الفصل الرابع

العقد الضائع

رجعنا من السويس على عجل — أختى وزوجها وأنا — وكنا نقضى فيها أياما، فقد تلقينا نبأ من خادمتنا القديمة الأمينة «فرحة» بأن عمدة قريتنا قادم.. وسينزل علينا ضيفا إجابة لدعوة قديمة نسيناها، فأسرعنا نحشو الحقائب حشوا بلا عناية، لنكون فى البيت قبل أن يصل. ومضى ابن عمى — زوج أختى — فجاء بالسيارة. وكنت قد هضت ساقى قبل ذلك بيوم، فلم يبق مفر من أن يسوق هو السيارة وإن كان لا يحسن ذلك.. ولم يتلق فيه إلا بضعة دروس قليلة. وكان الأحجى أن نستأجر رجلا لهذا، ولكنا كنا نحرص على ألا يكون معنا غريب يحول وجوده دون حريتنا فى الكلام والضحك واللهو أثناء الطريق وقد عزيت نفسى بأن طريق السويس سهل والحركة فيه قليلة، فلا داعى للخوف. وفى وسعه أن يخطئ كما يشاء.. فلن يضيره أو يضيرنا ذلك، وإن كان يخشى أن يضيع وقتنا.

وجلست إلى جانبه، وجلست أختى على المقعد الخلفى، وطمأنتها بأنى وأنا معه سأكون السائق الحقيقى، وأنه لن يفعل إلا ما آمره. ولكنا لسوء الحظ، ألفينا الطريق غاصا بالسيارات.. فتعجبنا أولا، ثم تذكرنا أن هذا يوم الأحد، فلا عجب إذا كان الكثيرون قد أقبلوا على السويس ليقضوا اليوم فيه.

وقطعنا بعض عشرات من الكيلومترات فى سلام — وفى ضحك أيضا — ثم بلغنا أول مرتقى فى طريقنا، فأشرت على ابن عمى بأن يضع ناقل السرعة فى المحل الثانى.. ففعل، فوقفت السيارة فى منتصف الانحدار. وكنا لا نزال فى مكاننا حين وقف المحرك للمرة العاشرة، فاقترحت عليه أن يكف عن العمل، وأن يضطجع ويشعل سيجارة. ولكنه هز رأسه وقال: «هل أرجع بها القهقرى، ثم أبدأ من جديد»؟

فقلت له: «كلا، إنى أفضل لسخافتى أن أواجه الموت».

فقالت أختى: «هل نستطيع أن ندفعها يأيدينا حتى نبلغ ذروة هذا المرتفع؟..» قلت: «كلا.. إن زنتها لا تقل عن طنين».

وقال ابن عمى؟ «لن أسألك عن السبب فى وقوفها كلما حاولت أن أحملها على السير، فإنى أعرف جوابك.. ولكنى أؤكد لك أنى أضع ناقل السرعة فى مكانه بأقصى ما يسع إنسانا من الترفق والبطء.. وإذا كنت تريد أن تعرف رأيى فهو أن السيارة قد أصابها تلف».

قلت: «سيصيبها التلف على التحقيق، إذا ظللت تحاول أن تدير المحرك ثم توقفه.. فستنفد الكهرباء وتحتاج كلما أردت إدارة المحرك أن تنزل وتديره «بالمنفيلا». وقد ينفعك هذا، فيغريك بالتفكير قليلا».

فصاح بى: «أتظن أنى لم أفكر؟ أتتوهم أنى لا أفكر الآن؟ إن رأسى يكاد ينفجر من فرط التفكير».

فضحكت أختى، فصاح بها: «نعم اضحكى.. انظرى إلى الجانب المضحك.. ولم لا.. قد يطير عقلى، ولكن هل يجوز أن يمنعك هذا من الضحك»؟

ودأس برجله الزر يريد أن يدير المحرك.. ووقفت السيارة مرات أخرى لا أذكر عددها فاضطجع وأغمض عينيه وراح يقول: «لا فائدة.. لا فائدة.. قُضى الأمر، وأنا واثق أنه كتب علينا أن نبقى هنا إلى الأبد. ومن يدرى.. ربما كان فى الطريق مارد فى يده سيف مسلول.. والسيارة تراه وإن كنا نحن لا نبصره. ومن العبث أن يقاوم المرء القضاء والقدر. كلا.. لا تتكلموا.. فإنى أوثر أن أقضى نحبى فى سلام وبغير ضجة».

