانوتية لم يجد كبير عناء في هدم ما أقامه المدعي «هرمياس» من حجج؛ فقد طلب إلى «هرمياس» — إذا كان في استطاعته — أن يقدم بعض براهين تثبت أن هذا البيت المتنازع عليه كان فعلًا إرثًا جاء إليه عن أجداده، وعندما اعترف «هرمياس» بأنه ليس لديه أية حجة فإنه بذلك قد أظهر أنه كان يلف عبثًا حول «حور» وشركائه لأجل أن يخيفهم ويقودهم إلى الخسران. وقد اقتبس المحامي «دينون» الإجراءات القانونية التي عُمِلَت أخيرًا بين الحانوتية بعضهم بعضًا، وفضلًا عن ذلك ذكر مرسوم العقد الشامل الذي أصدره الملك «بطليموس السابع» وهو الذي بمقتضى مواده يمكن الاستيلاء على البيت حتى دون وجود مستندات في حوزة الحانوتية. وأخيرًا أربك محامي الحانوتية المدعيَ التعس بإحراجه، وذلك بأن طلب إليه أن يبرهن بأية وسيلة من الوسائل على أن أحدًا من أقاربه أو هو نفسه قد سكن أبدًا في «طيبة» أو أن هذا البيت موضع النزاع هو ملك لأسرته. ولما لم يكن في استطاعته الجواب على ذلك؛ فقد اسْتُنْبِطَ دون أي شك أنه قد ألف شكوى من قبيل التمحيك والإعنات الكاذب، وعلى ذلك فإن القائد «بطليموس» أصدر حكمًا مخيبًا لادعاءات «هرمياس»؛ وفي الوقت نفسه جاء الحكم مثبتًا لحق «حور» ورفاقه في ملكية البيت المتنازع عليه. ومن البدهي أنه إذا كان الحكم الذي أصدره القائد هو حكم يجب نفاذه فإنه بمقتضاه كان لزامًا على «هرمياس» أن يفض قضيته؛ غير أنه كان من المفهوم أن «هرمياس» كان يريد بوضع قضيته أمام القائد بوصفه محكمًا لا قاضيًا ليفصل في مسألته، ومن أجل ذلك كان له أن يحتفظ لنفسه بحق المعارضة في هذا الحكم إذا لم يكن في صالحه.

وعلى أية حال نجد أن «هرمياس» لم يظهر بعد هذا الحكم بمظهر المغلوب؛ إذ نراه بعد ذلك يعود ثانية — كما كانت الحال من قبل — إلى كبار الموظفين الذين يمكنهم أن يثيروا قضيته من جديد ويستعملوا سلطانهم التنفيذي؛ لأجل أن يجعلوا هؤلاء الحانوتية يفرون من البيت المتنازع عليه. وقد سنحت له فرصة؛ وذلك أنه في شهر أمشير عام ٥٣ (= فبراير-مارس ١١٧ق.م) انتهز «هرمياس» فرصة مرور القائد الأعلى «ديمتريوس» لإقليم «طيبة» بهذه المدينة فوضع بين يديه شكايته، غير أن «ديمتريوس» هذا أمر بإحضار الحانوتية، ولكنهم على حسب عادتهم لم يحضروا. ولما لم يكن لدى القائد «ديمتريوس» الوقت للفصل في قضيته أعاد إليه شكايته بالبريد، ولما عاد «هرمياس» إلى بيته وجد أن شكايته قد رُدَّتْ إليه. فأهاجه ذلك، ولكنه في الشهر التالي (مارس-أبريل) ذهب بها إلى «لاتوبوليس» (إسنا) حيث كان يوجد وقتئذ الحاكم العسكري «هرمياس». وتدل شواهد الأحوال على أن الحاكم العسكري قد كتب إلى القائد «بطليموس» ليرسل إليه الحانوتية المتهمين، وقد كان «هرمياس» يأمل من وراء ذلك أن يكبد خصومه مشقة سفر متعب، ولكن أمله لم يُحَقَّق إلا فترة وجيزة. والواقع أن القائد العسكري كان يعرف دون أي شك كيف يستطيع أن يقف أمام هذا الحماس المصطنع من جانب رئيسه، يُضاف إلى ذلك أنه كان لا بد قد تكدر عندما رأى إعادة بحث شكاية كان قد حكم فيها، وبالاختصار فإن هذا القائد لم يحرك ساكنًا في هذا الأمر. وبعد انقضاء ثلاثة أشهر على ذلك؛ أي في شهر (يونيو-يوليو) كان قد زار الحاكم العسكري للمقاطعة المسمى «هرمياس» وكذلك القائد «ديمتريوس» مدينة «طيبة»، وذلك بمناسبة الاحتفال بموكب الإله الأعظم جدًّا «آمون»، وكان «هرمياس» هناك، فقدم للحاكم العسكري نسخة من المذكرة التي كان قد علق عليها من قبل، وهي التي كان قد قدمها «هرمياس» له في «إسنا»، وعلى ذلك نجد أن الحاكم العسكري فهم أن هذا الرجل اللحوح قد بدأ يتعبه من جديد؛ ومن أجل ذلك أمر بإحضار الحانوتية، غير أنهم بدورهم قد أصموا آذانهم لطلبه كما هي العادة ولم يحضروا، وعلى ذلك ركب سفينته، وعاد ثانية إلى المقاطعات الجنوبية، وقد كان في صحبته الشاكي المخدوع.

وفي هذه الأثناء لم يتطرق اليأس مع ذلك إلى نفس «هرمياس»، والواقع أن الحانوتية — كما يظهر — قد خالفوا أوامر رجال السلطة الذين كان في وسعهم في نهاية الأمر أن يحاسبوهم بسبب موقفهم الوقح، وكان «هرمياس» يعلم أن القائد «بطليموس» الذي كان قد خيب أمله في قضيته منذ عامين مَضَيَا قد حل محله القائد «هيراكليديس»، وها نحن أولاء نجد أن «هرمياس» قد قام بمخاطرة أخرى؛ فقدم مذكرة جديدة للقائد «هرمياس» ذكر فيها كل الإجراءات التي عملها منذ عشرة أعوام، وبطبيعة الحال لم يذكر الحكم الذي أصدره هذا القائد في غير صالحه عام ٥١، وقد أبرز في مذكرته عناد الحانوتية في ادعائهم، وطلب «هرمياس» هذه المرة وضع قضيته أمام المجلس الأعلى الذي كان يرأسه القائد «هيراكليديس»، وعلى ذلك سلم الحاكم العسكري للمقاطعة الوثيقة التي قدمها «هرمياس» بتاريخ ٢١ بابه عام ٥٤ (= ١٠ نوفمبر عام ١١٧ق.م) إلى «هيراكليديس» الذي كان يحمل لقب رئيس الحرس والقائد الأعلى في إقليم «طيبة»، والمشرف على دخل المقاطعة.

هذا، وقد فُتِحَتِ الجلسة للمناقشة أمام هذا الرجل العظيم الذي كان يساعده آخرون من أصحاب الرتب، وهم: «بطليموس» رئيس الحرس، و«هيراكليديس» آخر يحمل كذلك لقب رئيس الحرس، «أبوللونيوس» و«هرموجين» ويحمل كل منهما لقب السمير، و«بانكراتوس» Pancratos ويحمل لقب قائد الفرسان، و«بانيسكوس» Paniscos وآخرون كثيرون، وقد ترافع محامي كل من الطرفين المتخاصمين؛ فترافع «فيلوكيس» عن «هرمياس» كما ترافع «دينون» عن الحانوتية.

هذا، ونعرف المناقشات، وكذلك الوثائق المتعلقة بهذه القضية، والأدلة التي أثيرت على حسب القوانين والسوابق؛ من الملخص الذي وضعه الرئيس «هيراكليديس» وهو الذي وجهه لمساعديه، وهو ملخص يشمل الأشياء المنتظرة، والبواعث للحكم الذي كونه.

وقد رأينا فيما سبق من مناقشات عام ٥٠ أن «هرمياس» لم يكن لديه مستند يثبت ملكيته للبيت المتنازع عليه، وهو الذي يقول عنه إنه ورثه عن والده، في حين أن خصومه قد قدموا تراجم باللغة الإغريقية لعقد بيع حُرِّرَ باللغة الديموطيقية يرجع عهده إلى ما قبل قيام هذه القضية، ويثبت أن البيت الذي عليه النزاع — ويدعي «هرمياس» ملكيته — كان قد اشتراه آباء المُدَّعَى عليهم على دفعات. ولما لم تكن لدى «فيلوكليس» محامي «هرمياس» حجج مقنعة فإنه جنح إلى المعارضة في قيمة الوثائق التي قُدِّمَتْ للمحكمة، وقال بأنها لا قيمة لها من وجهة القانون المصري من جهة أنها لم تُسَجَّل بمقتضى القانون الإغريقي في الماضي. وأخيرًا طلب تطبيق القواعد التي تحتم إبعاد الصناعات القذرة التي يقوم بها المحنطون على الحانوتية المغتصبين للبيت، وبمقتضى هذه القواعد يصبح الحانوتية غير قادرين على الحصول على بيت «هرمياس» بالشراء أو بالاحتلال مدة طويلة، وقد اقتبس — لتبرير دعواه — أحكامًا قضائية خاصة مشفوعة بحجج مكتوبة مقدمة من كهنة «آمون»، بتقارير ورسائل من كتبة المراكز وحكام المقاطعات، وكل هذه سوابق تثبت أن الحانوتية يجب أن يُطْرَدوا ويُغَرَّمُوا على يدي الرئيس دون محاباة.

أما محامي الحانوتية «دينون» فإنه حلل دفاعه بطريقة مفصلة بعض الشيء؛ إذ نجده قد دحض اعتراضات الخصم نقطة فنقطة، والواقع أنه كان قد درس تمامًا ملف القضية، وذلك لأنه كان قد ترافع من قبل عن الحانوتية أمام القائد «بطليموس»، وقد أظهر «دينون» أنه منذ اليوم الذي غادر فيه والد «هرمياس» طيبة؛ أي منذ بداية حكم «بطليموس الخامس» مع جنود آخرين ليستوطنوا الوجه القبلي، أي منذ ثمانٍ وثمانين سنة؛ فإنه لا هو ولا ابنه «هرمياس» قد سكن البيت المتنازع عليه. يُضاف إلى ذلك أن هذا البيت المذكور كان فعلًا في يد ملاك آخرين، وهو البيت الذي اشتراه الحانوتية في العام الثامن والعشرين من حكم الملك «بطليموس السادس» (عام ١٤٣-١٤٢ق.م) أي قبل رفع الدعوى الحالية بسبع وثلاثين سنة، وأن الحانوتية قد تمتعوا بملكية هذا البيت طوال هذه المدة دون معارض، وأن عقود البيع قد أصبحت لا قيمة لها؛ وذلك لأن مدة الملكية الطويلة هذه قد أكدت الملكية، وأسقطت كل حق. وعلى أية حال فإنه ليس هناك حاجة إلى الرجوع إلى هذه الحجة الأخيرة بالنسبة لموكليه؛ وذلك لأن عقود البيع كانت قانونية بسبب أنها قد استوفت شروط نقل الملكية لإدارة الضرائب على البيوع.

أما من حيث مستندات البائعين؛ فليس هناك ما يدعو للبحث عنها مع وجود مرسوم العفو الشامل (وهو الذي أوردنا فقراته فيما سبق)، وفضلًا عن ذلك يوجد حق الملكية بطول حق الاستعمال الذي نظم فيما سبق موقف الملاك الذين ليس لديهم مستندات، كما أعفى هؤلاء من تقديم براهين مدونة تثبت حقوقهم، و«هرمياس» لم يقدم أي مستند، وإذا كان هذا البيت إرثًا فقد كان من الواجب عليه أن يقوم بتسجيل مستنداته ويدفع الضرائب، وبسبب أنه لم يفعل ذلك فإنه سيكون ملزمًا بوساطة هذا الرئيس أن يدفع غرامة قدرها ألف درخمة مع سقوط حقوقه. وأخيرًا فإن التأخيرات التي مُنِحَتْ لاسترداد الحقوق المغتصبة كان لا يمكن أن تستمر أكثر من ثلاث سنوات على أكثر تقدير، وذلك لأولئك الذين لهم حق، والواقع أن لا «هرمياس» ولا والده قد احتج أبدًا على اغتصاب هذا البيت.

