الفصل السابع عشر

ميمى

– أنت أجمل فتاة على ظهر هذه الكرة الأرضية.. وأنا أسعد الرجال وضم إليه زوجته التى لم يمض على بنائه بها أكثر من اثنتى عشرة ساعة، فالمبالغة تغتفر له ولا ينبغى أن تسوء أحدا من بنات حواء — كل ما فيك صاغة فنان.. فخداك من المرمر الناصح — وأمرّ يده عليهما برفق — وردفاك حساسان ولجلدهما الرقيق اختلاج حسن تمشين كاختلاج الماء صافحه النسيم الوانى.. وثدياك راسخان لينان وأحلى فيما تحس اليد من الكمثرى.

وحنا عليها بسرعة وطبع على غلالة شفتيها قبلة حارة.. فلمعت عينا «ميمى» واتقد وجهها وصار صدرها يعلو ويهبط، ثم قالت: «لكأننا تزوجنا منذ سنين يا سليم.. أليس كذلك»؟ ولصقت به، ثم قالت: «تحبنى يا سليم»؟

فرفع رأسه وابتسم ابتسامة عريضة، وقال: «أحبك إنى مجنون بك.. لا أدرى ماذا أصنع إذا لم تكونى معى»؟

فلمعت عيناها وقالت: «من يدرى.. ربما شغلت عنى وألهيت عن ذكرى..».

فلم يدعها تتم الكلام وأهوى على فمها بقبلة.

•••

وكانت «ميمى» مشهورة بقوة جذبها السريع حتى أيام كانت بنتا صغيرة. وكان غيرها من البنات أجمل منها شعرا أو أحلى عينا أو أفتن إبتسامة.. أما ميمى فلم يكن لها ما يمكن أن تقول إنه سر جمالها، وإنما كان المرء يشعر أنها فى جملتها أجمل وأسحر. وكانت قوة الجذب هذه تلفت النظر إليها وهى تلميذة فى المدرسة، وكان كل من يراها يشتهى أن ينظر إليها مرة أخرى. ولكنها هى كانت تعتقد أنها ليست على شىء من الجمال، وإن كان اعتقادها هذا لم يُغْرها بالتكلف. وكان الذى وجه خواطرها فى حداثتها إلى هذه الناحية أنها سمعت أمها تقول لصاحبة لها مرة: «إن ثديى ميمى كبيران جدا» وكان هذا صحيحا، فلما أقبل الليل وصارت فى غرفتها وحدها نظرت إلى صدرها فى المرآة وسألت نفسها: «أترى هذا من الدمامة؟ أهما أكبر مما يجب أن يكونا»؟ وآلت على نفسها فى تلك الليلة أن تهتدى إلى الحقيقة.

ولو أن ميمى لم تسمع أمها تقول ذلك لكان الأرجح أن لا تجرى خواطرها هذا المجرى، ولظلت على الأقل سنة أخرى لا تطلب أن تهتدى ولا تشتاق إلى هذا الضرب من المعرفة. وكان أول ما عنيت به هو أن تتأمل صدور البنات من أترابها فى المدرسة، فألفتهن جميعا إلا القليلات ذوات أثداء صغيرة نابتة ولم تكن للقليلات أثداء كبيرة، ولكنها كانت تقبل المقارنة بثدييها.

أما المقياس الحقيقى فأتيح لها فى يوم خرجت فيه مع لفيف من أهلها بينهم سليم — ابن عمها — إلى القناطر الخيرية فاتفق أن جلست على دكة هناك تحت شجرة على ربوة، فجاء سليم وجلس إلى جانبها.. فقالت لنفسها حين أبصرته يقعد معها إن هذه فرصتها، وشرعت تحاول أن تعرف منه ما تريد. أليس سليم شابا؟ فهو خليق أن يقول لها ما رأى الرجال فى حجم ثدييها. ولكن سليم حيى فهى محتاجة إلى اللف والدوران أو إلى أن تكون معه كالطلمبة الماصة لتحمله على القول الذى تنشده، فسألته: «هل تخرج كثيرا مع البنات يا سليم»؟

فقال: «إيه؟ أحيانا».

فسألته: «كم بنتا خرجت معها إلى النزهة»؟

فأطرق وقال وعينه على الأرض: «أوه.. وهل أنا أعرف؟ ربما كان عددهن سبعة أو أكثر..».

فسألته: «كلهن من حيّكم»؟

فقال بإيجاز: «تقريبا».