وفى هذه اللحظة وقفت إلى جانبنا سيارة ونزل منها رجل لم نكد نبصره حتى أيقنا أنه إنجليزى، وحقق هو ظننا فقال لنا بلغته: «هل أستطيع أن أساعدكم»؟

فشرحت له الأمر وعرفته خطبنا، فابتسم وهم بكلام ولكن ابن عمى قال له: «امض عنا.. اذهب.. وحدك.. إن أمامنا ماردا وقد حذر السيارة من المضى ففهمت عنه.. كان صريحا فيما قاله لها، اذهب وأرجو لك السلامة».

فابتسم الرجل ودعاه إلى النزول، واتخذ مكانه.. وصعد بنا إلى رأس التل، ولم يكتف بذلك بل ظل معنا — على مسافة منا.. وراءنا — حتى فرغنا من المرتفعات، وصار الطريق بعد ذلك سهلا منبسطا، فشكرناه ولكن أى شكر يمكن أن يفى بحسن صنيعه ومروءته؟

وكان مساء.. ثم كان صباح.

ولم يكن النهار قد ارتفع ولا كانت الشمس قد علت، لما دخلت علىَّ «فرحة» توقظنى قبل موعدى المألوف بساعتين، وتخبرنى أن أختى تصيح علىّ وتدعونى إليها فى غرفتها. وقد عجبت، وحق لى أن أعجب.. فما أعرف موجبا لإزعاجى فى مثل هذه الساعة المبكرة — السابعة من فضلك — ومع أختى زوجها، فما حاجتها إلىَّ؟ وقد حاولت أن أهمل هذه الدعوة، ولكن «فرحة» أبت أن تمضى عنى وتدعنى أستأنف النوم.. فتمطيت وفركت عينى وتثاءبت وقلت لها: «ماذا هناك يا فرحة»؟

فقالت بلهجتها الهادئة المطمئنة وصوتها المتزن النبرات الذى لا أذكر أنه ارتفع عن هذه الطبقة مرة واحدة فى عشرين عاما قضتها معنا مذ كانت طفلة: «إن الأمر يستدعى وجودك».

وفرحة عاقلة ذكية وحريصة دقيقة العبارة، قد رباها أبى مع أختى وعُنى بتعليمها أيضا، وجعل لها حصة فى الوقف الذى وقفه قبل وفاته. وكانت هذه مفاجأة سارة لنا، فقد أحببنا فرحة حب الأخت. وكانت هى — وما زالت — ربة البيت. ولسنا نعاملها معاملة الخدم وإنما نعدها واحدة منا لها علينا مثل الذى لنا عليها. وحسبك منها، أنها ما أخذت فى حياتها معنا أجرا على خدمة، وأنها بعد وفاة أبينا لم تحاسبنا قط على ريع حصتها وإن كنا نودعه البنك باسمها.. فإذا أرادت ثوبا أو خاتما أو غير ذلك طلبته منا، كما يمكن أن تطلبه أختى منى أو من زوجها. فإذا كانت تقول الآن أن الأمر يستدعى وجودى، فقد صار القيام لابد منه.

ودخلت على أختى وورائى فرحة، فألفيتها مستلقية على السرير فى منامة قرمزية مزركشة ومعتمدة بكوعها على وسادة وثيرة مربعة محشوة بريش النعام وخدها على راحتها ويسراها على فخذها وبين أصبعيها سيجارة.. وكان منظرها فاتنا فإنها جميلة ممشوقة، وكانت هذه الرقدة تبرز خطوط جسمها الرشيق وبراعة الانحناءات فيه.

وكان زوجها قاعدا فوق السجادة، فنظرت منها إليه وقلت: «لا عجب أن تدللها.. لست بإنسان إذا لم تفعل».