هذا، وقد امتدت القضية حتى ٢٢ هاتور عام ٥٤ من حكم الملك «بطليموس السابع» (= ١١ ديسمبر ١١٧ق.م)، يُضاف إلى ذلك أنه لما كان القائد «هيراكليديس» قد صادق على الحكم الذي حكم به سلفه «بطليموس» فإنه بناء على ذلك قد أصدر الحكم التالي: «نحن نأمر «هرمياس» بأن يتخلى عن أعمال العنف، وكذلك أمرنا «حور» ورفاقه بأن يستمروا في ملكية البيت الذي كان في أيديهم من قبل.»

وقد فهم «هرمياس» هذه المرة أنه لا فائدة من القيام بملابسات فيما يخص قيمة الحكم أو أن يحتج بعدم اختصاص الذين أصدروا الحكم. والواقع أنه لم يعتمد في تقديم شكايته إلا على ثقته بالحكام ولطفهم معه، غير أن هؤلاء قد ساءهم إلحاحه في رد أحكامهم. ولقد كان من البدهي أنه منذ ذلك الوقت لن يعطيه أي قائد أو أي حاكم عسكري أي حق أكثر من الحق الذي كانت البراهين العدة تشهد به.

ومما تجدر ملاحظته هنا عن القضاة الإغريق في هذه القضية أنهم لم يظهروا إلا في الذيل، والواقع أنهم كانوا حكامًا يميلون إلى التساهل في حقوقهم، ويمكن القول أنهم كانوا محكمين قد تركوا كل شيء عن طيب خاطر لرجال السلطة الإدارية الذين كان قد وُكِّل إليهم أمر العناية بترتيب الأمور التي كانوا قد أعطوا رأيهم فيها.

والواقع أن «هرمياس» لم يتجه إليهم بشكواه إلا مرة واحدة؛ وذلك عندما أراد أن يجعل القانون في جانبه. وفي نهاية الأمر نجد أنه قد صُدَّ عن ادعاءاته بما حكم به قائد كل قوات المقاطعة. ولا نزاع في أن هذا الإجراء المرتبك الذي سارت فيه هذه القضية قد أدى إلى نتائج لم يكن في الاستطاعة بموجبها عمل توفيق بين الفريقين المتخاصمين.

وذلك أنه إذا كانت محكمة القضاة الإغريق تُعتبَر محكمة استئناف فلماذا لم يلجأ إليها «هرمياس» في أول الأمر منذ بداية النزاع؟ ومن جهة أخرى نجد أن «هرمياس» عندما رُدَّتْ دعواه في المرة الأولى بحكم القائد «بطليموس» التجأ إلى القيام بمناورات كان الغرض البين منها هو إلغاء الحكم السابق. وعلى أية حال نجد من الغريب أن أصحاب السلطة يسلمون له بذلك، ويتركونه يعارض في صحة الحكم القانوني الذي نطق به أعضاء محكمة نظامية. وحقيقة الأمر أن تحيزهم لم يكن فوق الشك؛ ففي بادئ الأمر تدخل حاكم المقاطعة العسكري المَدْعُو «هرمياس» لحظة وجعل الحانوتية يفرون، ومن الجائز أنه كان يوهم بأنه ينفذ قرار القضاة الإغريق الذي فسره ضابط يُوثَقُ بكلامه، ولكن كيف حدث فيما بعد أنه لا هو ولا القائد الأعلى لم يعارض الشكاوى الملحة التي قدمها «هرمياس» بأنها مخالفة للقانون؟ فهل السبب الوحيد في ذلك هو المجاملة أو لأجل ألا يكون هناك جحود نحو مواطن إغريقي يناضل مصريين بائسين، وأن كلًّا منهما كان يظهر بمظهر الغيور على منفعته مع إصرار كل منهما في قرارة نفسه على ألا يعمل شيئًا مخالفًا للقانون؟

وخلاصة القول: أن هذا الإجراء الملتوي الذي اتُّبِعَ في هذه القضية لا يقدم لنا فكرة رفيعة عن النظام القضائي في مصر في خلال القرن الثاني قبل الميلاد، كما إنه لا يمدنا كذلك بقدر ما كنا نأمل عن العلاقات الخاصة بين القضاة الإغريق وبين القضاة المصريين والموظفين — الحكام العسكريين وقواد جيش المقاطعة — وهؤلاء هم الممثلون القضائيون الذين كان في مقدورهم أن يفصلوا في قضايا الناس.

والواقع أن ما نستنبطه بوضوح من قضية «هرمياس» هو أنه في إقليم «طيبة» الذي كان لا أكثر ولا أقل يُعْتَبَر إقليمًا محكومًا حكمًا عسكريًّا، ومن ثم على ما يظهر كان في حالة حصار مستمرة، كان عمل القضاة فيه ينحصر في أنهم كانوا يعملون بمثابة رجال فتاوى قانونية، في حين أن الأحكام التنفيذية كان يصدرها القائد الحربي للمقاطعة ومعه مساعده. وعلى أية حال نستطيع أن نفهم بعد سرد قصة هذه القضية وما فيها من ملابسات وتحايل على القضاء أن المرسوم الذي وضعه «إيرجيتيس الثاني» و«كليوباترا الثانية» و«كليوباترا الثالثة» بالعفو عن الكثير من الأشياء التي كان يئن تحت عبئها أفراد الشعب قد أفاد الحانوتية الذين كانوا من أصل مصري لكسب قضيتهم التي رفعها «هرمياس» وأراد أن يكسبها بوصفه إغريقيًّا بأية حال من الأحوال؛ غير أنه على الرغم من انتشار الفساد والرشوة سارت العدالة في مجراها، وظفر أصحاب الحقوق بحقوقهم في النهاية على الرغم من أنهم من أرومة مصرية.

هذا، ولدينا قضية أخرى من نفس هذا العهد، ومن نفس المكان غير أنها في هذه المرة رفعها مصري على مصري آخر، وتتلخص في أن المحنط paraschiste «بتنيفوتيس» Petenphotes رفع دعواه على زميله «آمينوتيس»، وقد قدم شكواه لنفس حاكم المقاطعة العسكري.٣٠ ولما كان المتنازعان من أصل مصري فإن مناقشة القضية كان لا بد أن تكون أمام قضاة مصريين، هذا إذا لم يكن العقد الذي حُرِّرَ بينهما — في ١٣ بئونة من العام الخمسين من حكم «بطليموس السابع» (= أول يوليو عام ١٢٠ق.م)، وهو الذي انتهك حرمته «أمينوتيس» — لم يكن قد حرره كاتب إغريقي، وعلى ذلك كان لا بد أن يُحَقَّقَ أمام القضاء الهيلاني. وهكذا نرى أن الإغريق كانوا يتدخلون في المسائل القضائية بقدر المستطاع؛ حتى يكون زمام الأمور في أيديهم حتى ولو في أتفه الأشياء، ومن أجل ذلك كانت العداوة مستحكمة بين المصريين والإغريق؛ وبسبب ذلك قام المصريون منذ أواخر حكم «بطليموس الرابع» حتى نهاية الحكم البطلمي بعدة ثورات كان الغرض منها محاربة الظلم والعنصرية والقضاء على الاستعمار جملة من كل البلاد.

(٦-٣) نهاية عهد بطليموس السابع إيرجيتيس الثاني

تحدثنا النقوش التي على جدران معبد إدفو أن «إيرجيتيس الثاني» في آخر حياته؛ أي العام الرابع والخمسين من سني حكمه (١١ بئونة = ٢٨ يونيو عام ١١٦ق.م)؛ قد وضع أسس الجدار الكبير الذي يحيط بالمعبد وكذلك بواباته. وفي خلال العمل في وضع هذه الأسس وافته المنية٣١ وخلفه ابنه على عرش الملك كما سنرى بعد. وتدل الظواهر على أن «بطليموس» هذا قد عاش عيشة هنية لا مشقة فيها ولا تأنيب للضمير حتى عام ١١٦ق.م وهو العام الذي حضرته فيه الوفاة وهو في حوالي الخامسة والستين من عمره؛ أي بعد أن حكم مع أخيه أو وحده مدة ٥٤ عامًا، تاركًا وراءه ذكريات جرائمه البشعة التي لا مثيل لها في تاريخ الإنسانية إلا النزر اليسير. هذا إذا صدقنا كل ما قيل عنه. وقد أدهش علماء الأخلاق كيف أنه مات على فراشة دون أن تنتقم منه العناية الإلهية فيموت ميتة المجرمين، وقد ذهبوا في تفسير ذلك كل مذهب.
أما «كليوباترا الثانية» شريكته في الملك فلسنا على يقين من أنها قد حضرتها الوفاة قبله — كما يصرح بذلك المؤرخ «جوستن» دون شك. وقد كان هذا هو الرأي المحتمل على حسب ما جاء في بيان رسمي مُؤرَّخ ٢٢ مايو عام ١١٨ق.م؛ حيث لم يوجد اسمها فيه بوصفها شريكة له في الملك.٣٢ غير أن اسم «كليوباترا الثانية» قد ظهر في أوراق «تبتنيس» بعد ٢٨ أبريل و٧ ديسمبر من عام ١١٨ق.م، يُضاف إلى ذلك أنه قد اقْتُبِسَ من ورقة بردية مؤرخة ٩ بابه السنة الثانية (٢٩ أكتوبر عام ١١٥ق.م) من عهد الملكة «كليوباترا» والملكة «كليوباترا» والملك «بطليموس سوتر»؛ وعلى ذلك فإن «كليوباترا» لم تَمُتْ قبل «بطليموس إيرجيتيس» اللهم إلا إذا كان هناك خطأ ارتكبه الكاتب في تكرار كلمة «كليوباترا».
هذا، وكان آخر عمل قام به «إيرجيتيس الثاني» لإرضاء طموح زوجه «كليوباترا الثالثة» — وهذا العمل كان في الوقت نفسه يُعْتَبَرُ خطأ سياسيًّا من حيث مبدأ أسرته — أنه ترك عرش البلاد تحت تصرف «كليوباترا» هذه؛ فقد أعطى لها حق اختيار من توليه من ولديها عرش البلاد ليكون لها شريكًا في الملك؛ ومعنى هذا أن «بطليموس إيرجيتيس الثاني» لم يتمسك بأية حال من الأحوال بالقاعدة التي كانت تحرم زواج ولي العهد قبل توليه الملك؛ فقد كان ابنه الأكبر «بطليموس سوتر الثاني» متزوجًا في حياة أبيه من أخته «كليوباترا الرابعة»، وعلى أية حال فإنه ترك ﻟ «كليوباترا» أن تختار من تشاء من ولديها لتولي عرش الملك دون تفرقة بين الصغير والكبير؛٣٣ ويرجع السبب في ذلك إلى أنه هو نفسه كان في حرب على أخيه من جراء هذه الفكرة.

وقد امتد أجل هذه الحرب لهذا السبب مدة خمس وعشرين سنة، هذا فضلًا عن أنه كان يرجع في نظريته في أمر تولي الملك من يستحقه من أولاده إلى «بطليموس سوتر الأول»، وعلى ذلك كلفت «كليوباترا الثالثة» بأن تقرر إذا كان نظام الأحقية هو الذي يجب أن يُتبَع أو نظام السن هو الذي يؤخذ به. وقد كان من البدهي مهما كان اختيار «كليوباترا» أن الحرب الداخلية كانت لا بد آتية بعد فترة قصيرة. ولا شك أن اختيارها كان معناه الاستعداد لحرب داخلية. هذا، ويمكن القول — حتى بعد إقصاء الابن الأكبر إلى «قبرص» — أن المناوشات العدائية قد ابتدأت، والواقع أن «بطليموس إيرجيتيس الثاني» كان على مقدار عظيم من الذكاء لدرجة جعلته يتنبأ بهذا المستقبل القريب، وأن في ذلك ما يكفي للدلالة على أنه كان محبًّا لنفسه لدرجة جعلته لا يهتم بالعرش ومن سيتولاه بعده.