فسألته: «ألا تعرف أحدا من غير الحى الذى أنت فيه»؟

فقال: «أعرف.. ولكن ما هى الحكاية»؟ قالت: «هل هن جميلات؟ أعنى هل قوامهن جميل»؟ فقال: «بعضهن» فقالت: «هل قوامهن أعدل من قوامى»؟

وكان صوتها وهى تلقى عليه هذا السؤال يخيل إلى السامع أنها ترجو منه أن يكون جوابه «لا» ولكنه خرج من «لا» ومن «نعم» بقوله: «لا أعلم».

ففعلت شيئا لم تكن تظن أنها تستطيع أن تقدم عليه، ولكنها أقنعت نفسها بأن الامر كله أمر بحث عن حقيقة واختبار لمبلغ الصدق فى قول أمها أن ثدييها كبيران، فقالت له وهى تمنحه فمها: «قبلنى».

وصارت شفتاه على شفتيها — لا يدرى كيف، ولكن هذا هو الذى كان — وأحس حرارة القبلة تسرى فى بدنه وتوقد النار فيه وتخزه أيضا. وانتهى الفصل الأول ورجعت ميمى إلى بيتها فى تلك الليلة وهى تشعر أن شيئا حصل تحت الشجرة اللفاء، وأن بابا يفضى إلى أسرار عويصة قد فتح لها.. فتحته قبلة واحدة ليس إلا.. وصارت تشعر بعد ذلك أنها مخلوق جديد وأن حياتها من طراز آخر غير الذى غبر.. وأصبحت تناجى نفسها وتسألها عما وراء الباب.. وتقول لنفسها إن القبلات حلوة وإنها تحسها معسولة، ولكن أهذا كل شىء؟.. لا.. فإنها تحس حنينا إلى ما لا تعرف وما لا يسعها أن تدرك، وأخيرا عرفت بعد أن بلغت العشرين وانتقلت إلى بيت سليم وارتمت بين ذراعيه.

•••

وقالت ميمى وهى بين ذراعى سليم صباح ليلة الجلوة: «لقد ارتفعت الشمس.. صرنا قرب الظهر.. ألا نقوم»؟

ففتح سليم عينيه ببطء وقال: من حسن الحظ أن الزواج ليس كله شهر عسل، وإلا متنا.

فزوّت ميمى ما بين عينيها وقالت: «لست أفهم ما تقول.. أليس واجبا أن تظل حياة الزوجين شهر عسل كلها.. أى أن يكون الشهر سرمدا»؟

فتنهد وقال: «إنه ليس كذلك من حسن الحظ.. أوه مستحيل.. أين من يحتمل ذلك.. أوهو.. مستحيل».

ثم عاد فقال: «لا يخب أملك.. كل شىء يفتر على الأيام.. هذا عزاؤنا جميعا».

فلم تستطع ميمى أن تفهم لماذا لا يبقى شهر العسل دائما.. ولم تدر ماذا يمنع أن يدوم، ولكنها لم تقل شيئا ولم يحاول هو أن يفهمها، وشغل كلاهما بحياتهما الجديدة فى البيت وخارجه فنسيت أن شهر العسل سيزول كما هددها سليم أو أنذرها. وكانت بعد أن تفرغ من تغيير ثيابها كل ليلة على أثر عودتهما من السينما أو الرياضة أو نحو ذلك تجلس فى حجره وتنحى ما أمامه من الأوراق وتوسعه تقبيلا، ثم تسأله: «ألا تزال تحبنى»؟ فيقول: «بالطبع.. يا له من سؤال»!

وكان النهار أثقل الأوقات على نفسها لأن زوجها يغيب فيه عنها، ولم يكن لها فى البيت عمل فإن الخدم كثيرون.. الطباخة وبنتان للكنس والمسح وما إلى ذلك. وكان بيتها شقة فى عمارة كبيرة عالية فحدث يوما أنها كانت تنتظره ليخرج بها إلى السينما، وإذا بالباب تفتحه فألفت سيدة تقول لها: «معذرة إذا كنت أزعجتك.. ولكن خادمتى أضاعت المنفضة، فهل أجد عندكم واحدة»؟

فقالت ميمى: «لا أدرى.. تفضلى حتى أسأل الخادمة».