فابتسمت مسرورة وأدنتنى منها وقبلتنى، وقالت: «اجلس هنا.. إلى جانبى على السرير.. وأنت يا فرحة.. قصى عليهم الحكاية» فأراحت فرحة أناملها على شباك السرير وأشارت بيدها الأخرى إلى منضدة صغيرة قريبة وقالت: «قبل أن أترك الغرفة وضعت بيدى عقدها — وأشارت إلى أختى — على هذه المنضدة، وفى الصباح دخلت عليها فلم أجده. وسألتها عنه فقالت إنه فى مكانه، فذهبت إلى البك — تعنى زوجها فإن فرحة مؤدبة — وسألته فجعل يضحك ويتحسس عنقه ويقول إنه ليس هنا.. هذه هى الحكاية».

فقلت متمما لها كلامها: «فجئتم بشرلوك هولمز ليحل اللغز ويضع يده على اللص.. أشكر لكم هذه الثقة العظيمة».

فقالت أختى، وهى تضحك: «العفو.. الواقع أن كل ما أذكره هو أنى قمت بالليل، وغبت عن الغرفة دقائق، ومررت فى عودتى بغرفة هذا الزوج الصالح.. ولكن شخيره كان عاليا فهربت».

فنهض ابن عمى محتجا وقال وهو يتمشى: «شخيرى.. هل تريدين أن تقولى إنك أفردت لى غرفة من أجل شخيرى.. شخيرى.. ليتك ترين نفسك فى المرآه وأنت نائمة. إذن لرأيت كيف ترمين اللحاف وتضربين برجلك هنا وبيدك هناك، كالأطفال بلا أدنى فرق. لقد تزوجت طفلة حين تزوجتك.. تقول شخيرى.. مثل هذا الطعن القبيح على سيدها وتاج رأسها، هل يليق يا فرحة»؟

فابتسمت فرحة ولم تقل شيئا. وماذا عساها تقول، وشخيره يزعج الجيران حتى لقد جلا السكان عن هذا الحى، وخربت بيوت أصحاب العمائر فيه.

… وانتهت ضجة الضحك أخيرا — ولكل شىء آخر — فقلت: «ماذا كان شرلوك هولمز خليقا أن يصنع فى مثل هذه الحالة»؟

فصاح بى ابن عمى: «دع الفلسفة من فضلك.. الأمر واضح.. البيت موصد من كل ناحية والمنافذ كلها مسدودة، فالذى أخذ العقد لم يجئ من الخارج وإنما هو ولا شك واحد ممن فى البيت».

فصحنا جميعا — ما عدا فرحة فإنها مؤدبة.. «برافو.. برافو..» فلم يعبأ بنا ومضى يقول: «الجديد علينا هو ابن العمدة.. فهو السارق».

فلما نطق بهذا، صحنا به جميعا — حتى فرحة وإن كانت مؤدبة — فلم ينهزم، وقال وهو يعود إلى الجلوس على الحشية: «لا بأس.. ولا داعى للصياح.. المسألة بسيطة، إذا لم يكن هو اللص فمن عسى أن يكون غيره»؟

فقلت: «أنت مثلا.. لم لا»؟

فقهقه، فقلت: «ألا يمكن أن تكون قد أخذته لتضعه فى مكان أمين ثم نسيته كعادتك؟ إنك هكذا وأنت تعرف ما يكلفنا نسيانك. قم انظر أين وضعت العقد، واذكر الأسفنجة.. قبل أن تعترض وتحتج.. قم من فضلك».

فقالت أختي وهى تعتدل في مجلسها: «يا سليم.. إني لم أخطئ حين أزعجتك.. كلا، وأنا الآن واثقة أن ابن العم قد نسى أين وضعه».

فصاح بها محتجا: «ولكنى يا ستي لم أدخل غرفتك.. ودعتك — أعنى قبلتك ولا مؤاخذة يا سليم، فهذه عادة الأزواج — ثم لم أعد.. فكيف يمكن أن أكون قد أخذته»؟

فقالت وهى تقف: «تذكر.. حاول أن تتذكر..».

وزدت أنا على قولها: «جرب مرة واحدة أن تكلف هذا الرأس عملا.. لا تخف أن تتعب».