ومما زاد الطين بلة أنه قد ارتكب عملًا أكثر ضررًا؛ وذلك أنه في فقرة من فقرات وصيته التي كانت تتنافى مع الأخلاق ومع مصلحة البلاد في وقت واحد؛ أوصى هذا العاهل بملكه القديم في «سرنيقا» لابنه غير الشرعي المُسَمَّى «بطليموس إبيون» وهو ابن حظيته «إيرن» على ما يُظَن.٣٤ والآن يتساءل الإنسان هل كانت «سرنيقا» قد مُنِحَتْ له بوصفها إقطاعًا لمدة الحياة أو بمثابة ملكية يمكن نزعها؟ والواقع أننا لا نعرف شيئًا عن هذا الموضوع من الوجهة القانونية، إلا ما جاء في تفسير رجال القانون في «روما»، وهؤلاء قد حكموا فيما بعد أن تكون «روما» هي الوريثة ﻟ «بطليموس إبيون». ولكن وجود نقود في «سرنيقا» مضروبة باسم «بطليموس سوتر الثاني» (١١٧-١١٦ق.م) يبرهن على أن الوصية — إذا كانت حقيقة موجودة — تترك بعض الشك في شروط الوصية التي عُمِلَتْ لصالح «بطليموس إبيون»، وأن ملك مصر كان في إمكانه التسلط على «سرنيقا» ما دام لم يقهره أخوه المناهض له.

ولا بد أن «إبيون» كان فعلًا حاكمًا أو نائب ملك على «سيريني» في مدة حياة والده «إيرجيتيس الثاني»، وأنه كان لا بد من إشعال نار حرب للاستيلاء منه على عرش «سرنيقا»، ولا بد أن «روما» التي كانت قد فرغت من حروبها الداخلية الطويلة، وهي التي كانت قد شغلتها بعض الوقت عن تنفيذ أطماعها في الخارج؛ قد أخذت تفكر في فتح بلاد الشرق، وذلك بعد أن أصبحت قدمها راسخة في «برجام» بوصفها الوارثة لملوكها.

ولا نزاع في أن الأحوال كانت مُهَيَّأة للرومان في تلك الفترة لتنفيذ أغراضهم؛ فقد كانوا في مصر هم الحاملين لمدة طويلة للملك «إيرجيتيس الثاني»، كما رأينا من قبل؛ ولا أدل على ذلك من أنهم قد تركوه هادئًا مطمئنًّا لمدة، وكانوا في خلال ذلك مصوبين أنظارهم إلى الجزء الذي يمكن فصله من المملكة البطلمية — أي «سرنيقا» — دون أن يقضوا على كل بنائها.

(٦-٤) حكم المؤرخين على إيرجيتيس الثاني

إن من يتتبع تاريخ «إيرجيتيس الثاني» في أول أمره يجد أنه — على حسب ما رواه الكتاب القدامى — كان سلسلة جرائم من أبشع ما عرفه التاريخ، ولكن نجد أنه بعد أن تقدمت به السن ظهر بمظهر الرجل المدقق اليقظ الذي كان يعمل على راحة شعبه والنظر في شكاوى رعاياه عن طيب خاطر؛ فكان يحميهم من عبث الموظفين ومظالمهم. والواقع أن من يقرأ مرسوم العفو الذي أصدره في عام ١١٨ق.م — وهو الذي أوردناه فيما سبق — يجد أنه على طرفي نقيض بالنسبة للصورة التي صورها لنا المؤرخون عن أخلاقه، والتي تناقلها الكتاب الأقدمون؛ ومن ثم تُعَدُّ صورة كاذبة أو على الأقل تُعْتَبَرُ صورة مبالغًا فيها إلى حد بعيد؛ ففي هذا المرسوم نجد بدلًا من الملك الطاغية الذي قتل أولاده وحصل على كل ما كان يريد أن يصل إليه بالدس والقتل كما ذكرت لنا التقاليد التي وصلت إلينا؛ قد مثل في صورة الإنسان الذي كان يسهر على راحة شعبه بوضع الإصلاحات الممتازة، كما كان يبذل جل همه في إقامة العدل بين الإغريق والمصريين على قدم المساواة؛ بل كان يقوم بنفسه في فحص شكوى الأفراد. وفي اعتقادي أن ما نُسِبَ إليه من قسوة وغلظة وتقتيل وتعذيب قد يكون بعضه صحيحًا، ويشفع له في ارتكاب مثل هذه الإجراءات — إلى حد ما — ما كانت عليه حالة البلاد من فتن داخلية واضطرابات متعددة ومفاجآت خارجية جعلته يقسو ويخرج عن حدود الإنسانية. وعلى أية حال فإن معظم ما نُسِبَ إليه من تقتيل وتعذيب لا يرتكن إلى حقائق تاريخية أكيدة محسة في عدد من الأحوال.

ومن الأشياء التي تدعو إلى الدهشة ما رُوِيَ عنه من تناقض في سلوكه، وأبرز مثال لذلك أنه بعد الذي حُكِيَ عنه من تشتيت شمل علماء الإسكندرية الذين فروا من البلاد المصرية خوفًا من عنفه وقسوته وسوء معاملته لهم؛ أن نعلم أنه كان أديبًا كبيرًا، وأنه من تلاميذ العالم النحوي الناقد «أريستاركوس»، وأنه كان صاحب ذوق، عالمًا بالمناقشات الخاصة بالألفاظ اللغوية وبالشعر والأساطير الهومرية؛ يدل على ذلك أنه قد اقتُبِسَ عنه تصحيح بيت شعر للشاعر «هومر». والواقع أن هذا الاتجاه كان هو النحو المتبع في عصره. فقد كان معاصره من الملوك هو «أتالوس الثالث فيلومتور» ملك «برجام»، وعلى الرغم مما اشْتُهِرَ به من رذائل كان في آن واحد يتصف بنفس الذوق الأدبي الذي اتصف به «بطليموس السابع»، ولا غرابة إذن أن نجد «بطليموس» قد لقب نفسه باللغوي، وهذا اللقب كان بلا نزاع يُعْتَبَرُ أشرف الألقاب التي كان يحملها. والواقع أنه اهتم بتنمية المكتبة و«الميزيون» وحماهما من المنافسة، وذلك بما ذُكِرَ عنه من منع تصدير البردي إلى الخارج، وإضافة كتب من مؤلفاته إليها؛ فقد ذُكِرَ أنه ألف مذكرات في أربعة وعشرين مجلدًا، وتعتبر هذه المجلدات موسوعة كدس فيها — على غير نظام — معلومات منوعة؛ هذا بالإضافة إلى بعض قطع خاصة بترجمته لنفسه وحكايات عن معاصريه، كما دون فيها كل ما يعرفه من معلومات في التاريخ الطبيعي والجغرافية وعلم السلالات.٣٥ وقد قص علينا في موسوعته هذه الأمور الشاذة والخلاعة التي كان يظهر بها عمه «أنتيوكوس إبيفانس»، كما وصف أدوات المائدة الخاصة بملك النوقديين «ماسينيسا» Massinissa ومدرسته للأطفال، كما كان يبتهج بذوق «بومنيبس» للخنازير السمينة التي كان يدفع عن الواحد منها ٤٠٠٠ درخمة، وغير ذلك من السخافات. هذا، وكان «بطليموس السابع» مؤلف كتب في السحر أيضًا،٣٦ وقد قيل عن «بطليموس البطين» هذا أنه كان يرغب في أن يحل بمفرده محل العلماء الذين جعلهم يفرون من الإسكندرية. على أنه كان قد بقي بعضهم بالإسكندرية، ولم يكن لديهم ما يشكون منه من سوء تصرف «بطليموس»، نخص بالذكر منهم «باناريتوس» Panaretos تلميذ «أرسيسيلاس» Arcesilas وكان يتقاضى مرتبًا سنويًّا قدره اثني عشر تالنتا؛ وقد كان مشهورًا بصغر جسمه، وكان صديقًا حميمًا ﻟ «بطليموس إيرجيتيس الثاني». أما أستاذه «أرسيسيلاس» فهو المؤسس للأكاديمية الجديدة، وقد عاش في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد. هذا، ويقول «بوزيدونيوس» الذي نقل عنه «سترابون» مع بعض الشك إن الملك «إيرجيتيس الثاني» هو الذي صرف على رحلة أُرْسِلَتْ لارتياد بلاد الهند، وكان يقودها الجغرافي «يدووكس» Eudoxe من أهالي «سيزيك» Cyzique، ويقال إنه عاد بسفنه محملة عن آخرها بالعطور والأحجار الثمينة، غير أن «إيرجيتيس الثاني» خيب آماله لاستيلائه على كل ما جلبه معه.٣٧

ومن الجائز أن «بطليموس السابع» قد يمكن أن يكون أكثر سخاء لو لم يكن في حاجة إلى مبالغ باهظة للصرف منها على المباني التي كان يقيمها في طول البلاد وعرضها، وقد كان يشجعه على ذلك ميله لإقامة المباني الدينية، هذا فضلًا عن أنه كان يريد أن يرضي الكهنة الذين كان في أيديهم زمام الشعب المصري كله. وسنتحدث عن مبانيه في فصل خاص.

ولا نزاع في أنه بعد موت «بطليموس السابع» أخذت مصر تنحدر نحو هاوية سحيقة إلى حتفها، ومن ثم فإن ما بقي من عهد البطالمة لم يكن إلا فترة نزاع موت طويلة امتد أجلها حوالي أقل من قرن من الزمان كانت في خلالها الأسرة الحاكمة قد لحق بها الدمار، وكان مثلها في ذلك كمثل دولة السليوكيين؛ فقد كانت كل من هاتين الدولتين جريحة بجراح لا يُرْجَى برؤها، وهذه الجروح ترجع في أصولها إلى المنافسات الأسرية، وقد كان «إيرجيتيس الثاني» هو الذي سبب لها هذه الجراح الفتاكة التي أصبحت لا يُرْجَى شفاؤها بعد موته، وانتهى أمرها بالقضاء على الأسرة نهائيًّا، وبخاصة عندما نعلم أن الرومان قد صوبوا أنظارهم نحو مصر، وأرسلوا البعوث لفحص كل نواحي حياتها وما فيها من خيرات لا تُجَارَى ووضعوا التقارير عنها، ومن ثم أخذوا يتدخلون في شئونها بصورة سافرة حتى وضعوا أيديهم عليها، وأصبحت درة في تاج الإمبراطورية الرومانية كما سنرى بعد.

والآن قبل أن نتحدث عن آثار هذا الملك التي خلفها في مصر يجب أن نقف هنا وقفة قصيرة لنفحص بعض الشيء مكانة شخصيتين غامضتين وإن شئت ثلاث شخصيات اختلط أمرهم على المؤرخين، ولا يزال الوصول إلى حل مرضًى بشأنهم من الأمور المستعصية في تاريخ البطالمة، وأعني بهم «يوباتور» و«نيوس فيلوباتور» وأخيرًا «بطليموس المنفي»، وسنستعرض فيما يلي كل ما وصلت إليه معلوماتنا عن هؤلاء الأشخاص حتى يومنا هذا.

(أ) بطليموس الثامن يوباتور (؟)

لم يثبت مما لدينا من وثائق أن هذا الأمير قد حكم أرض الكنانة منفردًا. وقد ورد ذكره في جملة نقوش هيروغليفية وإغريقية وديموطيقية، غير أنه على الرغم من كثرة المعلومات التي تمدنا بها هذه النقوش فإنها مع الأسف لا تساعدنا على تبسيط تاريخه بصورة واضحة جلية، وعلى ذلك فإن التفسيرات المختلفة التي أمكن الوصول إليها من هذه المعلومات يجب أن توضع هنا أمام الباحثين الذين يريدون معرفة شيء عن حياة هذا الملك الغامض الذي تضاربت فيه الأقوال.