فدخلت السيدة وهى تقول إن شقتها هى التى فوق هذه، فاستغربت ميمى فى سرها لماذا لم تذهب إلى أحد من السكان الآخرين المقابلين لها فى دورها، وحدثت نفسها أن لعلها فعلت فلم تجد عندهم ما تطلب. وقالت السيدة — كأنما ترد على هذا الذى تحدثت به ميمى إلى نفسها: «لقد رأيتك منذ لحظة تخرجين إلى الشرفة فى قميصك.. ولا يسعنى الا أن أقول أن قدك مدهش».

فسألتها ميمى: «رأيتنى؟ كيف رأيتنى وأنت فوق»؟

قالت: «رأيتك من الشرفة الأخرى.. من حسن الحظ أن زوجى ليس فى البيت ولم يرك، وإلا لكان من المحقق أن يقذف نفسه عليك».

فدهشت ميمى ولم تقل شيئا وراحت السيدة تسألها عن اسمها كله، فقد عرفت بعضه من البواب، وتخبرها باسمها هى تقول إن من الواجب أن تلتقيا كثيرا وأن تتزاورا، ثم سألتها: «هل زوجك يسافر ويغيب عنك أياما»؟ فقالت ميمى: «يسافر؟.. يسافر أين؟.. كلا بالطبع».

فقالت الأخرى: «إن زوجى لا يزال على سفر.. وقد كنت فى أول الأمر أقعد فى البيت ولا أبرحه يوما بعد يوم انتظارا لعودته. وقد ضاق صدرى ولم أعد أطيق ذلك، فلن تجدينى فى البيت حين يتركنى ويرحل».

فأحست ميمى أنها تحتاج إلى حماية من هذه الجارة، وألفت نفسها تلف الروب دى شامبر على صدرها وإن كانت مع ذلك لم تستطع أن تمنع نفسها أن تسأل جارتها: «أين تذهبين حين يغيب عنك زوجك»؟

فقالت الجارة بابتسامة وضيئة: «أوه فى أى مكان.. الأصدقاء يتكفلون بذلك».

فصاحت ميمى: «الأصدقاء.. أى أصدقاء»؟

فقالت الجارة: «بالطبع يا طفلتى العزيزة.. وأى بأس فى ذلك»؟

فقالت ميمى: «ولكن زوجك؟ ألا يسوءه هذا؟ ألا يغضبه أن تخرجى مع رجال»؟

قالت الجارة: «يغضبه؟ وماذا تظنيه يصنع وهو مسافر؟ يقضى الوقت فى المسجد؟ كلا إنى أعرف ما يصنع».

وصارت هذه الجارة معلمة لميمى. وكرت الأيام فأصبحت لا تبالى تقصير سليم معها، ولا تحفل ما تراه من فتوره حين يعود إلى البيت متعبا. وتكررت زيارات الأتراب لها فجأة بفضل الجارة الحاذقة التى أدركت أن ميمى غريرة لا عهد لها بهذا الضرب من حياة المرح، وما لنا لا نقول حياة الاستخفاف.. فبدأت معها بتبادل الزيارة ثم صارت تزورها ومعها أتراب لها، فتحتاج أن ترد الزيارات وتخرج إليهن، وارتقت من ذلك إلى دعوتها إلى التنزه والخلوات، ولم تكن الجارة تعدم سيارة تستعيرها بسائقها من بعض من تعرف من الرجال، وكانت تحرص فى هذه الرحلات الأولى على أن تكون قاصرة عليهن، ثم صار يتفق أن يلتقين فى هذه الرحلات إلى الأهرام أو الماظة أو غيرهما ببعض «أقارب» الجارة، فيحصل التعريف الذى تقضى به الآداب، وهكذا إلى أن ألفت ميمى أن تكون مع الرجال كما ألفت أن تخرج مع النساء. وكان الزوج غافلا عن ذلك فى أول الامر. وكانت ميمى إذا آن أن يناما تدنو منه وتلصق به فيتثاءب ويعرض عنها. وكان ربما زجرها عن ذلك وقال لها بعنف إنه محتاج إلى النوم، وكانت هى فى أول الأمر يشق عليها إعراضه وتحس بحزة فى نفسها فتبكى، فلما توثقت الصلات بينها وبين الجارة لم تعد تبالى هذا الفتور. وظن سليم فى بادئ الأمر أن زوجته «هداها الله» حتى كانت ليلة فأقبل عليها يريد أن يقبلها وفتح لها ذراعيه ليضمها، فلم تحرك ساكنا ولم يبد عليها أنها راغبة فى ذلك فعجب وسألها: «مالك»؟ قالت: «لا شىء.. ما لك أنت»؟ قال: «ألا تقبليننى»؟

فمطت شفتيها وهزت كتفيها وقالت: «إنك تحتاج إلى النوم وأنا لا أريد أن أقبل أحدا».

