الفصل الرابع

الفضاءات الحضرية

تتشكل المدن من الأمكنة الرَّقْمِيَّة؛ وهذه الأمكنة آخِذةٌ في الاكتظاظ بالناس والبيانات. ومع استمرار تعاظُم أثر هذه الفضاءات، نحتاج لأنْ نتأمَّل كيفيةَ تغييرها لطبيعة التواجد في المدينة. أبدى كثيرٌ من النقاد حسرتَهم على انحسار الفضاءات العامة؛ إذ إنها أصبحَتْ مكدَّسة بالروابط الخارجية، وهو ما يشير إلى وجودِ علاقات ارتباط طردية بين الصلات العالمية وانقطاع الصلات محليًّا (جولدبيرجر، ٢٠٠٧). أشار اختصاصي علم النفس البيئي ديفيد أوزِل (٢٠٠٨) إلى أن استخدام التكنولوجيا في الفضاءات المكانية العامة يعادل جريمةً حقيقيةً في حق الإنسانية؛ حيث «تجري سرقةُ الأماكن على مرأًى ومسمعٍ منَّا». ولاحَظَ الناقد الثقافي هوارد رينجولد (٢٠٠٢، صفحة ٢٢) أن ركاب القطارات والحافلات العامة اليابانيين كانوا يفضلون أن يتحدَّثوا إلى شخصٍ غير متواجد معهم ماديًّا في وسيلة النقل، على الحديث مع الركاب الآخرين المتواجدين في وسيلة النقل العامة نفسها. ومع رواج الهواتف المحمولة، صار هذا الادِّعاء حقيقيًّا؛ فالهواتفُ المحمولة تعزِّز من التفكُّك الاجتماعي، خاصةً عندما تُستخدَم في الفضاءات العامة مثل المطاعم ووسائل النقل العام.١ ويشير المُنَظِّر النقدي نورمان كلاين إلى أنه عندما يتحدَّث الناس في هاتف محمول أثناء سَيْرِهم، فإنهم يتحركون خلال الفضاء المادي، ولكنهم في هذه الحالة ليسوا متواجدين فيه حقًّا،٢ وهو ما أطلق عليه عالِم النفس كينيث جيرجين (٢٠٠٢) «الحضور الغائب». ويحدث ذلك عندما «يكون المرء مُستَحوَذًا عليه ماديًّا في مكانٍ آخَر من العالم عن طريق تكنولوجيا وسيطة» (صفحة ٢٢٧). وبحسب ما يراه كلاين، فذلك «يُوَلِّد ثقافةً من جنون الارتياب والعزلة المروِّعين. وكلما زدنا من التعدِّي على الخصوصية في الفضاءات العامة، جعلنا أنفسَنا أكثر انعزالًا عن العالم من حولنا.»
وعلى الرغم من ذلك، لا يزال الناس يشغلون الفضاءات الحضرية، ولا يزالون يستخدمونها بطرق إبداعية. حينما تكون الفضاءات ماديةً ورقميةً على حدٍّ سواء، وحينما تكون التفاعلاتُ بين الناس عن طريق وسيط، لا يُنْبِئُ هذا بِنهايةِ الفضاءات الحضرية الجيدة، ولكنه يُنْبِئُ بوقوعِ تغييرٍ؛ فالقراراتُ بشأن ما يجب أن نولِيه انتباهًا يجري اتخاذها بطرقٍ مختلفة كثيرًا؛ إذ إن نطاقَ ما هو قريب قد امتدَّ لأبعد ممَّا هو بجانبك مباشَرةً، واحتمال إيلاء الانتباه لمستخدِمٍ مجهول عند ناصية شارعٍ مجاوِرٍ، ومرئي على خريطةِ جهاز محمول، يمكن أن يماثِل تمامًا احتمالَ إيلاء الانتباه للغريب المتواجد بالناحية الأخرى من الشارع. تشكِّل هذه الظاهرة بالفعل تحدِّيًا للسلوكيات الشائعة تجاه الفضاءات الحضرية. ومثلما جادَلَ مؤرخو المدن والنشطاء جدالًا شديدًا على مدار العقود العديدة الماضية، فالفضاءات الحضرية الجيدة هي نتاجُ أفرادٍ مشتركين في المكان، منخرطين في أي شكلٍ من أشكال الطقوس والتفاعلات الاجتماعية؛ ممَّا ينتج عنه مجتمعاتٌ محلية أرسخ وشوارعُ أكثرُ أمنًا.٣ وعندما يضاف التفاعل باستخدام وسيطٍ إلى المعادلة، فإن ذلك الترابط الاجتماعي الظاهري للفضاء الحضري يصير موضعَ شكٍّ؛ فمثلًا لو أن شخصًا يتحدَّث عبر هاتف، أو يرسل رسالة نصية، أو يتفحص خريطةً على جهازه المحمول، أو يرفع مقالًا على «ويكيبيديا»، فإنه ربما ينسى أن يبتسم لِمارٍّ، أو أن يشكر بلَباقةٍ البائعَ المتجوِّل الذي اشترى منه كعكًا مملحًا. ومع أن استخدام الأجهزة المحمولة قد يقلِّل من تكرارية هذه الطقوس الاجتماعية الشائعة والمهذبة، فإنه في الوقت نفسه ينشر تلك الطقوسَ ويكيِّفها في أُطُرٍ أقلَّ شيوعًا.