فمضى عنا إلى الباب وهو يقول: «إنى ذاهب إلى الحمام..».

وهنا ينبغي أن أقول إن العقد الذي غاب مما ورثناه عن أمي، وهو من اللؤلؤ النفيس.. وكانت حباته نحو مائتين، وأكثرها من الكبار في حجم الفولة، وقد رأينا أن نجعل منه عقدا واحدا صغيرا أعطيناه لفرحة، وبقى الكبير وآخر صغير لأختي.. فكانت إذا لبست أحدهما تلفه على نحرها الجميل، فغير معقول أن يسرق منها وهو على نحرها. على أن الأمر لا محل فيه للتخمين، فقد قالت فرحة إنها وضعته على المنضدة.. وفرحة صادقة، ثم أن ذاكرتها لا تخونها أو تعابثها كما تعابث ابن عمى — أحمد — ذاكرته. ولم يكن أسخف من قوله — وإن كان يمزح على عادته — إن ابن العمدة «حسن» هو الوحيد الذي تتجه إليه التهمة، فإن «حسنا» هذا من سراة الناس، وهو فوق ذلك من أقرباء أحمد الأدنين. وقد ذكرت ذلك لأريك إلي أي حد يذهب أحمد في مزاحه.

ولا أحتاج أن أقول إننا استقبلنا يومنا مكتئبين مهمومين محزونين، فإن للعقد قيمته الذاتية والمعنوية.. وقد كنا نتكلف المرح ونبدى صفحة البشر ونتلقى الأمر بما يشبه الاستخفاف، لأننا اعتدنا أن نواجه الأمور على هذا النحو، وربانا أبوانا على الجلد وضبط الإحساس. أما أحمد فكان بطبيعته هزالا يركب الحياة بالدعابة والبشاشة والعبث، وقد أحبنا وأحببناه وأنس بنا وأنسنا به، فعاش معنا وآثر بيتنا على بيت أبويه، وانتهى الأمر بما كان لابد أن ينتهي به — أي أن يتزوج أختي — ولست أعرف أسرة أخرى تعيش هذه العيشة السعيدة الرغيدة. وحسبك أن المال موفور وأن الطباع رضية والأمزجة متطابقة.

•••

ومن عادة أحمد أن يغنّى وهو في الحمّام. ولست أعنى أنه يغنى الأصوات الشائعة، وإنما أعنى أنه وهو في الحمام يصف كل ما يعمل، ويرفع الصوت بالغناء بهذا الوصف.. فإذا كنت على مقربة من الحمام لم يسعك إلا أن تسمعه يقول — أو يغنى على الأصح: «أين الأسفنجة يا سيدي.. لابد أن تكون هذه الزوجة المهملة قد ضيعتها.. ومن يدرى يا حبيبى.. فعلها خبأتها عمدا.. آه يا روحي.. وأين الكبريت.. أظنني نسيته.. هذا خازوق يا حبيبى.. وكيف أسخن الماء الآن؟ يا لعنة الله انزلي على رأس الذي اخترع التدفئة بالغاز.. آه يا عيني.. والله وحْسه.. نجد الكبريت فلا نجد القرش الذي نضعه في الثقب لينطلق الغاز.. ويسخن الماء فلا نجد الأسفنجة.. وأجد كل ذلك وأنام في الحوض، ويبدأ الشعور بالراحة وإذا بالغاز قد فرغ. وأخذ الماء يبرد.. ويجب أن أخرج من الحوض لأضع قرشا آخر في الثقب وأبحث عن الكبريت.. والكبريت مبلول.. معلوم يا سيدي.. أو الكبريت فرغ.. طبيعي.. أصيح.. ومن يسمع.. ألبس البرنس وأخرج لأجيء بكبريت.. خازوق آخر يا حبيبي.. لقد سيبت الغاز مفتوحا.. فالحمام كله غاز.. وستختنق يا ولد إذا لم تفتح النافذة.. افتح يا سيدي وابرد.. وحوح يا حبيبي من البرد.. الذي سمى هذا حماما كان ولا شك ابن حرام».