كان أول من وضع يده على أول خيط من خيوط تاريخ هذا الأمير هو الأثري «لبسيوس» وذلك في عام ١٨٢١ ميلادية عندما عثر على بردية كُتِبَتْ بالإغريقية في متحف «ليدين»؛ حيث دُوِّنَ فيها قائمة بملوك بطالمة مؤلهين بعد موتهم، ومن أجل ذلك كانت تُقام لهم عبادة بوصفهم آلهة.٣٨ وهذه البردية نشرها العالم «بوك» عام ١٨٢١، ثم نشرها ثانية «ليمان» عام ١٨٤٣ ميلادية.
يأتي بعد ذلك نشر ورقة إغريقية محفوظة في باريس تُدعى ورقة «كاساتي» رقم ٥٣٩ حيث نجد هذا الأمير قد ذُكِرَ باسم «الإله يوباتور» Deos Eupator وقد وُضِعَ من حيث الترتيب بين «بطليموس إبيفانس» و«بطليموس فيلومتور». وقد استنبط «لبسيوس» من هذا الوضع منذ عام ١٨٥٢ ميلادية أن «يوباتور» كان الابن الأكبر للملك «إبيفانس»، في حين أن «فيلومتور» لم يكن إلا الابن الأصغر لنفس «إبيفانس»، ومن أجل ذلك سماه «بطليموس السادس» في سلسلة ملوك البطالمة، وجعل «فيلومتور» «بطليموس السابع».٤٠ هذا وتوجد عدة برديات تؤكد هذا النظام بذكر «بطليموس» الإله «يوباتور» بين «إبيفانس» و«فيلومتور».٤١ يضاف إلى ذلك أن المؤرخ «مهفي» قد قبل الترتيب الذي وضعه «لبسيوس»،٤٢ وقد نهج على منهاجه كل من «بركش»٤٣ و«بدج».٤٤ ومن الغريب أن «بدج» قد ذهب إلى التأكيد بأن هذا الأمير كان مشتركًا مع والده في حكم البلاد لبضع سنين قبل موت «إبيفانس» غير أنه لم يقدم لنا دليلًا واحدًا على صحة ما قال، ثم أضاف أنه بعد ذلك قد حكم بعد موت والده بضعة أشهر أو على الأقل بضعة أسابيع.
ومع ذلك فإنه كانت توجد عقبة كأداء تقف في وجه هذه النظرية؛ وذلك أن النقش الإغريقي الذي عُثِرَ عليه في خرائب معبد للإله «أبوللو» (في جزيرة قبرص) يقول صراحة إن الملك «بطليموس» الإله «يوباتور» قد أنجبه الملك «بطليموس» والملكة «كليوباترا» (الثانية) الإلهان المحبان لوالدتهما.٤٥ يُضاف إلى ذلك أن المؤرخ «ستراك» يضع — في عام ١٨٩٧ ميلادية بحق — «يوباتور» بعد والده «فيلومتور» ويقول عنه إنه «بطليموس السابع»، في حين أن «فيلومتور» يُعْتَبَرُ «بطليموس السادس»،٤٦ غير أنه يُلحظ فيما ذكره «ستراك» بعض عدم التثبت في موضوع تاريخ اختفاء «يوباتور» من الحكم؛ فنراه بعد أن أكد على حسب عملة «بافوس» بأنه كان مشتركًا في الملك مع والده في عام ٣٦ من حكم الأخير (١٤٥ق.م) وعلى حسب ما جاء في فقرة في المؤرخ «جوستن»٤٧ بأنه دون أي شك حكم بضعة أيام بعد والده «فيلومتور»؛ يعلن في مكان آخر من كتابه أن «يوباتور» لم يحكم بعد وفاة «فيلومتور»، ولكن كان حكمه في نفس الوقت الذي كان عائشًا فيه كل من والديه «فيلومتور» و«كليوباترا الثانية».٤٨ ويقول «جوتييه» إن هذا التفسير الأخير هو الصواب، وهذا ما ستؤكده لنا الآثار المؤرخة بحكم «فيلومتور»؛ حيث نجد بوضوح أن «يوباتور» قد كان مشتركًا في عرش الملك مع والده. غير أن هذه الآثار لا ترجع قبل عام ٢٩ من حكم والده (١٥٢ق.م). ولما كان الأخ الأصغر ﻟ «بطليموس فيلومتور» وهو «بطليموس إيرجيتيس الثاني» قد أصبح ملكًا للمرة الأولى في عام ١٧٠ق.م أي قبل «يوباتور» بثمانية عشر عامًا، وقد عد دائمًا سني حكمه من أول عام ١٧٠ق.م؛ فإنه يجب — على ذلك في الواقع — أن يُسَمَّى «بطليموس السابع»، وعلى ذلك يجب علينا أن نمنح ابن أخيه لقب «بطليموس الثامن» في سلسلة ملوك البطالمة، وهذه كانت من قبل فكرة المؤرخ «وادنجتون» Wadington، وقد أخذ المؤرخ الكبير «بوشيه لكلرك» بهذا الرأي، وعززه بالبرهان القاطع؛ حيث استعرض كل وجوه المسألة.٤٩
ولكن «جوتييه» يرى أن المؤرخ «لكلرك» قد غالى في حديثه في هذا الصدد عندما أراد أن يعتبر أن «بطليموس الثامن يوباتور» كان فعلًا قد نُصب نائب ملك أو ملكًا في حياة والده «فيلومتور» وبوصفه الخلف المباشر لهذا الملك الأخير على عرش مصر، وأنه كان قد حكم بكل الحق الشرعي في الإسكندرية لمدة بضعة أيام على الأقل، ثم ذبحه بعد ذلك عمه «إيرجيتيس الثاني»؛ وعلى أثر عودته من «سرنيقا» تزوج والدته، وبدأ عهد حكمه الثاني.٥٠ والظاهر أن موت ابن «بطليموس فيلومتور» ووريثه على العرش كان قد بقي على أية حال سرًّا خفيًّا في هذه الأحوال حتى لا يشك أهل الإسكندرية في أن الملك الجديد كان هو المحرض على ارتكاب الجريمة. هذا هو رأي المؤرخ «بوشيه لكلرك»، في حين نجد أن «جوتييه» ينحاز إلى رأي كل من «جرنفل»٥١ والأستاذ «جرفث» الذي تحدثنا عنه فيما سبق،٥٢ وذلك على الرغم من المعارضات التي أقامها «بوشيه لكلرك» في وجه هذا الرأي القائل أن «يوباتور» قد مات وهو لا يزال أخضر العود في خلال حكم والده؛ أي إنه بعد العام الواحد والثلاثين من عهد «فيلومتور» لم يظهر «يوباتور» في الوثائق الرسمية بأنه حي يُرْزَق، بل ظهر بأنه مؤلَّه (أي مات وأصبح مؤلَّهًا)، وقد حُشر فعلًا قبل موت أبيه في المكان الطبيعي الذي يجب أن يحتله في سلسلة ملوك البطالمة المؤلَّهين؛ أي إنه وُضِعَ بين الملك «بطليموس الخامس إبيفانس» و«بطليموس السادس فيلومتور».

بطليموس يوباتور وقبرص

ذهب بعض المؤرخين إلى الزعم بأن «يوباتور» بن الملك «بطليموس فيلومتور» و«كليوباترا الثانية» كان قد نُصب نائب ملك، بل وقيل إنه تُوِّجَ ملكًا على «قبرص». ونحن نعلم من الأوراق البردية أنه كان قد اشترك مع والده في حكم مصر منذ أبريل عام ١٥٢ق.م، غير أنه من المحتمل أنه لم يكن مشتركًا معه في يناير عام ١٥٠ق.م وأنه في يوليو من نفس العام حضره الموت، وقد اقْتُرِحَ أنه كان قد تُوِّجَ ملكًا على «قبرص» لأجل أن يقوي حكومتها بسبب التهديد بالهجوم عليها من قبل «بطليموس إيرجيتيس الثاني» أو «البطين» كما كان يُدْعَى، وقد قام فعلًا هذا الهجوم عام ١٥٤ق.م كما ذكرنا آنفًا. يُضاف إلى ذلك أن فصل «قبرص» عن «مصر» كان يتمشى مع رغائب السياسة الرومانية. وكان من فائدة «فيلومتور» أن يرضى الرومان، وبخاصة عندما نعلم أنه كان على أبواب القيام بالتدخل في شئون سوريا في جانب «الإسكندر بالاس». ولكن مما يُؤْسَفُ له أن وجود «يوباتور» في «قبرص» وقتئذ لم تَقُمْ عليه دلائل قاطعة. وقد تحدث عن هذه الأوراق البردية الأثري «جوتييه».٥٣ وعلى أية حال نجد أن «جوتييه» قد قبل وجود عملة — كما سنذكر بعد — تدل على أن السنة الأولى من عهد «يوباتور» تقابل السنة السادسة والثلاثين من عهد الملك «فيلومتور».٥٤
أما عن النقوش التي دُوِّنَت على شرف الإله «يوباتور» فإن واحدًا منها يبرهن على أنه كان ابن «فيلومتور» و«كليوباترا الثانية».٥٥ هذا، وقد تحدث «باريتي»٥٦ عن ثلاثة نقوش أَرَّخَهَا بعامي (١٥٣-١٥٢ و١٥١-١٥٠ق.م) مدعيًا أنها تبرهن على وجود «يوباتور» وقتئذ في «قبرص»؛ والواقع أنها لا تبرهن على ذلك، غير أنه يمكن القول أنه من الأشياء التي تلفت النظر أن ثلاثة التماثيل التي مُثل فيها «يوباتور» بوصفه ملكًا كانت كلها قد أُقِيمَتْ في «قبرص» في حين أنه لم يُعْرَف له حتى الآن أي تمثال في مصر. ومما يُؤْسَفُ له أنه في كل من هذه التماثيل الثلاثة قد مُحِيَ اسم المهدي، والمسلم به بوجه عام أن هذا المحو كان قد عُمِلَ بعد تولي «إيرجيتيس الثاني»؛ وذلك تمشيًا مع سياسة إنزال اللعنة على ذكرى «فيلومتور» ونسله.
هذا، ونجد من جهة أخرى أن الأثري «أوتو»٥٧  Otto قد وضع أمامنا استنباطًا غاية في الفطنة؛ فقد قال إن ما تدل عليه أوراق البردي هو أن «يوباتور» قد ظهرت عبادته بوصفه إلهًا في عام (١٥٣-١٥٢ق.م)، وفي أبريل عام ١٥٢ق.م نجد أنه كان مشتركًا مع والده،٥٨ وفي يناير عام ١٥٠ق.م لم يكن مشتركًا مع والده في الحكم. غير أنه لم يمت إلا بعد ذلك؛ لأنه على ما يظهر على حسب نكتة فاه بها «أنتباتور» الصوري منسوبة إليه جعلت موته يقع في وقت واحد مع كسوف كلي للقمر رؤي في مصر. وهذا الكسوف يشير إلى الثالث من يوليو أو الثامن والعشرين من ديسمبر عام ١٥٠ق.م، وعلى ذلك فإن النقوش الثلاثة تقع في الفترة ما بين (١٥٣-١٥٢) إلى ١٥٠ق.م. ولما كانت هذه النقوش تذكر «يوباتور» وحده ولم تذكر والده فإن «أوتو» قد استنبط من ذلك أن هذه النقوش عندما حُفِرَتْ لم يكن «يوباتور» بعد مشتركًا مع والده في الملك؛ بل كان ملكًا منفردًا، وعلى ذلك فإن والده لم يعد بعد حاكمًا ﻟ «قبرص»، ومن ذلك نفهم أن «يوباتور» بعد انقضاء وقت ما بعد أبريل عام ١٥٢ق.م قد أصبح لا يشترك في حكم كل الدولة المصرية، بل أصبح حاكمًا مستقلًّا؛ أي ملكًا على «قبرص»؛ وذلك لأن «فيلومتور» قد نزل عن «قبرص» له. وقد اقْتُرِحَ أن «أميليوس لبيدوس» Aemilius Lepidus هو الذي نصب «يوباتور» بمثابة ملك في عام ١٥٢ق.م، وأن هذا هو موضوع عملة إغريقية مشهورة،٥٩ وقد استعمل «أنتيباتور» كلمة ανοξ وهي اللفظة القديمة التي كانت تُطْلَقُ على أمراء «قبرص» لتصف «يوباتور» بأنه حاكم «قبرص»، غير أن البيان الذي قدمه لنا «أوتو» هنا ينطوي على نقطتي ضعف. فقد ذكر لنا المؤرخ «دتنبرجر» Dittenberger أنه فيما يخص قاعدة تمثال «إبيفانس»٦٠ فإن تماثيل الحكم المشترك يمكن أن تقام كل منها على انفراد، وأن النقش يشير لكل منهما على انفراد باسم صاحبه.