أوجَدَ المجتمعُ المعاصر أُطرًا جديدة للتفاعل الاجتماعي، ليست كلها معتمدة فقط على التواجد في الفضاء المادي نفسه. يمكن أن يمتد التواجد المشترك — باستخدام التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني أداةً وسيطةً — إلى ما هو أبعد من البيئة المادية المحيطة، إلى بيئة شبكية؛ فيمكن للناس إدراك تواجد الآخرين من خلال علامات موضوعة على خريطة، أو تغريدة مرتبطة بالموقع.٤ وكما يرى كازيس فارنيليس وآن فرايدبرج (٢٠٠٨): «يصبح الانتقال بين فضاءَيْن في الوقت ذاته أمرًا أكثرَ اعتياديةً على نحوٍ تدريجي، ورؤية الأجهزة الرَّقْمِيَّة والهواتف بوصفها امتداداتٍ لذواتنا المتحركة.» أصبحت الويب جزءًا من الفضاءات التي نشغلها، وبالمثل صارت تلك الفضاءات جزءًا من الويب. ولكن ذلك يتطلَّب تدريبًا؛ فالقدرة على الانتقال بين فضاءيْن في الوقت نفسه هي في الحقيقة القدرة على تعزيز الفضاءات والمعلومات التي نربطها ﺑ «ذواتنا الرَّقْمِيَّة» ووضعِها في نوعٍ من الفضاء المختلَط. وتُعَدُّ الفضاءات المختلَطة «مواقفَ اجتماعيةً لم يَعُدْ ممكنًا فيها تحديد الحدود بين الأُطُر المتجاورة والبعيدة تحديدًا دقيقًا» (دي سوزا إي سيلفا، ٢٠٠٦). إن مجرد وجود الأجهزة ذات الإدراك المكاني في المدن لا يصنع الأمكنة الرَّقْمِيَّة؛ فالأمكنة الرَّقْمِيَّة هي فضاءات تُصنَع بالممارسة؛ أيْ إنها تتطوَّر بمرور الوقت، ومن خلال الممارسات الاجتماعية باستخدام التكنولوجيا، بل الأكثر من ذلك أنها تشتمل على كل أولئك الأشخاص الذين يشتركون في التواجُد في الفضاء المادي، ولا يصلون إلى المعلومات الرَّقْمِيَّة؛ فالسيدة التي تسير في الشارع ولا تحمل جهازًا ولا تصل إلى معلومات، تصبح جزءًا من الموقف الذي يشكِّل الفضاء. ويمكن أن تكون هذه الفضاءات مرنة تمامًا.
ومع ذلك، يتخذ بعضُ النقاد موقفًا صلبًا من أي اتصال رقمي في الأماكن العامة، ويقول بعضهم إن أي اتصالٍ شبكيٍّ في فضاء حضري يُخرِج المستخدِمَ من هذا الفضاء، ويُخرِجه من سياق العمومية، ويضعه مباشَرةً ضمن شبكاته المألوفة، ويشكِّل هذا تهديدًا خطيرًا للفضاء الحضري ورأس المال الاجتماعي الذي قد يتكوَّن هناك ويخضع للتبادُل (ويلمان، ٢٠٠٢؛ هامبتون وليفيو وجوليت، ٢٠١٠). هذا القلق من توسط التكنولوجيا إدراكنا للمسافة ليس أمرًا جديدًا. وفقًا لليلي زينر، يشير عالِم الاجتماع جورج سيمل في معرض وصفه لتكنولوجيات مثل التليسكوب والميكروسكوب في بداية القرن العشرين، إلى أنها تحوِّل ما كان «غريزيًّا أو في حالة اللاوعي» إلى شيء «أكثر يقينًا ولكنه مُفتَّت … ما كان قصيًّا قبل عصرنا الحالي صار أقربَ، على حسابِ بُعْدٍ أكبر لما كان في السابق أقرب» (زينر، ٢٠٠٣، ص٨١؛ انظرْ أيضًا سيمل وفريسبي، ٢٠٠٤). وطبَّقَ العديد من النقاد هذه الفكرةَ على الهاتف المحمول؛ فمن الحجج التي ساقها البعض أن الهواتف المحمولة تبني ثقةً واتصالًا مع ما هو بعيد، ولكنها تفعل ذلك على حساب ما هو قريب.٥