وهكذا إلى غير نهاية.. ومن تحصيل الحاصل أن أقول إننا اعتدنا أن نقف قرب الحمام كلما دخل فيه أحمد لنعرف ما يجرى فيه، فنقع على الأرض من كثرة الضحك. ولابد أن يحدث له شيء لا يحدث لسواه، لأنه كما أسلفت سريع النسيان.. ينسى أين وضع الإسفنجة وأنه رمى الكبريت فى الحوض، وينسى أنه نسى أن يجيء معه بقروش ليضعها فى الثقب.. فإنه يبقى فى الحوض ساعة وساعتين وهكذا. ولولا أنه نسّاء لعابثناه عامدين لنضحك، ولكنه أغنانا عن ذلك.

وكان حسن قد استيقظ ونهض ليلحق بنا ويجلس معنا، فألفانا عند الحمام واقفين وإن كانت المقاعد فى الدهليز، فحيا بيده.. فأشرنا إليه أن اسكت.. ورآنا نبتسم وأحس من هيئتنا أننا نتسمع، فمشى على أطراف أصابعه ووقف معنا يصغى أيضا، وكان أحمد يقول: «العقد ضاع.. قال ضاع.. كلام فارغ يا حبيبى.. والله ما أخذه إلا هذا الحرامى الذى نزل فى ضيافتنا.. بالطبع سرقه فى عمر أمه ما رأت مثله الأقارب عقارب يا سيدى.. ضاع العقد يا ستى.. أنا المسكين يا حبيبتي.. هات لى عقد غيره يا سيدي.. طبعا يا ماما.. من يدري.. لعل العقد لم يضع.. أيوه يا سيدي.. لم يضع. الأرجح.. والمعقول أن يكون في الدولاب.. أخفته الزوجة الصالحة لأشترى لها عقدا سواه.. النسوان ملاعين يا روحي. قالوا العقد ضاع.. ضاع فين يا أهل القَوَنطة، لا يا ستى العقد فى الدولاب، والغرض مرض».

وكان يبدئ ويعيد فى هذه المعانى.. فأما حسن فلم يفهم وكان ينظر منى إلى أختى، وكان يرانا نضحك فيتكلف الضحك مثلنا.. وأما أختى فضحكت أولا ثم لما سمعته يتهمها بأنها خبأت العقد لتطالبه بحلية.. تجهمت، فشددت على ذراعها، فنظرت إلى مبتسمة وهزت رأسها، وعاد إلى وجهها الإشراق.. ولكنها لم يسعها إلا أن تقول لنا ونحن نمضى عن الحمام قبل أن يخرج هو علينا: «شف.. ينسى أين وضع العقد ثم يدعى أنى خبأته.. طيب..».

وقال حسن: «ألا تقول ما هى الحكاية»؟

فضحكت، وقلت: «الحكاية باختصار إن أختى لا تجد عقدها.. وأحمد يتهمك بسرقة العقد.. لقد سمعته بأذنك.. والآن أفهمت»؟

وكانت هذه صدمة، فإن معرفة حسن بأحمد يسيرة، وإن كان من أقاربه الأدنين.. ولكنه احتمل هذه الصدمة، وأسرعنا نحن فعرفناه بأساليب قريبه، فضحك معنا. ولكنه مع ذلك صار يطرق من حين إلى حين.

وخرج أحمد أخيرا ودخل علينا وفى يده صحيفة يتأملها وينظر إلى الصور التى فيها فما كانت له عناية بقراءة الصحف. وجلس إلى المائدة وأدار عينه فيما عليها، ثم سأل: «ماذا أعددت لنا يا امرأة»؟

فاغتنمت أختى هذه الفرصة، وصاحت: «ألا تنتظر حتى يستعد الباقون للأكل؟ ما هذه الشراهة؟ ثم كيف تزعم أنى أخفيت العقد لتشترى لى سواه»؟

فقال ببطء: «الجواب على السؤال الأول بالنفى.. النفى البات.. أما الشطر الثانى من السؤال، فإن الرد عليه يكون بعد الأكل.. فإنه يحتاج إلى عقل، والعقل يذهب به الجوع». فعادت تصيح به: «ولكن كيف تجرؤ»؟

فقال بهدوء: «من الغريب أنى جئت إلى هنا لآكل لا لأتكلم أولا يا امرأة». فقالت: «هل عنيت بالبحث فى ثيابك؟ بالطبع لم تعن..».