ومن جهة أخرى لا يمكن أن نبني قضية تاريخية على نكتة شعرية.

ولكن على أية حال مهما كان غرض الخطة سواء أكان «يوباتور» قد نُصب ملكًا على «قبرص» أم لا فإنها قد أسفرت على لا شيء؛ وذلك بسبب القضاء على الملكية المشتركة لسبب مجهول وموت «يوباتور» وهو غض الإهاب. على أن هذا الموضوع قد أُحْيِيَ من جديد، وذلك أنه عُثِرَ على عملة في بافوس Paphos عليها تاريخ مزدوج يوحد السنة الأولى — لملك اشترك حديثًا في الملك — بالسنة السادسة والثلاثين من عهد الملك «فيلومتور»، وذلك يبرهن على أنه في عام (١٤٦-١٤٥ق.م) لا بد قد نصب ابنًا آخر معه على عرش الملك ليكون شريكًا له. وقد كان هذا الحادث دون شك في أمسية سفره على رأس الحملة التي قام بها إلى «سوريا»، وهي التي كان فيها القضاء على حياته. وهذه الحملة — كما ذكرنا من قبل — كانت لمساعدة «الإسكندر بالاس» لا عليه، وقد كان هذا الابن الذي نُصب شريكًا له هو الذي يُعْرَفُ عند المؤرخين باسم «نيوس فيلوباتور»، وهو الذي يُقال إن «بطليموس إيرجيتيس الثاني البطين» قد قضى على حياته في نفس اليوم الذي تزوج فيه من أمه «كليوباترا الثانية».

(ب) بطليموس فيلوباتور نيوس

والواقع أن كل ما لدينا من معلومات حتى الآن ليست بكافية لكشف النقاب عن شخصية هذا الأمير الذي لم يحكم البلاد أبدًا، وأن ما تحوم حول شخصيته من شكوك هي نفس الشكوك التي لفت شخصية «يوباتور» في ظلام دامس.

والغريب أن هذين الأميرين كثيرًا ما يختلط الواحد منهما بالآخر، وسنحاول فيما يأتي أن نذكر المصادر الأثرية التي جاء فيها ذكر هذا الأمير، وما قيل عنها من آراء متضاربة، ثم نختم الكلام برأي الأستاذ «شاسينا» في موضوع توحيده مع «بطليموس المنفي» على حسب متن جديد وُجِدَ بين نقوش معبد «إدفو» الكبير، ويرجع الفضل في حل معناه إلى هذا الأثري الكبير.

ظهر اسم هذا الأمير للمرة الأولى في بردية ديموطيقية محفوظة الآن بمتحف «برلين»، ومؤرخة بالثالث أو الخامس من بشنس من العام الثاني والخمسين من عهد الملك «إيرجيتيس الثاني» (= ١١٨ق.م)؛ أي بعد الأمير «يوباتور» بحوالي أربعين عامًا.

هذا، وكان الأثري «لبسيوس» يعرف هذه البردية منذ عام ١٨٥٢م، غير أنه عارض في أهميتها التاريخية، وذلك بقوله: إن الأمير «نيوس فيلوباتور» قد ذُكِرَ في المتون الهيروغليفية التي في معبدي «طيبة» و«أمبوس» (كوم أمبو الحالية)؛ ولا بد إذن أنه كان قد حُشِرَ اسمه في سلسلة الملوك الشرعيين، وكان يُعْبَد رسميًّا قبل عام ٥٢ من عهد الملك «البطين إيرجيتيس الثاني»،٦١ ومن ثم نلحظ أن «لبسيوس» قد أخطأ في توحيد الأمير «نيوس فيلوباتور» بابن «فيلومتور» و«كليوباترا الثانية» الذي يُحْتَمَلُ أن «إيرجيتيس الثاني» قد قتله (؟)، وقد وحده «جوتييه» بالأمير «يوباتور». هذا، ونجد من جهة أخرى أن الأثري «جرنفل»٦٢ قد أعلن صواب رأي «لبسيوس»؛ أي إن «فيلوباتور نيوس» هو «يوباتور». هذا، ونجد ثانية أن الأثري «ريفييو» Revillout قد رفض رفضًا باتًّا هذا التوحيد وقال: إن «نيوس فيلوباتور» هو ابن «إيرجيتيس الثاني» و«كليوباترا الثانية» وعلى ذلك كان أخ «يوباتور» من أمه، ولكنه لم يوحده بالأمير المنفي الذي وُلِدَ في «منف» خلال الاحتفال الرسمي بتتويج «إيرجيتيس الثاني» ويقول «ريفييو»:٦٣ إنه إذا كان هذا الأمير قد حُشِرَ بين شهر أمشير وشهر بشنس من السنة الثانية والخمسين في سلسلة الملوك المؤلَّهين فإن ذلك لم يكن إلا بمثابة إصلاح الخطأ جاء متأخرًا، وعمله هذا الملك لأجل الملكة العجوز «كليوباترا الثانية» التي رأت ابنها الثاني بوصفه وارثًا للعرش، ومن ثم كان إشراكه في عرش البلاد (ما بين عام ١٢٤ و١١٨ق.م) بمثابة ترضية نهائية لكبريائها من جانب «إيرجيتيس الثاني» عام ١٢٤ق.م، غير أن «كليوباترا الثالثة» كانت قد أكلت الغيرة صدرها من هذا الأمير، وعملت على التخلص منه حتى لا يرث العرش. هذا، وقد اعتبر المؤرخ «مهفي»٦٤ أن «فيلوباتور نيوس» هو ابن خالة «يوباتور» الذي كان يعتبره هذا المؤرخ ابن «بطليموس الخامس إبيفانس»، وكان — كما يقول «مهفي» — ابن «فيلومتور» و«كليوباترا الثانية»، والأخيرة قد وضعته على عرش الملك بعد موت «فيلومتور» عام ١٤٦ق.م وذلك بمساعدة حزب اليهود في الإسكندرية، و«بطليموس فيلوباتور نيوس» هذا هو الذي نسب إليه «مهفي» النقش الإغريقي الذي وُجِدَ للإله «أبولو» (في جزيرة قبرص)٦٥ على نقش عُثِرَ عليه في بلدة «بافوس» Paphos.٦٦ وأخيرًا نُسِبَ إليه النقش الذي عُثِرَ عليه في جزيرة «حصه» وهو الذي كشف عنه الأثري «سايس» Sayce عام ١٨٩٥،٦٧ وكذلك قال: إنه هو الذي قتله «إيرجيتيس الثاني» لا «يوباتور» في نفس اليوم الذي تزوج فيه من «كليوباترا الثانية» أرملة «بطليموس السادس» عام ١٤٥ق.م اللهم إلا إذا كان قد مات ميتة طبيعية، وهذا ممكن كما يقول «مهفي».٦٨
أما الأثري «بدج»٦٩ فقد اعتنق بطبيعة الحال — بما عُرِفَ عنه من عدم الاهتمام في المناقشات النقدية البعيدة الغور — أفكار المؤرخ «مهفي»؛ فسمى هذا الأمير كما سماه «مهفي» «بطليموس الثامن»، كما أضاف أنه كان يُدْعَى على حسب بعضهم «يوباتور الثاني»، وعلى حسب بعضهم الآخر «نيوس فيلوباتور». ثم استمر في خلطه بين هذين الأميرين ما شاء له الخلط.
أما الأثري «ستراك» Strack٧٠ فإنه يعتبر «نيوس فيلوباتور» «بطليموس التاسع» ولم يقتبس له أي نقش إغريقي.
وأخيرًا أعلن «بدج» كذبًا وبهتانًا بأنه لا يوجد أي نقش مصري لهذا الملك، على أن ذلك لم يمنعه على أية حال في كتابه عن ملوك مصر أن يقتبس خمسة أمثلة عن لقب «فيلوباتور نيوس» بالمصرية القديمة منسوبة إلى مصادرها (راجع Ibid. p. 262).
رأينا فيما سبق أن الأثري «ريفييو» قد اعتبر «فيلوباتور نيوس» بأنه ليس ابن «فيلومتور» بل ابن «إيرجيتيس الثاني»، وهذا هو نفس الرأي الذي أخذ به «ستيوارت بول» Stuart Poole في كتابه عن النقود الإغريقية في مصر، وكذلك كان هذا هو رأي «ستراك»، وقد ذهب الأخير إلى أبعد من هذا، ووحد هذا الأمير بالأمير «بطليموس المنفي» الذي وُلِدَ في عام ١٤٤ق.م في «منف» في خلال انعقاد أعياد تتويج «إيرجيتيس الثاني»، وأُعْدِمَ عام ١٣٠ق.م بيد والده نفسه، وذلك عندما كان الأخير قد طُرِدَ مؤقتًا من عرش الملك على يد أهالي الإسكندرية.٧١ وهذا الرأي هو الذي اعترف به المؤرخ «بوشيه لكلرك» إلى أن تصل معلومات أكثر دقة كما يقول، غير أنه مع ذلك اقترح حلًّا آخر مؤداه أن «نيوس فيلوباتور» هو الابن البكر للملك «إيرجيتيس الثاني» و«كليوباترا الثالثة» لا ابن «كليوباترا الثانية»؛ أي إنه كان الأخ الأكبر ﻟ «بطليموس العاشر سوتر الثاني» الذي وُلِدَ حوالي عام ١٤٣ق.م أو ١٤٢ق.م، وأنه مات قبل والده (وهذا يفسر أنه لم يحكم). وهذه النظرية الأخيرة هي التي يميل «جوتييه» للأخذ بها، ويقول إنها هي النظرية الوحيدة التي يمكن أن يُفَسَّرَ بها لماذا لم يظهر «فيلوباتور نيوس» في النقوش التي على الآثار قبل عام ٥٢ من عهد «إيرجيتيس الثاني» (١١٨ق.م).
ومن كل ما سبق نرى أن المؤرخين الأحداث لم يتفقوا على رأي واحد في تحديد مكانة «بطليموس فيلوباتور نيوس» في التاريخ. غير أن الأثري «شاسينا» كما ذكرنا من قبل قد طلع علينا برأي جديد استنبطه من نقش كُشِفَ عنه في معبد «إدفو»، وهذا الرأي يتفق مع رأي كل من المؤرخين «ستراك» و«بوشيه لكلرك» في جملته، وسنضع ملخصًا لهذا البحث هنا لما فيه من طرافة ودقة وعمق في التفكير، وأعتقد أنه هو الرأي الصواب، وسنرى أن هذا الحل بما جاء فيه من أسانيد يدحض الرأي الذي اعتنقه الأثري «جوتييه».٧٢

(ﺟ) لغز بطليموس المنفي وبطليموس نيوس فيلوباتور

لقد بقي موضوع قصة «بطليموس المنفي» ابن «بطليموس إيرجيتيس الثاني» و«كليوباترا الثانية» مثار جدل ومناقشات لم تَنْتَهِ بعد بصورة قاطعة. وقد كان آخر من تحدث عن هذه المسألة المعقدة الأستاذ «شاسينا» في مقال رائع له. وسنحاول أن نتناول فحص هذا الموضوع من جديد مستعينين بكل ما كتبه المؤرخون في هذا الصدد، وبخاصة ما كتبه كل من المؤرخ العظيم «بوشيه لكلرك»، والأثري «شاسينا»، وبخاصة الأخير الذي أمضى طوال حياته في البحث في نقوش البطالمة ونقلها.

