الفصل الثاني

الدكان

وقفت «جليلة» لا تدرى ماذا تصنع، فقد انغزرت إحدى العجلتين الخلفيتين فى الرمل وأبت أن تخرج منه.. وعجز المحرك عن جذبها، بل كانت العجلة تزداد غوصا كلما حاولت نزعها. وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب ولم يبد أحد فى الأفق، وكان الكشك الذى وقفت عنده منذ لحظة تشرب «الكازوزة» يبعد مسافة كيلو ونصف أو اثنين، فليتها ما جاوزته إلى هذا المكان القفر.. ولكنها أرادت أن ترى الطيارة الشراعية من مكان قريب والأرض بعد «الكشك» غير ممهدة. ولكن عناء السير فيها محتمل ولا خوف من الغوص. وقد طوفت من قبل فى أرجاء هذا الفضاء الرحيب. فهى تعرف صلابة الأرض ولا تخشى رخاوتها، غير أن الحظ خانها فى هذه المرة.. فما كادت تقف بالسيارة وتنأى عنها قليلا ثم ترجع، حتى ألفت العجلة قد غاب نصفها فى الرمال الخائنة. وكان تلاميذ الطيران الشراعى بعيدين عنها بعد «الكشك»، فهل تترك السيارة وتعود أدراجها إلى الكشك تلتمس من صاحبه المعونة، وتسأله أن يدعو إلى نجدتها بعض خفرائه؟.. لم يبق من هذا مفر على ما يظهر، وإلا صار خطبها أدهى بعد الغروب. وصح عزمها على ذلك، فأقبلت على السيارة تريد أن تأخذ منها حقيبتها وقبعتها وإذا بصوت يقول لها: «اسمحى لى..».

فالتفتت مذعورة.. فما سمعت وقع قدميه وهو مقبل عليها ولا رأته، وإن كانت قد دارت بعينها فى المكان ونفضته قبل أن تنوى الرجوع إلى «الكشك». ولم يسألها الرجل شيئا ولم ينظر إليها بل انطرح على الرمل بثيابه الأنيقة بعد أن ألقى طربوشه فى السيارة، وراح يجرف الرمل بيده من خلف العجلة وقدامها.. ولما فرغ من ذلك ووسع للعجلة نهض ومشى مطرقا ينظر إلى الأرض كأنما يبحث عن شىء، ثم انحنى وتناول حجرا كبيرا ولوحا من «الصاج» وعاد بهما فوضع الحجر خلف العجلة واللوح أمامها وتحتها، ليكون دورانها عليه لا على الرمل. ثم نهض مرة أخرى، وقال: «أظن هذا يكفى.. فلنجرب على كل حال».

فقالت: «أشكرك.. لا أدرى ماذا كنت أصنع لو لم تنجدنى»؟

فأشار بيده، وقال: «أجلى الشكر حتى أستحقه.. إن العجلة المسكينة لا تزال غائصة، فلننقذها أولا».

ومضى إلى آخر السيارة، وقال: «أديرى المحرك وسيرى بها، وسأدفعها من الخلف».

ففعلت وخرجت السيارة ثم وقفت على مسافة أمتار، ونزلت منها جليلة متهللة الوجه فصاح بها: «لماذا وقفت.. هل حدث شىء»؟

قالت: «لا.. إنما جئت لأشكرك».

ففرك يديه ومد يمناه إليها، وقال: «آه صحيح.. صار الشكر الآن واجبا. أليس كذلك»؟

فضحكت وسرها منه أنه لا يبدو عليه أنه يريد شكرا، وأنه كان ينتظر منها أن تمضى عنه بلا كلام.

وقالت، وهى تبتسم له فى عينيه: «ألا تريد أن أشكرك»؟

فقال وهو ينفض الرمل عن ثيابه: «كلا.. إنه دين قديم أؤديه.. بعضه على الأقل».

فغاضت الابتسامة، وقالت مستغربة: «دين؟ لى أنا؟ ولكنى لا أذكر أنى أعرفك.. لا مؤاخذة».

قال: «صدقينى حين أقول لك: إنه يسرنى أن أراك ناسية.. إنها ذكرى خليقة ألا تثير فى نفسك إلا الامتعاض والنفور بل المقت.. فالحمد لله».

فدنت منه مقدار خطوة، وقالت: «ولكن أرجو أن تريحنى.. هل تعرفنى»؟

قال: «أعرفك؟ أظن ذلك.. وإن كنت لا أكتمك أنى نسيت اسمك. انتظرى.. ورفع كفه الكبيرة الغليظة إلى جبينه.. اسمك يا ستى.. غريب أن تبقى الصورة كل هذه الأعوام ويذهب الاسم.. أوه.. جما.. جميلة.. وجدته.. وجدته.. جليلة.. أليس كذلك»؟

فصاحت: «نعم.. نعم.. ولكنى آسفة لأنى لا أذكرك أبدا.. لا صورتك، ولا اسمك».

فقال بابتسام: «انهما جديران منك بالنسيان».

فألحت عليه أن يذكر لها اسمه، فقال: «هذا لغز سأترك لك حله وأنت عائدة».

فابتسمت، وقالت: «ألا تخشى أن أشغل به عن الطريق وما فيه فتحدث لى حادثة»؟

فقال: «صحيح.. صحيح.. إذن لم يبق لى مفر من التضحية. سأخسر ما صرت جديرا به من الشكر، وأسترد سخطك القديم».