فالتفت إلى حسن، وقال: «شف يا حسن.. شف.. احذر يا ابنى أن تتزوج.. لا عذر لك وقد رأيت بعينك ما تصنع الزوجات ببعولتهن».

فقال حسن: «أظن أنى سأتزوج.. وعلى فكرة كيف تسمح لنفسك أن تتهمنى بالسرقة»؟

فرفع أحمد يديه إلى السماء، ثم التفت إلى حسن وقال: «وأنت أيضا؟ لم يبق لى عيش فى هذا البيت.. فلأرحل». ونهض، وقال: «يا امرأة، إنى فى المكتب».

لم ندع مكانا فى البيت إلا بحثنا فيه، ولا ثوبا فى خزانة أحمد إلا نفضناه وقلبنا جيوبه.. حتى السجاجيد رفعناها ونظرنا تحتها.. حتى الستائر نحيناها وأجلنا عيوننا فيما وراءها وفيها أيضا مخافة أن يكون حبل العقد قد علق بشيء منها. فلم نجد عقدا ولا حبة من عقد، فيئسنا وحل الاكتئاب محل البشر، فقد كنا إلى ما قبل ذلك نعتقد أن العقد موجود فى مكان ما ولكن أعيننا لا تراه. وقد أعدنا البحث مرة أخرى لظننا وتوهمنا أننا تخطيناه بعيوننا ونحن نديرها كما هى العادة فى حالة الاضطراب. ولم يكن أحمد يعفينا من مزاحه فى خلال هذا البحث المتعب.. فلما كففنا، قال وهو يضطجع ويشعل سيجارته: «لا فائدة.. لقد كنت أعلم من أول الأمر أن لا فائدة.. قلت لكم مائة مرة أن هذه الزوجة تعرف أين يوجد العقد.. نعم، هى خبأته». فصاحت به: «ألا يمكن أن تسكت»؟

فقال: «أسكت كيف.. وأنت تحمليننا كل هذه المشاق من أجل خرزات»؟.. ولم يتمها.. فقد هجنا به احتجاجا على وصف حبات اللؤلؤ بأنها خرزات.

ولما هدأت الضجة، قالت أختى: «اسمعوا.. إنى لم أعد أطيق البقاء هذا النهار فى البيت، فلنذهب إلى أى مكان آخر ولنتغد هناك».

وكان هذا اقتراحا حسنا، فإن بقاءنا فى البيت كان خليقا بأن يغرينا باستئناف البحث مرة وأخرى، فنشقى على غير جدوى. فمن الخير أن نخرج وأن نقضى النهار فى مكان آخر ثم نعود.. ومن يدرى؟ فقد نجد العقد تحت عيوننا حين نعود كما يحدث كثيرا. وما زلت أذكر كيف كنت أبحث مرة عن قلمى وكانت أختى معى، فلما تعبنا جلسنا على الكراسى وهممت بأن أخرج سيجارة وإذا بالقلم بين أصابعى.. ومن الغريب أن أختى لم تره فى يدى كما لم أره. وقد ذكرت أختى بهذه الحكاية أو الحادثة، وفى مرجوى.. أن أبعث فى نفسها الأمل، فلا تقضى النهار يائسة، وإن كانت تتشجع وتتجلد ولا تبدى جزعا.

وقمت إلى حمامى على حين راح غيرى يلبس الثياب استعدادا للخروج.. وكان طبيعيا أن يفرغوا من شأنهم قبلى وأن يستبطئونى، فإنى أنا فى حركة دائمة فى الحمام، وهم لا يصنعون شيئا بعد أن لبسوا الثياب ووقفوا ينتظرون.. وليس أشد على المضطرب القلق من الانتظار. فأقبلوا على باب الحمام يدقون عليه بأيديهم وينقرون بأصابعهم، ويدعوننى أن أسرع..