والواقع أن الأستاذ «شاسينا» أراد أن يصل إلى حل لغز «بطليموس المنفي» من منظرين لَفَتَا نظره في محراب معبد «حور» في «إدفو»، وهذان المنظران قد مُثلا على الجدارين الشرقي والغربي لهذا المحراب على التوالي، وهما يشغلان مكانًا مواحدًا عند الطرف النهائي للصف الثاني من النقوش.٧٣

والمنظر الذي على الجدار الشرقي يظهر فيه الإله «تحوت» يقدم صولجانًا (ماكس) وثلاث جريدات من جريد النخل يتدلى من كل منها رمز العيد الثلاثيني للملك «بطليموس إيرجيتيس الثاني» وخلفه الملكة «كليوباترا الثانية» التي كانت تحمل الألقاب التالية: الابنة الملكية، والأخت والزوجة الملكية، والأم الملكية، والحاكمة ربة الأرضين «كليوباترا» الإلهة المحسنة، الأخت والزوجة لابن «رع» (بطليموس معطى الحياة أبديًّا، محبوب بتاح).

والواقع أن هذا المنظر كما يقول الأستاذ «شاسينا» ليس فيه ما يلفت النظر؛ لأنه لا يتميز عن المناظر الأخرى إذا لم يكن المفتن قد خالف المعتاد هنا ووضع بين الملك «إيرجيتيس الثاني» وزوجه «كليوباترا الثانية» صورة طفل يرتدي على رأسه تاج مصر المزدوج وعلى جبينه الصل، ويلبس نفس اللبس الذي يلبسه «بطليموس» وهو العباءة الواسعة. يُضاف إلى ذلك أن صفة هذا الطفل في هذا المنظر التي ميزت فعلًا بالمكانة التي يحتلها في هذا المنظر وبالرموز الملكية التي يتحلى بها؛ قد حُددت كذلك بنقش حُفِرَ بالقرب من صورته جاء فيه: الوارث الملكي لمن أنجبه والملكة، وهو الذي يوجه سير السيد الأوحد، (وهذا التعبير يعني إحدى الوظائف التي كان مكلفًا بها في العبادة التي كانت تُؤَدَّى لوالده، وكان الملك نفسه يقوم بأدائها بوصفه كاهنًا للآلهة المختلفين)، والابن الملكي البكر محبوب الملك «بطليموس» بن «بطليموس إيرجيتيس الثاني» الإله المحسن. هذا، ولدينا متن آخر وُضِعَ فوق الزوجين الملكيين بصورة واضحة يفسر علاقة هؤلاء الأشخاص الثلاثة وهو: «الملك والملكة وابنهما.»

والمنظر المقابل لهذا المنظر الذي وصفناه يوجد على الجدار الغربي للمحراب، وهو صورة طبق الأصل من الأول مع رواية تختلف اختلافًا بسيطًا في التفصيل: فيُشَاهَد هنا «تحوت» وفي يده أربع جريدات نخل، ويكتب المدائح الملكية أمام «بطليموس إيرجيتيس الثاني» الجالس: ملك الوجه القبلي (وارث الإلهين الظاهرين، والمختار من «بتاح»، الذي يعمل العدالة ﻟ «رع»، تمثال آمون الحي)، الإله المحسن ابن «رع» (بطليموس العائش أبديًّا، محبوب بتاح)، والإلهة المحسنة «كليوباترا الثالثة» الحاكمة، ربة الأرضين، «كليوباترا» الزوجة الملكية لابن «رع» (بطليموس العائش أبديًّا، محبوب بتاح).

والنقش الخاص بالأمير الفتى جاء فيه: «الروح (كا) العائشة للملك، والروح النضرة، والنطفة الإلهية لسيد هذه الأرض، والابن الملكي الذي يحبه الملك العظيم، ابن «بطليموس إيرجيتيس الثاني».» وهنا كذلك نجد أن الرابطة الأسرية قد وضحت في متن أفقي وُضِعَ خلف الملكة «… المتعبدة الإلهية بجواره (أي بجوار الملك) وابنهما «شو»٧٤ أمامهما.»

ولا نزاع في أن وجه الشبه هنا بين هذين المنظرين ليس ظاهرًا. وسنحاول فيما يلي أن نعرف ما هي أوجه الخلاف بينهما بوساطة شخصيات الأسرة الملكية الذين مُثلوا فيهما.

وقبل أن نتحدث عن ذلك يجب أن نشير هنا إلى أن الأثري «بروكش» قد نقل جزءًا من المنظر الأول، ولكنه أساء فهمه تمامًا٧٥ كما سنرى بعد.

والواقع أن المتون كما تُقْرَأ على جدران المعبد لا تدع مجالًا لأي شك؛ وذلك لأن المطلع عليها لا يجد أي مجال لتصحيح في المتن؛ لأن ناقشها كما هو واضح لم يُسِئ استعمال لقب، كما أنه لم يخلط بين أشخاصها؛ فالألقاب: الابنة الملكية والأخت زوج الملك والأم الملكية هي ألقاب الملكة «كليوباترا الثانية»؛ فقد كانت «الابنة الملكية» لأنها ابنة «بطليموس الخامس»، وكانت «الأخت الزوجة» بزواجها من أخيها «بطليموس فيلومتور»، وفيما بعد بزواجها من أخيها «بطليموس إيرجيتيس الثاني»، وأخيرًا كانت «الأم الملكية» لأنها أنجبت «بطليموس يوباتور» و«كليوباترا كوكي» وهما اللذان أنجبتهما من زوجها الأول؛ و«بطليموس المنفي» الذي رُزِقَتْ به من زوجها الثاني «إيرجيتيس الثاني»؛ وعلى ذلك فإن الأمير الصغير ليس «بطليموس فيلومتور» كما يقول «بركش»، بل هو ابن أخيه؛ أي ابن «بطليموس إيرجيتيس الثاني». غير أنه لسوء الحظ لم يَأْتِ مع اسمه وصف يميز نسبه؛ ومن ثم كان من المستحيل أن تميزه في أول الأمر.

وعلى أية حال عُزي ﻟ «بطليموس إيرجيتيس الثاني» أربعة أولاد ذكور؛ وهم: «بطليموس المنفي» وهو الذي أنجبته له أخته «كليوباترا الثانية» بعد موت «بطليموس السادس» وزواجها منه، و«بطليموس سوتر الثاني» و«بطليموس الحادي عشر الإسكندر» وقد أنجبتهما له زوجه الثانية «كليوباترا الثالثة»، وأخيرًا «بطليموس نيوس فيلوباتور».

والمؤرخون بوجه عام لم يتفقوا حتى الآن على بنوة الأخير من حيث الأم؛ فأحيانًا ينسبونه إلى «كليوباترا الثانية» وأحيانًا ينسبونه إلى «كليوباترا الثالثة» وبعضهم يخلطون شخصية هذا الأمير بشخصية «بطليموس المنفي».٧٦
والواقع أنه إذا قبل الإنسان النظرية القائلة بأن «نيوس فيلوباتور» هو الابن الأصغر للملك «إيرجيتيس الثاني» فإنه من المستحيل أن يوحده بالطفل الذي مُثل في المنظر؛ وذلك لأنه مميز فيه بأنه الابن البكر، وهو الذي نعرف بأنه يُدْعَى «المنفي» الذي وُلِدَ في عام ١٤٤ق.م في أثناء الاحتفال بعيد التتويج الذي أقيم لوالده في «منف». والواقع أن نعت «الوارث الملكي» يمكن أن يعود حقًّا على «نيوس فيلوباتور» بعد الموت المفجع الذي لاقاه «المنفي»، وحتى يمكن أن يُنْسَبَ إليه لقب الابن البكر كما كانت الحال مع «بطليموس العاشر سوتر الثاني» كما نعرف ذلك من النقش العظيم التاريخي الذي حُفِرَ على معبد «إدفو» وذلك بمناسبة موت «بطليموس إيرجيتيس الثاني»؛ حيث يقول المتن: إن الصقر «بطليموس السابع» قد طار إلى السماء، وابنه البكر «سوتر الثاني» جلس على عرشه.٧٧ غير أنه ليس من المحتمل أن تكون «كليوباترا الثانية» قد أنجبت ابنًا آخر في الفترة القصيرة التي تفصل بين ولادة ابنها «المنفي» وبين زواج «إيرجيتيس الثاني» من ابنة أخته في عام ١٤٣ أو عام ١٤٢ق.م أو قبل هذا الزواج؛ ومن ثم يمكن أن نفرض ولو مؤقتًا أن الطفل المُمَثَّل بالقرب من زوجة «بطليموس إيرجيتيس الثاني» الأولى هو «بطليموس المنفي» ولدينا حقائق كثيرة تساند هذا الفرض: أولًا: نجد أن الولدين الممثلين في المنظرين كانا فعلًا كبيرين، والواقع أنه لم يكن المقصود هنا عند وضع هذين المنظرين هو تفسير إصلاحي محض؛ وذلك لأننا نعلم أن أوجه المحراب الخارجية كانت لا تزال عارية من النقوش عندما بدئ في سبتمبر عام ١٤٢ق.م بافتتاح المعبد، وهو حفل أسهم فيه «بطليموس إيرجيتيس الثاني» ومعه كل من زوجيه. وكان المنفي في هذا التاريخ يبلغ السادسة عشرة من عمره، وكان الابن الأول للملكة «كليوباترا الثالثة» قد وُلِدَ أو على وشك أن يُولَد. وثانيًا: نجد أن حالة الخصومة السافرة كانت تسود منذ هذه اللحظة بين «إيرجيتيس الثاني» و«كليوباترا الثانية». وقد كان من جراء ذلك قيام الإسكندريين على ما يظهر بثورة في صالح الملكة، وهذه الثورة أسفرت عن هرب «إيرجيتيس الثاني» في عام (١٣١-١٣٠ق.م)، غير أنها لم تكن لتحدث عند هذا العاهل تأثيرًا حسنًا بالنسبة لعدوه اللدود وابنها الذي كانت قد شرعت في جعله يُعْلَن ملكًا مكان والده. والواقع أن خطف «المنفي» بمثابة رهينة ثم قتله وهو ما حدث بعد فترة وجيزة كان الغرض منه حرمان «كليوباترا» من سلاح سياسي خطر تحارب به «إيرجيتيس الثاني»، ويقول «ديدور الصقلي»: إن «المنفي» كان لا يزال صغيرًا جدًّا عندما أُعْدِمَ؛ إذ كان لا ينبغي وقتئذ أن يكون أكثر من ست عشرة سنة.٧٨
وعلى ذلك فإن إنجاز المنظر الذي نحن بصدده لا بد أن يكون — بضرورة الحال — قد تم بعد الصلح الذي أُبْرِمَ بين «بطليموس إيرجيتيس الثاني» و«كليوباترا الثانية» وهو الذي يُؤَرَّخُ بعام ١٢٤ق.م،٧٩ وهو العام الذي أُقِيمَ فيه الاحتفال بإتمام المحراب الذي اشتركت فيه الملكة المسنة بالحضور. فقد ظهر اسمها في نقش الإهداء، وكان مقرونًا باسم الزوجة الثانية للملك «بطليموس إيرجيتيس الثاني»؛ أي «كليوباترا الثالثة».
هذا، ونعلم أن تزيين المحراب من الخارج لم يكن إلا في بداية عهد «بطليموس الرابع»،٨٠ ولم يُسْتَأْنَفِ العمل فيه إلا متأخرًا، والمحتمل جدًّا أن ذلك كان بعد عام ١٢٤ق.م على يد «إيرجيتيس الثاني»؛ فقد اهتم هذا العاهل أولًا ببناء قاعة العمد الأولى الصغيرة (١٤٠–١٢٠ق.م)، وقد انتهى العمل في الجزء الداخلي منها تمامًا في مدة حكمه، وبعد ذلك شرع في القيام بنقش أوجه المعبد الخارجية، غير أنه لم يمتد به الأجل ليرى نهاية هذا العمل.
وتدل شواهد الأحوال على أن جدران المحراب حيث يوجد المنظران اللذان نفحصهما هنا قد تم العمل فيها قبل موته. أما جدران قاعة العمد الأولى فقد تم تزيينها في عهد «بطليموس سوتر الثاني» وكذلك في عهد «بطليموس الحادي عشر الإسكندر».٨١ والمنظران اللذان نحن بصددهما والممثلان لابني «إيرجيتيس الثاني» يُؤَرَّخَان على ذلك بنهاية حكم هذا الملك، ومن ثم يجب أن يُنْسَبَا إلى الفترة التي ما بين عام ١٢٤ و١١٧ق.م من حكمه. ويصرح المؤرخ «بوشيه لكلرك» أن «إيرجيتيس الثاني» أمر بوضع «بطليموس المنفي» في قانون العبادات الأسرية باسم «نيوس فيلوباتور»؛ وذلك لأجل إرضاء «كليوباترا الثانية» وهذا يُعَدُّ بمثابة تحية قدمها لذكرى ابنه بعد وفاته.٨٢ على أنه لم يصل إلينا حتى الآن أي برهان يمكن أن ترتكز عليه هذه النظرية التي تُعْتَبَر أكثر قبولًا من بين النظريات العدة التي وردت عن هذا الموضوع. والظاهر أن تأكيد هذه النظرية قد جاء إلينا عن طريق واحد من هذين المنظرين ولو جزئيًّا على الأقل.