هذا الموقف يرسخ ترسيخًا قويًّا لفضاء حضري مطبَّع تهدمه التكنولوجيا. وبالرغم من ذلك نجد أن الفضاءات الحضرية مدركة دومًا من خلال الوسيط التكنولوجي. تساهم تكنولوجيات عديدة — مثل الأبنية والسيارات والشوارع واللافتات — في الخبرة بشارع في مدينة؛ فالأمكنة الرَّقْمِيَّة التي تُعَدُّ بالتأكيد تعزيزًا للفضاء الحضري التقليدي — مكوَّنةٌ من تكنولوجيات إضافية تساعد على تشكيل الفضاءات الحضرية. وتُنتِج هذه التكنولوجيات تفاعلاتٍ فريدةً؛ ومن ثَمَ يمتد ذلك إلى تكوين أُطرٍ جديدةٍ للترابط الاجتماعي. فالتواجد المشترك والتفاعل الشبكي لا يتعارض أحدهما مع الآخر، ومع تطوُّر الممارسات التكنولوجية الناشئة، تزداد صعوبةُ وضْعِ ذلك الحد بينهما.

(١) الفضاءات العامة الأثيرة القديمة

استمرت المناظرات القوية حول الفضاءات العامة الحضرية لمدةٍ لا تقل عن قرنٍ. أشار سيمل (١٩٧١) إلى أن الزيادة المطردة في المؤثرات الخارجية التي توجد في كل مكان في المدينة كانت إيجابيةً من أجل ذات حضرية جديدة، ذات قادرة على وضع عوائق أمام الأشياء بإرادتها، وأن يتشكَّل لديها ما دعاه سيمل «سلوكًا غير مبالٍ». هذا الإنسان الحضري، كما وصفه، كان عقلانيًّا وحذِرًا، ولكي يتكيَّف مع أمور الحياة اليومية (كالحديث إلى الغرباء، وشراء الطعام، والذهاب إلى العمل والعودة منه) كان يجب أن يمارس نوعًا من التحفظ الذهني؛ فالمدينة كانت معقَّدةً بهيئتها غير المنقحة؛ لذا كان اتخاذُ سلوك التحفُّظ الذهني ضروريًّا لفصل المواقف الاجتماعية المختلفة عن المواقف والأصوات التي تعجُّ بها شوارع المدن. فكان «التوجه اللامبالي» أداةَ تَكيُّفٍ استخدَمَها الناسُ للتعامُل مع واقع الحياة الْمُدُنِيَّة. ومع أن سيمل كان يوجِّه انتقاداتٍ شديدةً لهذه الذاتية الحضرية الجديدة، فإنه أقَرَّ بالحرية غير المسبوقة التي يتمتع بها الإنسان الحضري. وهكذا أجبرَتِ الحياةُ في الأماكن الحضرية الإنسانَ على ما قد يبدو عقلنة غير طبيعية للحياة اليومية، ولكنها في الوقت نفسه أتاحت حرية أن يكون شيئًا مختلفًا، وأن يكسر قيود حياة البلدات الصغيرة.