فلم يفهم وألح عليها بالكلام، فبدرت منها كلمة فهم منها أنها لا تباليه، فنظر إليها محدقا فى وجهها وقال: «مع من تخرجين؟ من هؤلاء الأصدقاء أو الصديقات اللواتى ظهرن فجأة»؟

فقالت: «لم تعد الحقيقة.. أصدقاء وصديقات.. ومن الجنسين.. ولكنك تكون نذلا إذا أسأت الظن.. ولا أكون أنا بنت أبى وأمى إذا احتملت منك ذلك».

فذهل — وإن كان عنفها قد طمأنه — وقال: «ولكن.. ماذا جرى لك»؟

قالت: «لم يجر لى شىء.. إلى الآن.. لا أزال ميمى التى تعرفها وإن كنت قد تعلمت أشياء كثيرة، ولكنه سيجرى لى على التحقيق أشياء كثيرة إذا بقيت تهملنى.. ثق أنى تعلمت ولكنى لم أعمل بما تعلمت إلى الآن.. سأعمل حتما.. فهل ترضيك هذه الصراحة»؟

فقال: «لقد كنت طول عمرك جريئة».

وانحط على كرسى، فقالت: «جريئة أو غير جريئة.. سيان.. المهم أنك دفعتنى إلى التعلم.. وأخشى أن تدفعنى إلى ما هو شر.. وقد أنذرتك.. وأنت ورأيك.. ولكن لا تلمنى حينئذ».

فأطرق يفكر وطال تفكيره وأحس أنه واقف على حرف هاوية، وكان قلبه يخفق بشدة وعنف غير أنه كان يبدو للمتأمل هادئا ساكنا، وجرى بخاطره أن ميمى على حق، وراجع نفسه وهو قاعد ورأسه مثنى على صدره وعينه على الأرض، وتذكر أن ميمى كانت أبدا جريئة مجازفة.. ألم تدعه إلى تقبيلها مرة؟ ولكن كيف عرفت هؤلاء الناس.. من الرجال والنساء على السواء.. ولم يرتب قط فى صدقها، ولم يخالجه أدنى شك فى أن الأمر اقتصر على اللقاء والتنزه، وأنه لم يقع بينها وبين أحد من هؤلاء الرجال ما لا يحمد فإن ميمى صريحة لا تهاب شيئا ولا تخش أحدا. ولكن كيف عرفتهم.. وقال لنفسه إنها عرفتهم لأنه أهمل أن يكون معها ولأنه كان يتركها وحدها ويقضى سهراته مع الإخوان وفى ظنه أنها ستقنع برفقة الخدم. هذا هو يستنكر كيف عرفت هؤلاء.. والمهم الآن هو إنقاذها من الهاوية وإنقاذ نفسه معها. ونهض ومشى إليها وهو يمد يده ويتناول كفها: «سامحينى يا ميمى.. لن أهملك بعد اليوم».

فرفعت رأسها وحدقت فى عينيه، وقالت: «صحيح..؟ لا تتركنى وحدى»؟

فقال وهو يميل عليها ويدنى فمه من فمها: «كيف يمكن..؟ وأنت هل رجعت إلىّ..؟ هل أرجو أن أراك كما كنا»؟

وفى هذه اللحظة دق التليفون فمدت يدها وتناولت السماعة، وقالت: «اللو.. نعم..؟ زكيه؟ معك من..؟ حمدى..؟ آسفة.. يا زكية مشغولة.. نعم.. معى صديق قديم عاد إلىّ.. تريدين أن تعرفى من يكون.. اسمعى إنه أحب الناس إلى.. لا أستطيع أن أعرف أحدا ما بقى هذا الصديق لى.. من هو..؟ سليم.. ألا تعرفين سليم.. لم تسمعى به قط.. معذرة.. زوجى يا بلهاء.. معذرة.. لا.. لا أمل فى لقاء أحد بعد اليوم. كلا.. لا تتعبى نفسك لا أنت ولا غيرك.. أعنى هذا.. تماما.. مع السلامة».

والتفتت إلى زوجها وقالت: «فهمت أنى لا أريد منها ولا من غيرها زيارة فغضبت».

فلم يقل سليم شيئا بل انحنى عليها وحملها بين يديه ومضى بها إلى الأريكة الواسعة وهى متعلقة به تضحك له وتقبله راضية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