فسألته وهى تضحك: «هل كنت فظيعا إلى هذا الحد» فقال: «ستعرفين مبلغ فظاعتى حين تعرفين اسمى.. مراد البارونى».

فأطرقت، وقالت على مهل: «مراد.. البارونى.. (وهزت رأسها) كلا.. إن ذاكرتى لا يختلج فيها شىء.. آسفة».

فقال، وهو يضحك: «أما أنا فإن ذكراك يقشعر لها بدنى، فما أستطيع أن أنسى أنك صببت على ماء قربتين من الماء فى الشتاء. سلطت على خرطوم الحديقة وأطلقت على ماءه.. أهذه ذكرى تنسى؟. ألست معذورا إذا ظللت متذكرا»؟

فدنت منه، وقالت بصوت خافت كالهمس: «مراد؟ صحيح..».

فقال: «وكنت ظالمة لى..».

فقالت: «كلا.. لقد تذكرت الآن، فقد وضعت لى دودة ميتة فى قفاى.. الحق أنك كنت فظيعا».

فأشار بيده إشارة المستنكر: «لا.. لا.. هذا كان سوء تفاهم.. أعنى أنى كنت فرغت من اللعب بالدودة، وظننت أنك قد يسرك أن تأخذيها لتلعبى بها.. ولكنى أخطأت فوضعتها لك فى قفاك بدلا من يدك، بل كان الخطأ منك لا منى.. فقد جعلت تجرين خائفة وأنا أجرى وراءك، فلم يسعنى ألا أن أتركها حيث تيسّر لى.. فالذنب ذنبك يا جليلة».

فقالت جليلة، وهى تضحك: «أتذكر كيف كنت تصيح بأعلى صوتك كلما رأيتنى.. وكيف كنت تجرى ورائى وتدبدب برجليك كلما أدركتنى فتزيدنى رعبا»؟

فقال: «نعم أذكر ذلك.. أذكر كل شىء.. إنه كل ما بقى لى منك.. لقد كنت أصيح وأدبدب لأخفى عنك حبي لك».

فقالت: «غريب.. أكنت تحبنى؟ لقد كان نجاحك تاما إذن فى إخفاء هذا الحب».

ونظرت إلى وجهه الذى لوحته الشمس وشعره الذى ظهر فيه الشيب هنا وههنا، وأخذت الصورة القديمة تسترد ألوانها وتبرز معالمها شيئا فشيئا، ثم قالت: «لقد كبرت جدا.. طولا وعرضا.. وتغيرت أيضا. من الذى يراك الآن فيذكر ذلك الطفل الشقى الذى كان يسوّد عيشى ويُرعبنى كلما ظهر فجأة من وراء شجرة.. أو من تحت الأرض — فيما كان يخيل إلى ماذا صنعت بنفسك كل هذه السنين»؟

فقال: «أوه.. ماذا يصنع الناس بنفوسهم؟ يكبرون ويقعون على عمل يشتغلون به. أنا أيضا وجدت لى عملا.. فى تجارة رابحة والحمد لله.. وأنت»؟

قالت: «أوه.. كبرت مثلك».

فقاطعها وقال: «كلا.. إنك لم تتغيرى.. لو كان هنا دود لما خطر لى وأنا أنظر إليك إلا أننا ما زلنا طفلين، ولهممت بأن أضع لك واحدة فى قفاك».

فضحكت وقالت: «لقد صرت مهذبا جدا.. لم يبق شىء من ذلك الطفل اللعين.. غريب أن نلتقى هنا هكذا بعد كل هذه السنين.. ماذا كنت تصنع؟ أعنى هنا».

قال: «أتمشى.. للرياضة».

فتنبهت، وقالت: «إذن لا أقل من أن أحملك معى فى السيارة».

وقال وهو يركب معها مسرورا: «ما قولك.. نحتفل بهذا اللقاء الذى لم يكن لى ولا لك فيه حساب، بالعشاء نتناوله فى محل الحاتى.. هه»؟

فابتسمت لنفسها فى مرآة السيارة وأصلحت شعرها الذى عبث به النسيم، ثم التفتت إليه وهزت رأسها أن نعم.. ثم انطلقت تخطف بسيارتها الأرض.

ولم يكن في جليلة خفة أو طيش، ولكنها كانت فتاة وحيدة مدللة.. ورثت عن أبيها قسوة القلب واستقلال الطبع، وعن أمها سرعة الاستجابة لدواعي الخير. وقد مات أبوها قبل سنوات، فلم يبق لأمها سواها ولم تهمل تربيتها.. ولكنها كان ينقصها حزم زوجها وحكمته، فألقت لها الحبل على الغارب وهى تحسب أنها لا تعدو ما كان يصنع أبوها. على أن الفتاة لم يكن فيها سوء ولم تثمر الحرية شرا، وإنما أكدت استقلالها وأورثتها تمردا صريحا على كل قيد من القيود التي يفرضها العُرف حتى على الفتاة الحديثة. وكانت أمها وبعض أهلها يشق عليهم ذلك أحيانا، فتقول لهم إنى لا أفعل سوءا، ولا أسىء أدبى، ولا أتوقح على أحد، ولا قيمة لخروجى وحدى، أو مرافقة أصحابى وصواحبى إلى السينما أو غيرها.. فكانت أمها تسكت ولا تقول شيئا لعلمها أن الكلام لا خير فيه.