بعد مرور ١٠٠ عام، ما زالت مُلاحظات سيمل ذائعة. حينما كتب سيمل ملاحظاته، أشار إلى أن المدينة وما يتصل بها من تكنولوجيات أجبرَتِ الأفرادَ على التكيف ذهنيًّا مع قالبها. كانت الذاتية الحضرية أسلوبًا جديدًا للتعامل مع العالم، وأصبح إخفاءُ الهُوِيَّة والاستثارة الحسية المتزايدة جزءًا ثابتًا من الحياة اليومية. وأقَرَّ سيمل بأنه لا سبيلَ للعودة للوراء؛ إذ بَيَّنَ بوضوحٍ أن الإنسان الحضري لا يمكنه أبدًا العودة إلى العيش بالبلدات الصغيرة؛ لأنه سيشعر بأنه مقيَّد بشدة؛ فكلما ضاقَتِ الدائرة الاجتماعية «ازدادت مراقبة الدائرة بقلق لمُنجزات الفرد، ونهج حياته، وتطلُّعاته للمستقبل». في الأماكن الحضرية الفردُ هو الأهمُّ، والحرياتُ الشخصية التي يتمتع بها في المدن الكبرى مغريةٌ، حتى إنْ تطلَّبَ تحقيقُها مجموعةً معقدة من التكنولوجيات الجديدة.

لا شكَّ في أن سلوك اللامبالاة ذاك ما زال قائمًا؛ فنحن الذين نضع حدودًا لما نستقبله من خلال حواسنا، ونحن الذين نختار بمحض إرادتنا أن نتحاشى أن ننظر إلى رجل مُشرَّد، أو إلى اللافتات الإعلانية الإلكترونية التي تحيط بنا، ونُسَخِّر تكنولوجيات جديدة لمساعدتنا على تلك الانتقائية. وتُعَدُّ الخرائط والأجهزة المحمولة واجهاتٍ مفيدةً نتعامل من خلالها مع هذا العالَم المحيط بنا الذي يبدو مُبهَمًا. ومع ازدياد توافُر المعلومات العالمية عبر الإنترنت، صار ممكنًا أن نعهد ببعضٍ من تلك الانتقائية إلى أجهزتنا المحمولة.

تنتج عن هذا المكانيات الرَّقْمِيَّة؛ فبينما نسخِّر التكنولوجيا للمساعدة على الانتقائية، ننتج معلومات أكثر لتخضع لهذه الانتقائية، بل إننا نُعِيد توجيهَ طبيعة الفضاء المكاني. تمتدُّ الفضاءات الحضرية لتتغلغل في الويب والعكس صحيح. وكما يشير إريك جوردون في كتابه «المُشاهِد الحضري» (٢٠١٠)، دائمًا ما تحفِّز التكنولوجيات الجديدة تغييرًا في الذاتية الحضرية وفي الشكل الحضري، ولا تحفز بالضرورة استبعادَ ما كان موجودًا قبل ذلك. وتتغيَّر الفضاءات الحضرية باستمرارٍ لتتوافق مع الأدوات والممارسات الجديدة؛ فاستحداثُ التصوير مثلًا أدَّى إلى تغيُّر نظرة الناس للمدن، وكذلك فعل أيضًا رواج السينما. ويمثل التزايُدُ المطرد لبيانات الويب وسهولة الوصول إليها منعطفًا مهمًّا جديدًا بالنسبة إلى الفضاءات الحضرية. انتشرَتِ الأمكنةُ الرَّقْمِيَّة بسبب التكنولوجيات التي تتيح للممارسات الحضرية أن تمتد إلى أبعد مما يمكن للمرء أن يلمسه أو يراه. بالطبع، ثمة عواقب لكلِّ تحوُّلٍ تكنولوجي، كما توجد مرحلة من المواءمة الاجتماعية يجري فيها ضبط المعايير الاجتماعية لتتوافق مع وقائع الحياة اليومية.