ويُلْحَظُ فقط أن اسم ابن «كليوباترا الثانية» قد تبعه نعت: «الإله المحسن»، ابن الملك، الأمير محبوب الملك (بطليموس بن بطليموس العائش أبديًّا)، الإله المحسن. وهذا النقش لم يظهر بعد طغراء ابن «كليوباترا الثالثة» الذي كان يُنْعَت: روح الملك الحية … (بطليموس بن بطليموس العائش أبديًّا، محبوب بتاح). وهذا النعت لا يمكن أن يُنْسَب لوالد «إيرجيتيس الثاني»، وإلا لكان قد كُرِّرَ في المنظرين، وفضلًا عن ذلك فإنه لما لم يكن هناك في النقش الخاص بالابن الأكبر ما يدل على أنه كان لا يزال على قيد الحياة؛ فإن النقش الخاص بالابن الآخر ينعته بأنه «روح الملك الحية»، وعلى ذلك فإنه ليس من غير المعقول أن يُسْتَنْبَطَ أن «بطليموس بن بطليموس، محبوب بتاح، الإله المحسن» هو بلا شك «المنفي» الذي كان قد مات فعلًا، وأُلِّهَ في اللحظة التي عُمِلَ فيها هذا المنظر، وهو الذي يُوَحَّدُ أحيانًا بالملك «نيوس فيلوباتور».

وعلى أية حال فإن هذا الاستنباط يقوم في وجهه اعتراض فيما يمس توحيد «بطليموس المنفي» ﺑ «نيوس فيلوباتور»؛ فإن أولهما يُنْعَتُ ﺑ «الإله المحسن»، والآخر يُنْعَتُ ﺑ «الطفل الإلهي محبوب والده». وعلى ذلك يظهر من الصعب أن نفسر أنه من الممكن أن نطبق هذين النعتين على شخص واحد بعينه، وأعتقد أنه من الجائز وجود حل لهذه المعضلة التي في ظاهرها تُعْتَبَرُ غير ممكن حلها عند فحص الحوادث التي تميز عصرًا من أظلم عصور حكم «إيرجيتيس الثاني»، وترتكز معرفة هذه الحوادث بكل أسف على وثائق ناقصة وغير كافية؛ مما أدى إلى وجود فجوات عدة في تاريخ هذه الفترة تفرض على الباحث في أغلب الأحيان أن ينهج تفسيرًا خياليًّا مرتجلًا؛ فمن ذلك أن المؤرخ «بوشيه لكلرك» استعرض حل هذه المسألة بصورة واضحة في ظاهرها، غير أن مَنْظَرَيْ معبد «إدفو» اللذين نحن بصددهما الآن يُحْتَمَلُ أن يسمحا بتغيير بعض ما جاء في هذا الاستعراض أو تكميل ما جاء فيه ناقصًا في بعض النقاط.

وتوضيح ذلك أن أهالي الإسكندرية بعد أن أعلنوا سقوط «إيرجيتيس الثاني» والاعتراف ﺑ «كليوباترا الثانية» بمثابة ملكة عليهم؛ كانوا قد فكروا على ما يُظَنُّ احترامًا للعادة المرعية في مثل هذه الحالة أنه لا بد من البحث في الأسرة الملكية عن وارث ذكر للعرش؛ لأجل أن يكون زوجًا شرعيًّا سواء أكان حقيقيًّا أو اسميًّا. ويقال: إنه قد وقع اختيارهم على ابن أكبر له من حظيته «إيرن»، وهو بالطبع ابن سفاح، ولكن والده لما علم بذلك أحضره من «سيريني» ثم أمر بقتله، وقد هاج أهالي الإسكندرية عند السماع بهذه الجريمة، وعلى أثر ذلك كسروا تماثيل هذا الملك المبعد عن العرش، وقد كان جوابه على هذا التحدي الذي نسبه إلى «كليوباترا الثانية» أن قتل ابنه «المنفي» وأرسل أشلاءه هدية لأمه في يوم عيد ميلادها.

وهذه القصة يعتمد جزء منها على ما ذكره لنا المؤرخ «جوستن»٨٣ وحده، ولم يشاركه فيه مؤرخ آخر. وقد نُسِبَ إلى «كليوباترا» دور يدعو إلى الدهشة بالنسبة لها؛ إذ نعلم أنها كانت على جانب عظيم من النشاط، والواقع أن الذين درسوا أخلاقها قد خالجهم الشك في أن تكون قد أقحمت نفسها في مؤامرة كان من نتائجها حرمان ابنها «المنفي» من حقوقه الشرعية. حقًّا نعلم أنها بطبيعة الحال قد أسهمت في الإسراع في سقوط «إيرجيتيس الثاني» الذي كان فعلًا غير محبوب، وذلك بشعور الحقد عليه من جهة، ولكن دون شك كذلك لأجل أن تبعد أولاد «كليوباترا الثالثة» من تولي عرش الملك، وكانت تخاف من نفوذها. ولا نزاع في أن العناية التي بذلتها لتمجيد ذكرى ابنها لتظهر أنها على الرغم من أنها قد خاب ظنها في أطماعها بالحوادث التي جاءت على عكس ما كانت تصبو إليه؛ فإنها لم تكن تجهل كذلك أن موتًا قبل ميعاده كان من الممكن أن يحدث، ويتساءل الإنسان كيف يمكن أن ترضى بقبول فكرة تقسيم السلطة مع خلف غير شرعي للملك «إيرجيتيس الثاني»؟ والواقع أن المتن الذي اقتبسه «بوشيه لكلرك» نقلًا عن «جوستن» يقدم لنا سببًا للجريمة الأولى، وهو خوف «إيرجيتيس الثاني» من أن يحل محله آخر على عرش الملك؛ هذا إلى أنه لم يُشِرْ بأية إشارة إلى مشروع محالفة زوجية سواء أكانت فعلية أم اسمية، وفضلًا عن ذلك فإن «المنفي» وهو الابن البكر والوارث الطبيعي للملك «إيرجيتيس الثاني» كان في مقدوره — على الرغم من صغر سنه — أن يحكم تحت وصاية أمه، ومثل هذه الحالة قد مرت بنا فيما يخص «بطليموس السادس فيلومتور» الذي كان يبلغ من العمر ست سنوات عند موت والده. ولم يكن لدى أهالي الإسكندرية أية حجة لحرمان ابن ملكة محترمة لأجل فائدة ابن سفاح من ظهر الملك الذي طُرِدَ من البلاد.

وعلى أية حال فإنا نجهل كل شيء عن هذا الأمير المجهول الاسم الذي لم يذكره أحد من المؤرخين إلا «جوستن»، وهو الذي في الوقت نفسه جعلنا منه ابنًا لمحظية الملك «إيرن»، دون الإدلاء بأي برهان يثبت ذلك. على أن إبعاد «المنفي» الذي اختطفه والده منذ هربه إلى «قبرص» لا يمنع أبدًا أن يُنصب ملكًا على البلاد على الرغم من أن ذلك لا يمكنه من الحكم بصورة فعلية، وهذا ما كان يجب أن يحدث، وإذا كان موت «المنفي» قد أكده كثير من الكتاب القدامى، فإنه ليس لدينا إلا مؤرخ واحد قد أشار إلى موت ابن الحظية «إيرن» المزعوم، وعلى أية حال — دون أن نلقي ظلًّا من الشك على حسن نية «جوستن» — فإن الشك قد غامر المؤرخ الفاحص في دقة هذا الخبر؛ إذ يجوز أنه قد غشه أحد أولئك القصاصين الذين لا يُعْتَمَد على آرائهم، أو أنه قد ضل السبيل بين التقارير المفككة والمتضاربة العديدة التي كانت تُرْوَى عن جرائم «إيرجيتيس» وأسبابها، وهذه الجرائم كانت تُنْقَل من فم إلى فم بصورة مبالغ فيها، ولعب فيها الخيال دورًا هائلًا، ولا نزاع إذن في أن جريمتين شنيعتين كهاتين اللتين ذكرناهما، وجاءت الواحدة تلو الأخرى في مدة قصيرة، وكان لكل منهما علاقة بالأخرى؛ لا بد أن تكونا قد تركتا أثرًا في الأذهان، ومع ذلك فإن المؤرخين الذين كانوا يصغون كثيرًا إلى من يتهمه «جوستن» بأنه ارتكبهما لم يحافظوا إلا على واحدة. على أن صمت المؤرخين في ذلك يدعو الإنسان إلى أن يفكر في أنهم قد أهملوا الأخرى؛ لأنهم يعرفون أن الاتهام كان كاذبًا … وعلى ذلك فإنه حسب هذه النظرية يظهر أن المأساة التي كان سببها الانفعال السياسي الذي بلغ أشده في الإسكندرية قد زاد في عظم خطرها بسخاء حتى صور منها أسطورة شنيعة، وسنحاول أن نسلسل حوادثها بالصورة الآتية: عندما أصبحت «كليوباترا» صاحبة السلطان في الإسكندرية فإنها لا بد كانت قد نصبت ابنها «المنفي» بوصفه خلفًا لوالده «إيرجيتيس الثاني» ولقبته «نيوس فيلوباتور»، وبعد ذلك أمرت بكسر صور الملك المخلوع؛ لأجل أن تؤكد فقدان حقوقه في الملك بوصفه ملكًا مخلوعًا. وقد كان قتل الطفل «المنفي» الذي كان قد استولى عليه والده كرهينة عندما احتمى في «قبرص» هو النتيجة الأولى من أعماله، وبذلك نرى أن «إيرجيتيس الثاني» قد أزال العقبة الوحيدة التي كانت حائلة بينه وبين عرشه المفقود، وقد كان يتخذ الأهبة فعلًا لاسترجاعه بمساعدة جيش من الجنود المرتزقين.