ولم تكن جليلة بارعة الحسن، ولكن صوتها كانت له حلاوة التغريد.. وكانت نظرتها الحالمة تفعل فعلين يبدوان متناقضين: تنعش القلب وتفتر الجسم، فإذا أدامت إليك كرة الطرف — على عادتها إذا سرها منك عمل أو قول — شاع الرضى فى نفسك وفاضت بالسرور، ودار رأسك، وأحسست بالخدر فى أعصابك. وكانت أقرب إلى القِصر منها إلى الطول، وإلى الامتلاء منها إلى النحافة والهزال، وقد حمتها كثرة الحركة والولع بالمشى فى الهواء الطلق، وفطام النفس عن الأطعمة الدسمة الثقيلة، أن تصبح كأمها أكداسا من اللحم تلح على روحها. وكانت سمراء، ولكن سمرتها مشربة حمرة لا كدرة فيها ولا نمش. وكان شعرها جعدا وأثيثا.. وكانت تفرقه وترسله إلى الوراء وتعقصه وتأبى أن تقصه. كانت أنيقة بلا تكلف، ولم تكن رقيقة الحال أو مضطرة إلى حسن التدبير والاقتصاد. فقد ترك لها أبوها الحازم ثروة كافية، ولكنها كانت تؤثر أن تصنع ثيابها بيديها، فتجىء محبوكة التفصيل على قدها الجميل يبرز من تحتها ثدياها الناهدان الراسخان كالرمانتين الصغيرتين. وكانت مجدولة الساقين لا عظيمة العضلة ولا مضطربتها ولا عرقوب لها. وجمال الساق فى المرأة يشير بحسن القوام.. وكانت تكره الأحذية العالية الكعوب نفورا من بروز الفخدين. على أن هذا كله ما أكثر من يشاركنها فيه، ولو اقتصر الأمر على التكوين المادى لما كانت لها مزيه تنفرد بها، ولكن أنوثتها كانت قوية الجذب شديدة الإغراء.. فلولا استقلالها وشخصيتها لما استطاعت أن تنجو من المعاطب.

•••

وقال مراد وهو عاكف على البيان الذى قدمه إليه الخادم: «معذرة، فإنى أتضور جوعا.. لم آكل فى نهارى شيئا. ماذا تريدين.. كباب.. لحم رأس.. حمام؟ إنى أرى الحاتى عنده كل ما يؤكل.. لا الكباب وحده.. ما قولك»؟

فآثرت الكباب، وقالت: «إن هذا فنّه الذى يمتاز به، فيحسن أن أقتصر عليه».

وكانا جالسين فى آخر القاعة ووجهها هى إلى الباب ووجهه إلى الناس. وشغلا برهة بالأكل وذكريات الطفولة، فقال لها وهو يضطجع: «أتذكرين يوم تحديتك أن تتسلقى النخلة؟ (فهزت رأسها) لقد كنت لا تطيقين التحدى.. فهل أنت ما زلت كذلك»؟

فوضعت الشوكة على الطبق، ونظرت إليه وسألته: «ماذا تعنى»؟

قال بابتسام: «أعنى أن وراءك.. بعد مائدتين اثنتين.. رجلين أحدهما يحدق فى ظهرك، لا يخالجنى شك فى أنك تحسين وقع نظراته على جسمك.. إنها نظرة حامية.. كاوية.. انتظرى قليلا وسأدعو الخادم ليجيئنا بالقهوة، فأديرى وجهك حين يقبل وانظرى».

ففعلت ثم اعتدلت فى جلستها وقد علا وجهها الاصفرار، فأكب مراد على بقية الفاكهة وتشاغل بها عما رأى فى وجهها من دلائل التغير. ولم تفت جليلة هذه الكياسة منه، ووقع من نفسها اتقاؤه الفضول.. فتماسكت وضبطت صوتها وهى تقول: «لقد تغيرت جدا.. من كان يظن أن ذلك الطفل الخبيث الذى كان يتعقبنى وينغص حياتى يصبح هذا الرجل الوديع الظريف الكيّس؟ أتعرف من هذا يا مراد الذى يكوينى بنظراته؟ إنه خطيبى زكى.. أفهمت الآن»؟

فقال بهدوء وبصوت متزن النبرات: «خطيبك زكى؟ هذه أخبار.. أظن أن من واجبى أن أقدم لك التهنئات».

ولكنها أحست من نبرات صوته على الرغم من اتزانها أنّ هذا الخبر لم يسره، فقالت: «لا داعى للعجلة.. ثم إن الزواج مسألة عادية جدا على كل حال.. أو كما يمكن أن تقول أنت.. هو شر يصيب كل إنسان.. عاجلا أو آجلا.. متى يصيبك يا مراد»؟

فقال: «أنا؟.. لا أدرى.. صاحبك.. أعنى خطيبك لا يزال محملقا فى ظهرك. فهل تستطيعين أن تنهضى وتذهبى إليه وتقولى له بكل هدوء إن لك حقا فى أن تتناولى العشاء مع صديق قديم مثلى وضع فى طفولته دودة فى ظهرك وصببت عليه عشرين قربة من الماء فى الشتاء»؟

فقالت ببساطة: «إنى أحب زكى.. وأنت لا تعرفه.. بالطبع ليس فى كونى معك هنا ما ينبغى أن يسوءه، ولكنه لا يعرف أنك هذا الصديق القديم.. كل ما يعرفه أنه خطيبى.. وإنى — كما قال مرارا — طائشة.. مندفعة».