وأخيرا خرجت.. فما يمكن أن تكون لمستحم راحة أو لذة وعلى بابه من يصيحون به ويُسمعونه ما يكره، فلحقوا بى فى غرفتى ولكنى أخرجتهم منها بجهد.. فإنى مستعد أن أحتمل كل شىء إلا أن يحيط بى هؤلاء الصائحون الصاخبون وأنا ألبس. على أنى أسرعت وعجلت لأتقى شر هجومهم علىّ كرة أخرى، وكانت ساقى لا تزال أحسها ثقيلة مما أصابها فى السويس وهاضها، وإن كانت لا تؤلمنى. فلما صرت إليهم فى الردهة وقفت هنيهة أدعكها بكفى لالينها، فسألتنى أختى: «ألا تزال تؤلمك»؟

قلت: «كلا.. لا ألم ولكنى أحسها ثقيلة».

فقال ابن عمى: «كلك ثقيل يا أخى.. تعال».

فقلت: «ولكنى حقيقة أشعر أنها أثقل مما كانت أمس».

فقالت أختى: «طبيعى.. هذا من الجهد الذى تكلفته اليوم فى البحث».

فاقتنعت ونزلنا إلى الباب، وكان ابن عمى قد جاء بالسيارة قبل ذلك وتركها أمام الباب، فجلست أختى ومعها حسن على المقعد الخلفى، واتخذ أحمد مكان القيادة، وقلت له وأنا أفتح الباب الآخر لأجلس إلى جانبه: «لعل درس الأمس نفعك، فلا تكرر أخطاءك المعتادة».

فزام أولا، ثم قال: «ولكن إذا كنتم تريدون أن أشرفكم بتولى القيادة العامة.. أفلا يحسن أن أعرف إلى أين يراد منى أن أحملكم»؟

فقالت أختى: «أوه.. إلى أى مكان.. إلى القناطر الخيرية إذا شئت أو إلى أى مكان تحب».

قال حسن: «إلى القناطر إذن. اركب يا هذا.. أم تريد أن أنزل وأحملك»؟

وكان الركوب يحوجنى أن أحمل ساقى بيدى، لأن ثنيها كان يؤلمنى فى موضع الركبة.. فجلست على المقعد ووجهى إلى الباب وملت على ساقى وهى ممدودة لأحملها وأدور بها لأدخلها فى السيارة. ثم ارتددت ضاحكا، فسألتنى أختى عن الخبر، فقال لها زوجها: «دعيه.. إنه يحلم. لا يزال نائما.. ألا تريدين؟.. أعنى ألا تسمعين»؟

فمسحت أولا الدموع التى ترقرقت فى عينى من فرط الضحك، ثم مسحت بطنى التى صارت توجعنى.. ثم تنهدت وقلت: «أخ.. مسألة ظريفة جدا».

فقالت أختى: «ولكن ما هى الحكاية؟ أتظن أن من اللائق أن نقف ساعة أمام الباب»؟

قلت: «أظن أن الواجب أن ندخل.. نعود إلى البيت دقائق قبل أن نخرج إلى رحلتنا».

فنهضت أختى عن مقعدها قليلا وزحفت إلى الأمام مقدار شبر ووضعت كفها البضة على كتفى، وقالت: «لا تعذبنى انطق». قلت: «لا حاجة بى إلى الكلام.. خذى».

وانحنيت فأخرجت العقد المفقود من طية البنطلون عند حرفه، ورفعته إلى عينها وقلت: «لقد كنت أظن أن ساقى اليوم أسوأ مما كانت أمس لأنى أحسها أثقل.. فالآن عرفت السبب، ولكنى لا أعرف كيف سقط العقد فى طية البنطلون».

ولا أزال إلى الآن أجهل كيف أمكن أن يحدث هذا، وإنما الذى أعرفه أن أختى نعمت فى يومها هذا، وأن ابن عمى حاول أن يركبنى بعبثه المألوف.. فوضعت كفها على فمه، فقبل أصابعها، ثم عضها، فصرخت. فقال: «هذا جزاء من يدافع عن السّراق واللصوص والخونة»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