وبعد مضي ستة أعوام على هذا الحادث أي في عام ١٢٤ق.م عندما قرر — لأسباب ليس للعواطف فيها دخل يذكر؛ بل دعت إليها الأحوال السياسية بعد أن تهادن مع «كليوباترا الثانية» — أن يمنح أمجادًا إلهية للطفل الذي كان قد قتله، وهذه الأمجاد هي التي تظهر أمامنا ممثلة في متن «إدفو» الذي نحن بصدده، ولم يكن في مقدوره — خوفًا من أن يظهر راضيًا عن عمل مرتبط بسقوطه المخزي — أن يعترف رسميًّا بالتسمية التي مُنِحَتْ لمناهضه المؤقت؛ لذلك عندما كرمه والده بعد مماته بلقب الإله المحسن، وهو لقب كانت تحمله كل من أخته وزوجه وهو بالمثل، فإنه قد بقي في التقليد محجوبًا بظل من الكتمان حقبة مؤلمة دامية في عهده، وهذا التوافق، وكذلك كل المصادفات التي نبتت عن موضوع توحيد «نيوس فيلوباتور» بالمنفي لا تقدم لنا الحل الواضح والنهائي في مسألة يخيم عليها حقيقة الغموض؛ إذ إن ذلك يترك أمامنا دون تفسير ذكر «الإله نيوس فيلوباتور» في المتون الهيروغليفية والديموطيقية والإغريقية التي كان ينبغي أن تُحْذَف منها، إذا كان الرأي الذي استعرضناه فيما سبق على أساس. حقًّا ظهرت هذه التسمية متأخرة، وذلك على ما يظهر فقط في نهاية حكم «إيرجيتيس الثاني» حوالي العام الثاني والخمسين من حكمه، وبوجه خاص في عهد خلفه «بطليموس العاشر سوتر الثاني» في نقوش دير المدينة.٨٤

والآن هل ينبغي علينا أن نستنبط أن الملك المسن قد استسلم لتضرعات «كليوباترا الثانية» ورضى في النهاية — بعد أن عاد إلى صوابه أو لثقل السنين على كاهله — ليعيد إلى «المنفي» الاسم الذي كان ينبغي أن يحكم به، ويكتب اسمه في قانون الآلهة الأسريين بوصفه الإله «نيوس فيلوباتور»؟

وتدل شواهد الأحوال على أن تاريخ البطالمة مليء بالمواقف أكثر مما يجب التي لم يكن في الحسبان وقوعها، وهي التي نجد فيها حتى أصبح الشاذ مقبولًا، لدرجة تجعل مثل هذا التغير جائزًا. على أنه لا يمكننا أن نصدق ذلك دون تحفظ عندما تعوزنا الأدلة.

والتردد في ذلك على أية حال طبيعي؛ وذلك لأن القدامى أنفسهم لم يكونوا متأكدين من المكان الذي يليق بأن يُنْسَب إلى الإله «نيوس فيلوباتور» ليوضع فيه في القوائم الملكية، وهذا التردد الغريب يحتمل أن ينسب بصورة أكيدة إلى التغييرات التي عُمِلَتْ في هذه القوائم على أثر الإدراج المتأخر المصحح لضحيتي «إيرجيتيس الثاني» وهما الإله «يوباتور» والإله «نيوس فيلوباتور» والأخير قد حل محل «المنفي» بوصفه الإله المحسن، وهذا التغيير الأخير قد سبب في بادئ الأمر بعض التردد في نفس أولئك الذين لا يعرفون الأسباب الحقيقية التي كانت التدابير قد اتُّخِذَتْ لمنع إذاعتها بين الناس. ومهما يكن من أمر فإنه قد حصل على حقيقة جديدة مؤكدة، ويرجع الفضل في ذلك إلى المنظر الذي حُفِرَ على واجهة جدار محراب معبد «إدفو»، وهذه الحقيقة هي رفع ابن «إيرجيتيس الثاني» و«كليوباترا الثانية» إلى مرتبة الإله المحسن (إيرجيتيس) بعد موت الأول.

أما تفسير المنظر الذي يقابل السابق، وهو الذي ظهرت فيه «كليوباترا الثالثة» فليس فيه أية صعوبة، ومعناه واضح، وذلك أن الطفل الممثل فيه هو «بطليموس العاشر سوتر الثاني»، وشخصية الملكة في هذا المنظر مؤكدة باللقب الذي تحمله، وهو «زوج الملك» وهو اللقب الذي يميزها من «كليوباترا الثانية» التي كانت تحمل لقب الأخت الزوجة، وذلك في الفترة التي تلت مدة شقاقها مع «إيرجيتيس الثاني».

وعلى أية حال فإن «إيرجيتيس الثاني» عندما قدم تكريمًا لزوجه الأولى بوصفها أمًّا فإنه لم يكن في استطاعته أن ينسى أنه مدين إلى زوجه الثانية بالابن الذي دُعِيَ ليكون خليفته على ملك أرض الكنانة. ومن الجائز أنه كان يأمل كذلك من وراء هذا العمل الذي منح ترضية عادلة لكل من زوجيه قد جلب في هذه الأسرة الغريبة التي تتألف من زوج وامرأتين الهدوء والسلام الظاهرين الذين لم يذق طعمهما أبدًا على وجه التأكيد هذا الملك إذا كان كل ما نُسِبَ إليه صحيحًا.

وخلاصة القول أن هذا التفسير الذي أوردناه هنا لحل هذا الارتباك الأسري من حيث ترتيب ملوك البطالمة لا يخرج عن كونه نظرية في ظاهرها مقبولة غير أن الحل النهائي الحاسم لا يزال نفتقر إليه، وقد لا يكون بعيدًا ظهوره؛ لأن جوف أرض مصر مليء بالمفاجآت التي لا ينقطع معينها.

١  راجع: Athen. XII.549c.
٢  راجع: Justin, XXXII, 8, 4.
٣  راجع: Pap. Turin., I. p. 9, 21 in the date of year XXVI (144 B.C.).
٤  راجع: Justin, XXXVIII, 8, 5.
٥  راجع: Diod., XXXIII, 20.
٦  راجع: Liv., Epit., LV; Joseph A. Jud., XXIIX,7, 1.
٧  راجع: Justin, XXVIII, 8, 8.
٨  راجع: Val. Max., IX, 2, Ex, 5.
٩  راجع: Diod., XXX-XXXV.
١٠  راجع: Diod., XXXIV-V, 20. والواقع أن «بطليموس سوتر» الذي نُسِبَ إليه هذا الحادث لم يُعْرَفْ عنه أبدًا أنه دخل الإسكندرية فاتحًا، والمحتمل أن هذه هفوة قلم.
١١  راجع: B.L. II. p. 74.
١٢  راجع: Pap. du louvre. Ap. Révillout Mélanges. P. 295.
١٣  راجع: Beitr., Z, Alt, Gesch, II (1902), P. 477-79.
١٤  راجع: Justin, XXXVIII, 9, 1.
١٥  راجع: Justin XXXIX, 1, 3.
١٦  راجع: Euseb. I. p. 254-258.
١٧  راجع: Joseph, A. Jud., XIII, 9, 3.
١٨  راجع: Justin, XXXIX, 1, 4-5.
١٩  راجع: Euseb., I. p. 257-8 schoene.
٢٠  راجع: Justin, XXXIX, 1, 8.
٢١  راجع: Justin, XXX, 2, 1-2.
٢٢  راجع: Appien, Syr. 68.
٢٣  راجع: Appien, Syr. 69.
٢٤  راجع: Justin, Ibid 7-8; Appien Syr. 69.
٢٥  راجع: Grenfell and Hunt, Tebtunis I. p. 33.
٢٦  راجع: V. Martin, Les Epistratèges P. 49.
٢٧  راجع: Tebtunis I, No. 5.
٢٨  راجع: Revillout, Le Procès d’Hermias d’après les Sources Dématiques et Grecs. Paris, I, 1884, II, 1906, 210. PP. 4. (Traduction du Pap. Taur., I PP. 183–194.).
٢٩  صناعة التحنيط.
٣٠  راجع: Pap. Taur., VIII.
٣١  راجع Dumichen. A. Z. VIII (1870) p. 4 & 11. حيث يقول المتن:

وفي نهاية حياته في السنة الرابعة والخمسين من حكم هذا الملك الحادي عشر من شهر بئونة وُضِعَتْ أسس جدار الحرم والبوابة، وفي أثناء العمل في ذلك من كل الجهات (في هذا الجزء من المعبد) مات الملك.

٣٢  راجع: Strack. p. 200, 20.
٣٣  راجع: B.L. II, p. 85 and note 3.
٣٤  راجع: Justin, XXXIX, 5, 2.
٣٥  راجع: Fragments, extraits Athenée in Carl Muller Historicom Graecorum III, p. 186–189.
٣٦  راجع: Diterich in Jahrbb., f. Kl. Phil., Supplb. XVI (1886). p. 754, 9.
٣٧  راجع: Strab., II, p. 98.
٣٨  راجع: Gauthier L.R. IV. p. 335 note 2.
٣٩  راجع: Ibid. p. 835.
٤٠  راجع: Gf. Abhandlungen der Konigl. Preuss. Akad. der Wiss., 1852, p. 458 et seq.
٤١  راجع: British Museum Papyrus 20 Greek Pap. By Grenfell.
٤٢  راجع: The Empire of the Ptolemics (1895) P. 329.
٤٣  راجع: Thesauros, P. 863-4.
٤٤  راجع: A History of Egypt. VII, P. 23.
٤٥  راجع: Ph. Le Bas, Voyage Archéologique en Gréce et en Aaie Mineure. T. III p. 642, No. 2809, Strack. Die Dynastie der Ptolemaer. p. 198 n. 101.
٤٦  راجع: Ibid 37-8.
٤٧  راجع: Justin. XXXVIII, 8, 3.
٤٨  راجع: Strack Ibid. P. 188.
٤٩  راجع: Histoire des lagides tome II. p. 56 note 2.
٥٠  راجع: Ibid., II, p. 56 et 62-63.
٥١  راجع: The Tebtunis Papyri, Vol. I. P. 554.
٥٢  راجع: Catalogue of the demotic Papyri in the J. Rylands Library Vol, III. p. 140–142.
٥٣  راجع: Gauth. L. R. IV. PP. 335 ff.
٥٤  راجع: Ibid. p. 297 No. 1.
٥٥  راجع: O. G. 1 S. 125, 126, 127.
٥٦  راجع: L. Parete, Ricerche sui Tolemi Eupatore e Neo Filopatore in Atti acad. Torino, XLIII, 1907-8, 497–519.
٥٧  راجع: W. Otto, zur Gesch. Der zeit des 6 Ptolemaers in Abh. Bayer Akad. Phil-hist. Abt., N.F. Heft XI, (1934) PP. 119 ff.
٥٨  راجع: Anth Pal, VII, 241.
٥٩  راجع: Hill. Hist. Rom. Coin. PP. 51 ff.
٦٠  راجع: O. GIS, 93.
٦١  راجع: Uber eínige Ergebnisse der Aegyptischen Denkmaeler fur die Kenntnisse der Ptolemaer-Geschichte P. 14.
٦٢  راجع: Grenfell (Greek Pap. In the Brit. Mus. Vol. I, p. 53).
٦٣  راجع: Revue Egpyt. III, P. 6–8.
٦٤  راجع: Empire of the Ptolemaic, p. 32, No. 2 and P. 371 and note 1, p. 376.
٦٥  راجع: G. L. R. IV, p. 339, §. V.
٦٦  راجع: Ibid. p. 207 note 1.
٦٧  راجع: Ibid., p. 339, § VI.
٦٨  راجع: Empire of the Ptolemies, p. 330, NO. 2.
٦٩  راجع: Budge Hist of Egypt, Vol. VIII. p. 39 and Book of Kings II. p. 130.
٧٠  راجع: Die Dynastie der Ptolemaer. P. 253.
٧١  راجع: Die Dynastie der Ptolemaer. p. 179 note 1.
٧٢  راجع: Gauthier. L. R. IV. P. 343.
٧٣  راجع: E. Chassinat, Le Temple d’Edfu, T. IV. P. 91–93 et 248-249; T. X, P1. LXXXVIII et XCIII; T. XIII, P1. CCCCXXXIX et CCCXLVI; Mélanges Maspero I, p. 513 etc.
٧٤  «شو» بن «رع» يلعب دور الملك هنا.
٧٥  راجع: Brugech. Thesaurus. P. 886.
٧٦  راجع: B.L.T. II, p. 82 note 1.
٧٧  راجع: E. Chassinat, Le Temple d’Edfu, T. VIII, P. 9.
٧٨  راجع: Diod., XXXIV.
٧٩  راجع: B.L. T. II, p. 81.
٨٠  راجع: Ibid. T. IV, P. III-IV.
٨١  راجع: Ibid. T. IV, p. 327–402; Ibid, IV, P. IV.
٨٢  راجع: B. L. II, p. 82.
٨٣  راجع: Justin, XXXVIII,8, P. 11–13.
٨٤  راجع: Daressy Bull. de l’Inst. Franç. D’archeolog. Orientale, T. VI.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