قال مراد: «اشربى القهوة.. لا تفسدى على نفسك الليلة.. ستشرحين له كل شىء، فيعود حملا وديعا ويعتذر إليك من هذه النظرات الحامية».

فشربت القهوة، ولكنها كانت ساهمة.. فقد كانت تحب «زكى» هذا، وكانت تكره الاضطرار إلى الشرح وتستثقل أن تحتاج حتى إلى ما يشبه الإعتذار.

وقال مراد: «لقد قام الرجلان.. خطيبك وصاحبه».

فقالت: «يحسن أن نقوم إذن.. فسيودع صاحبه ولا شك ويقف فى انتظارى.. أشكرك يا مراد.. نبهتنى إلى أنه خرج فلألحق به».

وخرجا.. وودعها مراد بعد أن عرفت منه عنوانه، وعرف منها عنوانها، وألح عليها أن تتصل به إذا جد أمر من جراء لقائهما الليلة.

•••

وقالت جليلة لزكى: «معى سيارتى، فلا حاجة إلى تاكسى».

فدخل فى السيارة واضطجع.. ثم قال: «من هذا الرجل الذى كان معك؟».

فقصت عليه وما وقع لها عند المطار، فقاطعها وقال: «كيف تكلمين رجلا غريبا؟ إن هذا كثير..».

قالت: «ولكنه ليس غريبًا.. لقد نشأنا معا.. فى حى واحد».

فنفخ وقال: «ولكنك لم تكونى تعرفين أنه هو صديق طفولتك».

فقالت بلهجة المستغرب: «هل كنت تريد أن أتقبل معونته ولا أشكره على الأقل»؟

فترك هذا وقال: «ولماذا تخرجين إلى هذا المكان وحدك»؟

قالت: «لأنك مشغول عنى بأعمالك الكثيرة التى لا تدع لك وقتا لمرافقتى.. ومع ذلك أى بأس هناك»؟

قال: «بأس؟ بأس؟ هذا الذى حدث لك من غوص العجلة أليس بأسا»؟

قالت: «لا تكن متعنتا.. إن السيارات يمكن أن يحصل له أى شىء فى أى مكان فى الدنيا». فترك هذا أيضا وقال: «ولكن تأتين معه إلى الحاتى.. ماذا يقول الناس»؟

فقالت: «إذا كان الحاتى مكانا لا يليق أن يدخله الشريف..».

فقاطعها بسرعة، وقال: «لست أقول هذا.. الأمر على العكس».

قالت: «اذن انتهينا».

فسكت، فما رأى حجة له تنهض. وساءه ذلك فقد كان شديد الاعتداد بنفسه، وكان عظيم الطموح واسع الأمل فى المنازل الملحوظة.. فلم يسره أن الفتاة التى سيتزوجها تقرع حجته بأقوى منها، وأحس أن فى هذا تنقصا له وغضا من مقامه وسقوطا لهيبته، ولكن الكلام خانه فآثر السكوت على مضض.

وكان زكى — أو إذا أردت اسمه كله زكى الدين حمد — من أصل تركى أو شركسى — سيان — وكان يطمع أن يبلغ بماله الموروث حيث لم يستطع أن يبلغ بالكفاية الشخصية. وكان أمله الذى لا ينفك يحلم به فى اليقظة والمنام أن يصبح يوما من أعضاء البرلمان، ومن أجل هذا كان يتقرب إلى الزعماء السياسيين بوسائل شتى.. وكان يعنيه جدا أن يحسن رأيهم فيه وظنهم به … وكان يحرص على المركز المأمول، ويحيط نفسه سلفا بكل مظاهر الأبهة والسمت والوقار، وينظر إلى الأمر كله كأنه واقع. وينتظر من الناس أن يعدوه كذلك، بل أن يبالغوا ويروحوا يمدون بصرهم إلى المستقبل، وأن يخالوه كما يتخيل نفسه فيه وزيرا أو رئيس وزارة.

وقال لجليلة — وهو يودعها على باب بيتها: «أرجو يا جليلة ألا تعرضينى لكلام الناس، واذكرى أن لى مركزا يجب أن أحافظ عليه».

فسحبت يدها من يده وقد آلمها كلامه، وأحست أنّ سهما وقع فى قلبها. كانت حساسة وذكية. ولم يكن يخفى عليها أن ليس له مركز سوى ما يفيده الغنى. ولم تكن هى تحتاج منه إلى مال فإن مالها كثير. وكانت تدرك أن ما يسميه «مركزه» جانب ضعف فيه، ولكنها كانت تغض عن ذلك لحبها له، غير أنها لم تكن تتوقع أن يتهمها بأنها تسىء إلى هذا المركز — وإن كان موهوما — فضلا عما تنطوى عليه عبارته من التعريض بها، بعد أن شرحت له الأمر كله ولم تُخف عنه شيئا. وماذا تخفى وليس فى الأمر ما يستدعى الكتمان؟

وقالت له — وهى تهم بالدخول: «ليلتك سعيدة».

فسألها: «متى نلتقى غدا»؟

فأطرقت شيئا ثم رفعت رأسها، وألقت إليه ابتسامة ساخرة، وقالت: «غدا؟ لا.. إنى على موعد مع مراد..».