أشار عالم الاجتماع باري ويلمان إلى تغيير في التفاعلات الاجتماعية يطلق عليه «الفردية الشبكية»؛ حيث يتواصل الناس مباشَرةً أحدهم بالآخَر من خلال الشبكة، ولكنهم لا يتواصلون مع الفضاءات المادية المحيطة بهم. ولاحَظَ آخرون انتشارَ نَزْعاتٍ من «التقوقع الهاتفي» (هابوتشي، ٢٠٠٥)، أو «الاجتماعية الانتقائية» (ماتسودا، ٢٠٠٥)؛ حيث تتفاعل مجموعات صغيرة من الأصدقاء تفاعلًا اجتماعيًّا عبر شبكات رقمية للهواتف المحمولة، ويتجاهلون النطاق العام الأكبر. قدَّمَت الويب منصات جديدة للتفاعل، ومن شبه المؤكد أن تلك المنصات تُغيِّر التفاعلات الاجتماعية في الفضاءات العامة. ومع ذلك، فبقدر ما يمكننا وصف هذه النَّزْعة بأنها انتشارٌ لأسوأ مقومات الحياة عبر الإنترنت، حيث تُختزَل الروابط الإنسانية إلى رموز حاسوبية وانعزالٍ عام، يمكننا أيضًا أن نستوعب هذا على أنه تحوُّل آخَر في مفهوم الفضاء الحضري والحريات (المُدرَكة أو غير المدركة) المتصلة بذلك الفضاء. ولعل الفضاء العام التقليدي في المدن الكبرى أصبح مثل البلدة الصغيرة، التي تبدو فيها الدوائرُ الاجتماعية المتشاركة في التواجُد ماديًّا على نحوٍ تامٍّ صغيرةً بشدة. إن الافتقار إلى الاتصال بشبكةٍ ما، أو إلى إمكانية الوصول إلى معلومات عن المحيط الذي تتواجد فيه، يساويان الانعزالَ عن الإمكانيات الكامنة في الفضاء المكاني. وعلى غرار مدن سيمل الكبرى، تدعم الأمكنة الرَّقْمِيَّة تنظيمًا اجتماعيًّا جديدًا يُسفِر عن النزعة الحمائية للذات، ولكنْ في نفس الوقت، يُسفِر عن قدرٍ من الحرية؛ فالشخص الذي يشارك في مكانٍ رقمي ليس محدودًا بما يحيط به مباشَرةً، ولكن لديه قدرةُ على الاحتكاكِ بقطاعٍ أعرض من المعلومات والناس. ويُقِرُّ سيمل نفسه بأن المدن الكبرى قد وسَّعَتْ من نطاق الأشخاص الواقعين في دائرة التفاعل الاجتماعي وماهية هذا التفاعل. وبينما ما زلنا معتمدين على المجموعات الاجتماعية، يقول سيمل: «لقد أصبحت أمورٌ، مثل الأشخاص الذين يختلط المرءُ بهم والأشخاص الذين يعتمد عليهم، أمورًا اختيارية» (صفحة ١٣٠). فقبلَ الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة، أتاحَتِ المدينةُ للمرء اختيارَ الفضاءات والأشخاص الذين يمكن أن يحتكَّ بهم، وجعَلَ بزوغُ الأمكنة الرَّقْمِيَّة هذا النوعَ من الاختيارية السمةَ الأبرز لفضاء المدينة.

