الإهداء

بقلم  إبراهيم عبد القادر المازنى

إلى «حياة»

في بعض الأحيان أكون جالسا إلى مكتبى قبل طلوع الشمس، وأمامى الآلة الكاتبة أدق عليها وأرمى بورقة إثر ورقة، وإلى جانبى فنجان القهوة أرشف منه وأذهل عنه، فأحس راحتيك الصغيرتين على كتفى فأُدير وجهى إليك، وأرفع عينى لأصبح على بستان وجهك، وأستمد من ابتسامة عينيك النجلاوين، وافترار ثغرك النضيد ما أفتقر إليه من الجلد والشجاعة، وأدفع يدى فأطوقك بذراعى، وأضمك إلى صدرى، وألثم خدك الصابح، وأمسح على شعرك الأثيث المرسل على ظهرك وجانب محياك الوضىء، وأتملى بحسنك وأنشر فى كهف صدرى المظلم نور البشر والطلاقة، فتدفعين ذراعك الغضة وتتناولين ببنانك الدقيقة ورقة مما كتبت، وترفعينها أمام عينيك، وتزوين ما بينهما، وتتخذين هيئة الجد الصارم، وتفيضين على نفسك السمحة العطوف، وأنت مضطجعة على ذراعى، سمتا وأبهة يغريان بالابتسام، وأنا أنظر إليك وفى قلبى سكينة، وجوًى من قربك معطر بمثل أنفاس الروضة الآنف فى البكرة الندية. وألمح شفتيك الرقيقتين تختلجان وعينيك تلمعان، فتطيب نفسى بسرورك الصامت، ثم أسمع ضحكتك الفضية، وأراك تُغطّين وجهك الحلو بالورقة فيستطيرنى الفرح ويستخفنى الجذل، ولكنى أتظاهر بالخوف على الورقة التى لا قيمة لها أن يمزقها أنفك الجميل فترمين رأسك على ذراعي وينسدل شعرك الذهبى المتموج كالستار، وتصافح سمعى من ضحكاتك العذبة موجات لينة. ثم تعتدلين على ساقى، وتدفعين ذراعيك فتطوقين بهما عنقى، وتجذبين وجهى إليك، ولكنك تشفقين على رقة شفتيك من خشونة خدى فتلثمين أذنى الطويلة — وتعضينها أيضا — فأصرخ، فتثبين إلى قدميك خفيفة مرحة، وتخرجين بعد أنْ خلفتِ فى صدرى انشراحا، وفى قلبى رضى، وفى روحى خفة، وفى نفسى شفوفا، وفى عقلى قوة، وفى أملى بسطة واتساعا، وفى خيالي نشاطا، فأضطجع مرتاحا وأغمض عينى القريرة بحبك ثم أفتحها على:

«صيد حرمناه على إغراقنا
فى النزع — والحرمان فى الإغراق»

أى والله، لولا الإغراق ما كان الحرمان. وهل هو إلا الشعور به من الإسراف فى الرغبة واللجاجة فى الطلب؟

بل أفتح العين على جثة صغيرة حملتها بيدى هاتين إلى قبرها، وأنزلتها فيه، ووسدتها التراب بعد أن سويته لها بكفى، ورفعت من بينه الحصى الدقاق ثم انكفأت إلى بيتى جامد العين وعلى شفتى ابتسامة متكلفة وفى فمى يدور قول ابن الرومى:

«لم يخلق الدمع لامرئ عبثا
الله أدْرى بلوعة الحزن»

وتدخل على زوجتى لتحيينى تحية الصباح، فأتلقاها بالبشر والبشاشة، وأهم بأن أحدثها بما كبر فى وهمى قبل لحظة، ولكنى أزجر نفسى وأردها عن التعزى باللغط. ولو أنى شرعت أحدثها بشىء من ذلك لما فرغت، فما أخلو بنفسى قط إلا رأيتنى أستطيب أن أتخيل فتاتى على كل صورة وكل هيئة وفى كل حالة من حالات الطيش والحكمة، والغضب والسرور، والسخط والرضى، والضحك والبكاء، والعشق والسلوان والنفور والإقبال، والحركة والسكون، واللعب، والنط، والقفز، والسباحة … ويحلو لى أن أنشئ بينى وبينها أحاديث فى كل موضوع من جد وهزل، ويسرنى أن أسمع نكتها، وأرانى أستملح فكاهتها — وأنتحلها فيما أكتب — وأضحك أحيانا بصوت عال، بل أقهقه غير محتشم، فإذا تعجب لى داخل متطفل علىَّ فى هذه الخلوة المحببة إلى نفسى رفعت له وجها كالدرهم المسيح، وهربت بالتباله من الجواب الذى يطلبه بعينه أو لسانه، وتركته يظن بعقلى ما يشاء. وماذا أقول له؟ فى وسعى أن أكذب، فما لباب الكذب مفتاح، ولكن الكذب ينغص علىَّ المتعة التى استفدتها من الحوار الذى كان يدور بينى وبين «حياة».

•••

وأنت يا «حياة» الجديدة بديل من «حياة» التى فقدتها، لا.. لست بديلاً، ولا أنت عوض عنها، ولا أحسبك يرضيك أن تكونى عوضا عما لا يؤاتى. وتلك قد ربيتها صغيرة ودللتها وهى رضيعة بيدى هاتين اللتين أتناول بهما خديك، ولاعبتها وأركبتها ظهرى، وقطعت بها فراسخ طويلة فى الغرفة الضيقة، وسقيتها الماء ورأيتها تمص ثدى أمها وهى ذاهلة عن الدنيا وما فيها — وما هو كائن وما عسى أن يكون — ونحن ننظر إليها مسرورين مستغربين مفتونين بهيئتها، وهى مقبلة على الثدى، ويدها الدقيقة على الثندوة، وأصابعها تتحرك فى لطف وعلى مهل، مستظرفين شفتها المثنية على سواد الثدى حول الحلمة وهى مكبة على الرضاعة.

ولكن فيك مشابه منها. وأنا أغالط نفسى وأزعم أنها لو كتب لها البقاء لما عدتك. ولست تجلسين على ساقي فى الصباح الباكر — كما تفعل تلك فيما أتخيل — ولكنك تقرأين ما أكتب — بعد أن ينشر — وأراك يسرك أن تسكنى إلى، سكون الطائر إلى وكره.

وهل هذا كل شىء؟ لا آدرى.. وأظن — بل أنا واثق — أنك تفهمين ما أعنى حين أقول إنك فصل من كتاب حياة.

وهل أحتاج أن أقول أن اسمكما ليس «حياة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