ولم يكن ثم موعد ولا شبهه، وإنما قالت ما قالت مدفوعة إليه بضجرها وألمها.

ودخلت.. وتركته واقفا وفمه مفتوح.

•••

ولم تحاول أن تلتقى بمراد فى اليوم التالى، فقد كانت تدرك أن هذا لا يكون منها إلا خرقا وحماقة.. فلزمت بيتها إلى المساء، ثم خرجت فى سيارتها على عادتها وجالت بها جولة قصيرة، ثم ردت بعض الزيارات وعادت فلزمت غرفتها. وكان الألم لا يزال يحز فى نفسها، فساء نومها واضطرب. وذهب يوم وجاء يوم، ولكنها أحست ثقلا فى جسمها وفتورا.. فبقيت فى فراشها، وأوصت أمها أن تمنع أن يوقظها أحد — حتى ولا زكى — فشعرت الأم أنّ فى الأمر شيئا، ولكنها حدثت نفسها أنه خلاف لا يلبث أن يزول. وجاء زكى يسأل عن خطيبته، فعرفت الأم أنه لم يلقها منذ يومين.. فأظهرت تعجبها وزلت، فقالت إنها كانت تحسب أنها لم تخرج إلا للقائه. وزل زكى أيضا فقال لها إن جليلة تسلك مسلك الأطفال، وأن ذلك يسىء إلى مركزه، وأنه كلّمها فى ذلك فغضبت ولجت فيما نهاها عنه، فهو يرجوها — الأم — أن تكبحها قليلا.. فما يليق أن تترك هكذا — حبلها على غاربها. وعرفت جليلة هذا الذى دار بين أمها وبين خطيبها، فدهشت له.. ولكنها لم تغضب ولم تثر، بل كان من الغريب أنها أحست كأنما وضع لها فى مكان القلب قطعة من الثلج.

وجاء العصر.. فركبت سيارتها وخرجت بها إلى مصر الجديدة. وكان كل همها أن تكون وحدها وأن تدور دورة فى الهواء الطلق وتمشى قليلا، عسى أن ينفعها ذلك.. فيعفيها من الشعور بالانقباض والفتور. وإنها لفى بعض الطريق، وإذا بها ترى مرادا يمشى بسرعة كأنما يريد أن يدرك موعدا.. فوقفت وأشارت إليه وقد أحست أن جسمها قد صار أخف مما كان.. فجاءها يعدو، فسألته: «إلى أين»؟

فلم يجب عن هذا السؤال ولم يلق إليها تحية، بل ركب وهو يقول: «أرانا نلتقى فى هذه الأيام.. حسن هذا.. أليس كذلك»؟

فأعداها ما فى وجهه من البشر، وقالت ضاحكة: «غريب هذا.. تمضى سنوات لا نلتقى فيها مرة واحدة، وفى أربعة أيام نلتقى مرتين».

فقال: «لا تغلطى يا فتاتى.. ليست هذه مصادفة..».

فنظرت إليه مستغربة، وسألته: «ليست مصادفة»؟

فقال وعلى فمه ابتسامته الوضيئة التى لا تفارقه: «كلا.. ليست مصادفة.. إنها إرادتى سلطتها عليك فجذبتك إلى حيث أنا.. نعم». فعاد إليها إشراق وجهها وأطمأنت، وقالت: «أوه.. آه.. إرادتك؟ طبعا..».

فقال: «لا تمزحى.. إنى أتكلم جادا».

فرمت إليه نظرة سريعة، فألفته لا يزال يبتسم.. فحولت وجهها إلى الطريق، وقالت: «هذا بديع.. تكلم، إنّ أذنى لك».

قال: «نعم.. إرادتى.. لم أزل منذ عشر سنين أربى هذه الإرادة، فهل تستغربين أنها بلغت من القوة هذا الشأو؟ بالطبع لا، وأنت أول من ينبغى أن يكون من تلاميذى المؤمنين بى.. من حوارى. هه؟ وسأفتتح بك العهد الجديد».

وبلغا آخر الطريق إلى المطار — من ورائه — فجلسا على سلم السيارة، وأخرج مراد سيجارة وذهب يدخن فى صمت.. فلما طال ذلك التفتت إليه وقالت: «إنك لا تسألنى ماذا حدث»؟

فلم يحول وجهه إليها وأدرك من كلامها أن شيئا لابد أن يكون قد حدث. ولم يشأ أن يتطفل عليها بالسؤال، فاكتفى بأن يقول: «إن أذنى لك.. أعرناك السمع».

فقالت: «إنك قليل الفضول».

قال: «لأنى مشغول عنه بما فى نفسى.. الدكان غاصة. لا تحتمل زيادة».

قالت: «لغة التاجر، اسمع.. غضب زكى، أوه. غضب جدا.. لم يقل شيئا كثيرا، كل ما قاله إنى خفيفة طائشة، وأنى أسىء بسلوكى إلى مركزه».

فانتفض مراد واقفا وقد تجهم وجهه ورمى السيجارة، ثم التفت إليها وقال بلهجة صارمة: «من يكون زكى هذا»؟

وكبح نفسه عن الاسترسال، ورد لسانه بجهد، وضبط أعصابه، وعاد إلى مكانه من السلم والتفت إليها وقال — وقد وسعه أن يبتسم مرة أخرى: «معذرة.. ليس لى حق.. قولى إنك صفحت عنى».