ومع ذلك، لا تُقبَل الأمكنة الرَّقْمِيَّة بالضرورة بوصفها أمرًا طبيعيًّا، بالرغم من أنها أصبحت هي القاعدة؛ فقد لا تزال تبدو باعثةً على التفكك أو غريبة في السياق الاجتماعي الأكبر، وقد تبدو من الخارج فضاءات لا حياة فيها؛ مجموعات من الأفراد المشتركين في تلك الفضاءات وليس لديهم ما يقوله بعضهم لبعض. ولكن الحقيقة أن ثمة قدرًا هائلًا من الفروق الدقيقة في هذه الفضاءات؛ فثمة قدر هائل من التبادل الاجتماعي الذي يشكل ببطءٍ القواعدَ والاشتراطات لهذه الفضاءات الجديدة. وكي نفهم الأمكنة الرَّقْمِيَّة، نحتاج إلى أنْ ننظر إلى ممارسات التكيف الاجتماعي المعينة التي تحدث فيها. كيف يستخدم الناس التكنولوجيات ليتواصلوا مع القريب والبعيد في آنٍ واحد؟ ما قواعد السلوك المعتمَدة في هذه التفاعلات؟ وما القواعد الجديدة الآخذة في الظهور التي تُوَسِّع من إمكانات الفضاءات الحضرية؟

من الناحية التقليدية، كان يُنظَر إلى الفضاءات الحضرية على أنها أماكن مستقلة بذاتها، وكانت التفاعلات الجيدة مع الفضاءات العامة تُعتبر تلك المقصورة على الأماكن المتجاورة تجاورًا ماديًّا. كما يؤكِّد الناقد المعماري بول جولدبيرجر: «أنت لا تُعتبَر موجودًا في شارع ماديسون لو أنك تمسك بجهازٍ صغيرٍ بجوار أذنك يجذبك نحو شخصٍ في أوماها» (٢٠٠٧). الفضاء العام الجيد — في هذا الصدد — هو فضاء يعطيه المرء انتباهَه المطلقَ.

أن يُعِير المرءُ انتباهًا مطلقًا لشيءٍ واحد فقط، يستدعي أن يثق بأنه لن يتعرَّض لخطرٍ نتيجة أنه لا يعير الأمور الأخرى انتباهًا؛ سواء أكان خطرًا على شخصه، أم خطرَ فقدانِ شيءٍ مهم. ولكنْ توجد أنواع مختلفة من الثقة: الثقة بصديق حميم أو شريك الحياة، والثقة الأعم في «الطريقة التي تجري بها الأمور». وهذا النوع الأخير من الثقة سمَّاه روبرت بتْنام (٢٠٠٠) «الثقة الهشَّة». وتختلف هذه عن الثقة القوية، أو «الثقة الراسخة في العلاقات الشخصية القوية المستمرة، والكامنة في شبكات اجتماعية أوسع»، بينما تشمل الثقة الهشَّة «الآخَرَ المُعَمَّم»، و«تستند ضمنًا إلى خلفيةٍ من الشبكات الاجتماعية المشتركة وتوقعات المعاملة بالمثل» (بتْنام، ٢٠٠٠، صفحة ١٣٤). وهكذا، فالثقة الكثيفة هي ما يجعلك تثق بزوجتك عندما تقول إنها ذاهبة لتُقِلَّ الأطفال، بينما الثقة الهشَّة هي ما يجعلك تثق في أن الشخص الذي يسير في الشارع لن يطعنك. قد تتضمن الثقة بالفضاء الحضري — هذا النوع من الثقة الذي يقود إلى إيلاء الانتباه المطلق (أو النية لتحقيقه) — أيضًا الثقةَ بالأشخاص المعهودين الذين يشغلون ذلك الفضاء (كالجيران والأصدقاء وأصحاب المحلات)، بَيْدَ أنه من المُرجَّح أيضًا أن تتضمَّن ثقةً هشةً بالأشخاص المجهولين الذين يتواجدون في الشارع، بل من المحتمل أن تتضمَّن حتى الشارع نفسه.