فسرها منه أنه غضب لها، وفارت نفسه بالسخط على خطيبها من أجلها، فقالت له برقة: «أشكرك.. إننا صديقان قديمان».

فقال لها — وهو ينهض مرة أخرى: «قومى نتمشى.. دعى السيارة، فلن يخطفها أحد».

وقطعا مسافة وهما صامتان، ثم وقف والتفت إليها وقال: «اسمعى يا جليلة.. إنى أعتمد على ما تخولّنى صداقتى القديمة من الحق فى الصراحة … عشرون قربة من الماء تجعل لى هذا الحق، أريد أن أقول إنى تحاشيت فى مقابلتنا الأولى أن أكاشفك بما أضمر لك من الحب كل هذه السنين الطويلة، لأنك قلت عرضا أنك مخطوبة.. ولكن وجه المسألة تغير اليوم بعد أن سمعت منك ما قال هذا البغل».

فقاطعته ضاحكة: «اذكر أنه خطيبى. لا يزال خطيبى. وإنى قلت لك إنى أحبه».

فقال: «لم يعد هذا يعنينى.. لست أحاول أن أصرفك عنه.. كلا، ولكنه لم يبق لى بد من أن أقول إنى أحبك، وإنى أحبك مذ كنت طفلة، وكنت أعابثك وأكايدك وأصرخ فى وجهك. وكان هذا مظهر حبى الصبيانى.. أما الآن، فإن مظهره أنى مستعد أن أذهب إلى خطيبك هذا وأخنقه بيدى هاتين».

فقالت ضاحكة: «لقد توهمت لحظة أنك صرت أرق».

فقال: «كلا.. أنا كما كنت.. واسمعى ولا تقاطعى وإلا بحثت عن دودة ووضعتها لك فى قفاك.. إذا حدث يوما أن صار الدكان للإيجار فاخبرينى».

فقالت: «لغة التاجر أيضا.. ولكنى سأستعيرها منك.. ثق أنك مفضل عندى على كل مستأجر لهذا الدكان إذا خلا يوما من الأيام.. لم يخطر لى أن هذا ماتنطوى عليه لى.. ومن التى تتصور أن وضع الديدان فى قفاها يكون علامة حب؟ ولكنك كنت دائما غريبا.. على كل حال، المسألة المهمة أن الدكان مزحوم. ليس خاليا.. رحت أستبضع فامتلأ.. صحيح أنه امتلأ بأشياء لا قيمة لها.. ولكنى لم أكن أعرف أن ما غص به عديم القيمة.. المهم أنه ممتلئ، وأظنك تدرك أنه ما دام مملوءا فلا مكان هناك لجديد.. يجب الصبر حتى أخليه مما فيه.. هذا يحتاج إلى وقت. ومن يدرى، ربما كان الإخلاء أصعب من الملء. ولكنك تفهم.. قل إنك تفهم وتعذر..».

فقال ببساطة وهدوء: «لا بأس. لا بأس.. إن دكانى أيضا مزحوم. ولكنه مزحوم بالنفيس الغالى.. ولست أريد أن أخليه — لا أستطيع أن أخليه حتى لو أردت. وهيهات أن أريد أو أستطيع.. أنه مكتظ منذ خمس عشرة سنة، وسيظل مكتظا طول العمر. وقد عرفت أن مفتاحه معك.. فى يدك.. فادخلى حينما تشائين. وعسى أن تشائى.. عدينى أن تحتلى مكانك من الدكان بعد أن تفرغى من أمر دكانك.. وفى أثناء ذلك نبقى كما كنا دائما.. صديقين حميمين».

ولم يسع جليلة الا أن تفكر فى أمر الرجلين — مراد الذى تعرفه منذ الطفولة، والذى كان يسود عيشها بعبثه — لأن هذا كان تعبيره الخاص عن حبه لها — وقد ظل بعد ذلك يحبها، ولكنه أحجم عن طلب يدها لرقة حاله بالقياس إليها. وقد صار تاجرا، ولكنه لم يُثْرِ لأنه لا يربح إلا الكفاية.. ومن هنا إحجامه إلى الآن عن خطوبتها كما حدثها. وقد زاد على ذلك أنه كان لا يتصور أن ترضى به فتاة مثلها، فكتم حبه وطواه فى صدره، وسأل الله المعونة على احتمال اليأس المخامر. وهو ظريف كيّس لبق دائم البشر واسع الإدراك رحيب الأفق حلو الفكاهة … وزكى الغنى الذى لا ينفك مهموما بمركزه المتخيل والذى لا يتقى فى سبيل الحرص عليه أن يجرح قلب فتاة ويتهمها بالخفة والطيش فى سلوكها، وبأن سيرتها توشك أن تسىء إلى مركزه الموهوم هذا. وقد أحبته.. هذا صحيح، ولكن عينها فتحت، فهى تراه الآن على حقيقته. وليس يسعها إلا أن تفكر فى حياتها معه كيف يكون، إذا كان كل ما يباليه فى الدنيا هو هذا المركز.. ولكنها خطيبته وقد قبلت أن تكون زوجته.. فما العمل الآن؟

وسألت نفسها: أى الرجلين أحب إليها؟ وحيرها الجواب.. فهل هذا الذى تشعر به لمراد حب؟ إن يكن هذا فهو هادئ جدا.. أما زكى فإن الدكان كما قالت لمراد مزحومة.. صحيح أنها مزحومة بما لا قيمة له — كما ظهر الآن — ولكنها مزحومة.. فهل تخلو يوما؟ هذه هى المسألة.. وإلى أن تخلو لا سبيل إلى شىء.

ولو أن زكى ذهب إليها فى ذلك الوقت ولاطفها وضاحكها ومازحها واعتذر إليها — ولو كانت هى فى رأيه المخطئة — لعادت المياه إلى مجاريها كما يقولون، ولارتفعت قيمة ما فى الدكان وارتدت إليه نفاسته. ولكنه أراد أن يلقنها درسا، فأعرض أياما وجفاها وانقطع عن زيارتها، ولم يكفه ذلك.. بل أرسل إليها خادمة من عنده تبلغها تحياته وتسألها باسمه عن صحتها، وأوصاها أن تخلق مناسبة لتقول لها أن سيدها يكثر — فى هذه الأيام — من زيارة بيت خالته — وكانت لها بنت فى مثل سن جليلة — ليثير غيرتها وإشفاقها من أن يطير العصفور من يدها، فأفلح ولكن فى استثارة نقمتها عليه.. فقالت لنفسها إن رجلا يهينها ويعرّض بها ويرميها بأن سلوكها من شأنه أن يسىء إلى سمعته وأن يضر بمركزه، ثم لا يجعل هذا بينه وبينها بل يفضى به إلى أمها، ثم لا يكفيه هذا بل يجفوها ثم يغلو فى تعمد الإساءة إليها فيرسل إليها خادمة تبلغها أنه انصرف عنها إلى سواها.. مثل هذا الرجل خير له ولها أن ينقطع ما بينهما.

•••

على أنها لم تتعجل — وإن كان عزمها قد صح على الفراق — فقد كانت شديدة الثقة بنفسها والاعتداد باستقلالها وإرادتها الحرة، فلم تر ما يدعو إلى العجلة بعد أن انتوت أن تفصم العروة. واستوى عندها أن يكون ذلك يوم انتهت إلى هذا العزم، وأن يكون بعده بأيام أو أسابيع. فقد كانت واثقة أنه ما من شىء يستطيع أن يحولها عنه. وصار عجبها أن الدكان خلا بسرعة مما كان يغص به. ولم تكن تلقى فى تلك الأيام مرادا، لأنها أرادت أن تختبر نفسها لتعرف ما تنطوى عليه له.. فأدهشها أنها تحس وحشة، وأنها تشتهى أن تكون معه، وأن تستعيد ما تشعر به فى مجلسه من سكينة النفس واطمئنان القلب والرضى الهادئ. وزاد شوقها إليه أنها كتمت الأمر كله عن أمها. ولو كان مراد إلى جانبها، لكان خليقا أن يفهم ويعذر ويعطف وأن يسرّى عنها بفكاهته التى لا تخونه، وأن يغذيها بقوته التى تجعله لا ينسى أن يضحك وهو يفجع فى أمله الذى عاش به سنين وسنين..

وتعجبت لسرعة استيلاء مراد على هواها، فما لقيته إلا مرتين بعد طول الانقطاع والغيبة. فهل هذا هو الحب الذى يقال عنه أنه يكون من أول نظرة.. أم تراها كانت تحبه منذ عرفته وهى لا تدرى، وكان حبها له راقدا كامنا ينتظر فرصة للظهور؟ لاشك أنها كانت تحبه، كذلك قالت لنفسها وهى راقدة على سريرها بعد الغذاء. نعم كان يقسو عليها ويركبها بالمزاح المتعب، وكان يختبئ لها وراء الأشجار ثم يفاجئها بصرخة ترعبها فيضحك ويقهقه. وكان يجرى وراءها حتى تنقطع أنفاسها وتقع من الإعياء.. فيحملها، ولكنه لا يرحمها، ولا يترفق بها.. بل يقرصها ويعضها، فتصرخ وتصيح وهو يضحك ولا يبالى.. ولم تستطع أن تنتقم منه إلا مرة واحدة حين أرسلت عليه خرطوم الماء فأغرقته، فجعل ينتفض من البرد. ولكنه كان يضحك مع ذلك ولم يسخط عليها.. ولم ينطق بكلمة تشى بالألم أو النقمة أو الغضب، بل احتمل ذلك. ولما رق له قلبها وأقبلت عليه بالاعتذار إليه وطلبت الصفح منه، لم ينس دعابته وعبثه ونبحها كما يفعل الكلب «وو.. وو..» ففزعت. فما كانت تتوقع شيئا من ذلك، ومضت عنه مغيظة محنقة معتقدة أنه شر صبى فى الحارة، وكان هو يقهقه وينطوى من شدة الضحك غير عابئ بالماء والبرد.. فتالله ما أقواه. ومع ذلك كانت لا تلعب إلا معه.. وإذا أقبل عليها غيره من الصبية نفرت. نعم، لا شك أنها كانت تؤثره، ولماذا لا تقول إنها كانت تحبه؟ صحيح أنها لم تكن تعرف الحب.. ولكنها تعرفه الآن، فقد صارت خبيرة مجربة.. فلماذا لا تسمى الشىء باسمه الصريح؟

وارتدت من الماضى إلى الحاضر، وذكرت كيف غاصت عجلتها فى الرمل ووقفت حائرة.. وإذا به يظهر كأنما شق الأرض وخرج منها — كما كان يفعل وهو صبى — وينطرح على الأرض بلا كلام أو سؤال، ولا يبالى ما يصيب ثيابه، ويجرف الرمل بيديه الكبيرتين ويحمل الحجارة.. يفعل كل ذلك ولا يرفع عينه إلىَّ.. ثم يعرفنى فيتلطف فى تذكيرى بنفسه. ويتظاهر بنسيان اسمى وهو منقوش ومحفور فى قلبه.. وتنازعه نفسه أن يُفضى إلىَّ بحبه، فيشير إليه من بعيد فى معرض الكلام على ذكريات الحداثة.. ويعرف أنى مخطوبة، فيفقد كل أمل. ولكنه يتجلد ويتكلف الابتسام ويمضى فى مؤانستى بحديثه، كأنما لم ينهد ولم يتقوض بنيانه.. وهل أنسى كيف ثار وانتفض حين رويت له ما أهاننى به زكى؟ فقد كانت وثبته تلك دليلا كافيا على عمق ما يجن لى من الحب.. ومع ذلك أبت له الكياسة والأدب إلا أن يكبح نفسه ويردها عن النيل من زكى مخافة أن أكره ذلك منه.

وظلت تناجى نفسها على هذا النحو، ولا تكتحل عينها بغمض حتى كان العصر.. فقامت ولبست ثياب الخروج، واستقلتها سيارتها الصغيرة إلى دكان مراد، فأقبل عليها يرحب بها، فقالت: «أنت أولى من الغريب».

فابتسم وقال: «آه.. أهو ذاك»؟

قالت: «نعم.. أريد شيئا من الحرير.. قطعا كثيرة. ألوانها شتى.. الوقت ضيق».

فقال: «الوقت؟.. لست فاهما شيئا..».

قالت: «ألا تعرف أن العروس تحتاج إلى ثياب كثيرة»؟

فامتقع لونه، ولكنه تجلد وقال: «متى، إن شاء الله؟ لست أطمع أن أُدعى، ولكنى أريد أن أحتفل بليلة الجلوة وبسرورك فيها.. وحدى».

فسألته بخبث: «وحدك»؟

فقال: «نعم.. لن يكون معى سوى خواطرى».

وأدار وجهه إلى الباب ليخنق زفرة يعلو بها صدره، ثم التفت إليها وقال: «متى يكون هذا»؟

فرفعت إليه وجها مشرقا، ونظرت إليه نظرتها الحالمة، وقالت: «متى تريد أن يكون»؟

فقطب، وقال: «إيه»؟

فأعادت سؤالها: «متى تريد أن يكون»؟

فحدق فى وجهها — فى عينيها — ثم صاح وقد فطن إلى ما تعنى، وانحنى عليها فرفعها بيديه عن الكرسى غير عابئ بالعمال والزبائن، وأهوى على فمها باللثمات ثم ردها إلى الكرسى، وصاح بأحد رجاله: «اذهب. اذهب. حالا. حالا».

فوقف الرجل كالأبله لا يفهم ولا يدرى أين يريد منه أن يذهب، فصاح به: «هات المأذون.. ألا تعرف المأذون يا أبله؟ اذهب.. حالا..».

فوقفت جليلة وأقبلت عليه تسأله: «ماذا تعنى؟ ماذا تريد أن تصنع»؟

فقال: «ماذا أعنى؟ يا له من سؤال.. نعقد العقد.. هنا.. حالا فى الدكان.. هذا ما أعنى.. رجالى وزبائنى شهودى.. شهود سعادتى.. لقد كان التجار فى الزمن السالف يجيئون برجال يقفون على أبواب الدكاكين ويدعون المارة أن يدخلوا ويزينون لهم البضاعة، وقد انقضى ذلك الزمن وحلت الإعلانات فى الصحف محل هؤلاء المنادين.. ولكنى اليوم سأقف بالباب وأدعو الناس.. كل الناس.. أن يدخلوا، لا ليشتروا، بل ليشاركونى فى سعادتى. لماذا لم يجئ المأذون؟ اذهب أنت وراءه واستعجله».

وفرحت جليلة بهذا الجنون وخجلت أيضا.. أفرحها أن عقله استُطير من فرط الجذل، وأخجلها أن كل هؤلاء الناس من العمال والزبائن يرونها وأن عيونهم جميعا عليها، وأنهم جميعا يفحصونها ليعرفوا سر هذا السحر الذى ذهب بلب الرجل الذى ألفوا منه الرزانة والوقار والسكينة والظرف والعقل.. وأرادت أن تستمهله، فأبى.. فاقترحت أن يذهبا بالمأذون إلى البيت، فأبى أيضا، وقال: إن ناسا فى هذا الزمان يتزوجون فى الطيارة.. فماذا يمنع أن نتزوج فى الدكان؟ فقالت: إنه فرق ساعة، والمسافة إلى البيت لا تستغرق زمنا. فأبى أيضا، وقال إنه يخاف عليها أن تطير وتتسرب فى الهواء.. كلا، ولابد أن يكون العقد هنا.

وراقها هذا الجنون وألهب خيالها فرضيت..

وتزوجا فى الدكان!

وقالت له وهما خارجان: «نسيت أن أقول لك إنى وجدت أن الدكان لم يكن خاليا قط.. كان ما فيه مخزونا من أيام الصبى.. فلما أدرت عينى فيه عرفت، ولهذا جئت».

فقبلها على باب الدكان … ولم يستح الرجل!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