يمكن تقسيم الثقة الهشَّة إلى فئتين: الأولى ثقة بالمؤسسات أو التكنولوجيات، والثانية ثقة بمستخدمي هذه المؤسسات أو التكنولوجيات. في الفئة الأولى — بقدر ما تتعلَّق بالأمكنة الرَّقْمِيَّة — لا بد أن توجد ثقةٌ بكل التكنولوجيات المتضَمَّنة في الموقف، وذلك يعني الشوارع والمباني واللافتات، بالإضافة إلى أيِّ واجهة رقمية قد تُستخدَم للتفاعل مع الفضاء المكاني. ونحن لدينا ثقة عامة في أنظمة التشغيل والتطبيقات ووظائف معينة بداخل التطبيقات. كذا، نحن نركن في حياتنا العملية وحياتنا الاجتماعية — بدرجة متزايدة — إلى استمرارية أداء هذه التكنولوجيات لِأدوارِها. أما الفئة الثانية من الثقة الهشة فهي الثقة المعممة بالأشخاص الذين يستخدمون التكنولوجيات؛ إذ إن الثقة بأن الشخص الذي يتحدَّث في هاتف محمول متواجِدٌ في موقفٍ ما على نحوٍ مقبول، وليس مشوَّشًا من الناحية الذهنية، تتطلَّب ثقةً بكيفيةِ استخدامِ ذلك الشخص للتكنولوجيا، وليس ثقة بهذه التكنولوجيا فحسب. فلدينا ثقة معممة بأن الهاتف لن يُستخدَم في تفجير قنبلة، كما أن لدينا ثقة معممة بأن السيارات في الشارع لن تَعْبُر الطريقَ لتمضي عكس اتجاه السير، أو لتسير على رصيف المشاة. وبالرغم من أن هذه الأمور تحدث فعلًا، ومع أن هناك خروقات لهذه الثقة، فإنها نادرةُ الحدوث بما يكفي لأنْ نظلَّ بوجهٍ عامٍّ واثقين بأنْ يسلك مستخدمو تلك التكنولوجيا مسالِكَ تفضي إلى فضاءات حضرية فعالة.

يمثِّل الفضاء العام عمليًّا مجموعة من العقود الاجتماعية الصغرى؛ حيث تتحدَّد خبرةُ المجموع عن طريق السلامة النسبية للأجزاء الأساسية. بَيْدَ أن التعقيد المضاف إلى أي فضاء عام بمقتضى استخدام الأجهزة المحمولة سيشكِّل بالتأكيد تحدياتٍ للطقوس الراسخة، التي وُضِعت من أجل التفاعل المادي، وهذا يتطلَّب أنْ يتشارك الأشخاصُ المشتركون في أي فضاء عامٍّ فهمًا عامًّا للتكنولوجيات المستخدمة لإحداثِ أثرٍ في الموقف. فلو أن شخصًا — على سبيل المثال — عمد إلى إحضارِ آلةِ صورٍ مجسمة إلى قطار أنفاق، لَاضْطرَبَ الموقفُ في الغالب الأعم بسبب حداثة التكنولوجيا، ولَمَا كان هناك أساسٌ تنبني عليه الثقة. وكما أصبحت الأجهزة المحمولة جزءًا اعتياديًّا من مشهدنا الاجتماعي، يمكن الآن قبولها داخل الإطار العام للتفاعلات الاجتماعية، ممَّا يمكِّن تكنولوجياتٍ معينةً من إحداث تغييرٍ في الموقف، دون حدوث اضطراب فيه. يرى عالم الاجتماع راندال كولينز (٢٠٠٤) أن المواقف ذات التواجُد المشترك تعتمد على كوْنِ المشتركين «على إدراك متبادل لبؤرة انتباه الطرف الآخَر» (صفحة ٤٨). وهو يعني بذلك أن بؤرة انتباههم يجب أن تكون مُتشارَكة الوجود في الفضاء المادي. إلا أنه مع زيادة إضفاء سمة الطبيعية على التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني، سيجري الإدراكُ المتبادل للانتباه بوسائل متنوعة، من الإيماءات الشفهية التي نصدرها أثناء الحديث مع شخصٍ ما، إلى نقاط «التسكُّع» على خريطة تطبيق «لوبت». بَيْدَ أن طريقة تواصُل الناس بعضهم مع بعض بشأن تشاركهم فضاءً ما، وطريقة دمجهم المعلومات من التكنولوجيات في الطقوس الاجتماعية التي تُكِّون الفضاء؛ تعتمدان على الموقف.

(١-١) ها هو الموقف

نتحوَّل إلى عالِم الاجتماع إيرفينج جوفمان (١٩٦٣) لنستوضح الممارسةَ الفعلية لهذه العقود الاجتماعية الصغرى التي تُعرِّف الأمكنة الرَّقْمِيَّة. قد يبدو الأمر كمقارَبةٍ منافيةٍ للبديهة؛ إذ إن جوفمان كان مُنَظِّرًا للتفاعلات المادية المباشرة، وكان شاغله الأول هو وحدة تحليلٍ يدعوها «الموقف»، أو «البيئة المكانية الكاملة في أي مكان». ولكن بينما يولي جوفمان اهتمامًا قليلًا للتفاعلات من خلال الوسائط، فإنه يقدِّم إطارًا خصبًا جدًّا يمكننا من خلاله أن نتناول هذه المسألةَ. ثمة طقوس اجتماعية تشكِّل كلَّ موقفٍ، وهذه الطقوسُ تنظِّمها مجموعةٌ من التوقعات والإجراءات المتولِّدة عن الوفاء بهذه التوقعات.

يُقِرُّ جوفمان بأن المجتمع لديه توقُّع بأن الفضاءات الحضرية تتألَّف من الانتباه التام لكل فرد، ولكنه يسرع في الإشارة إلى أن التفاعل — حتى في الأمور المهمة مثل الفضاءات الحضرية — متغيِّر على نحوٍ كبير، وعادةً ما يتكوَّن من نوعَيْن من الاستغراق: المُسيطر والتابع. وفقًا لرأي جوفمان، «الاستغراق المُسيطر هو ذلك الاستغراق الذي يُجبِر فيه الظرفُ الاجتماعي الفردَ على أن يكون مستعِدًّا للإقرار بمطالباته، بينما الاستغراقُ التابع هو الذي يُتاح فيه للمرء أن يتحمَّله فقط بقدر ما، وحينما لا يكون انتباهُه مطلوبًا من قِبَل الاستغراق المسيطر» (عام ١٩٦٣، صفحة ٤٤). في الفضاءات الحضرية، يكون الموقفُ الناشئ عن التداخُل المادي للأشياء والأشخاص مُهيمنًا في معظم الحالات. عندما نقف بجانب أشخاص آخرين، حتى إنْ كان ذلك في سياقاتٍ غير حميمية مثل التواجُد في الشارع العام، نتوقَّع أن يكون الاستغراق المُسيطر هو الفضاء المادي والشخص المجاور. ومع ذلك، في الأمكنة الرَّقْمِيَّة، نسلِّم بأنه توجد منافذ أخرى للاستغراق، ونقبل بها، ولكنْ بالقدر الذي لا تصطدم فيه بالنظام القائم للاستغراق المُسيطر.

عندما يصطدم شخصٌ منشغلٌ بإرسالِ رسالةٍ نصية أثناءَ سَيْرِه بشخصٍ آخر، فهذه إساءة واضحة للتوقعات الاجتماعية. وعندما ينتقل شخصٌ إلى جانب الرصيف المزدحم ليرسل تلك الرسالةَ النصية، فإن التوافق بين الاستغراقَيْن المُسيطر والتابع لا يكون بنفس القدر من الوضوح؛ فذلك الشخص يُقصِي نفسه إقصاءً صوريًّا عن استغراقه المُسيطر في الفضاء المادي، ولكنه لم يتسبَّب في أي أذًى ولم يتعرَّض لأي إصابة، ومع ذلك فهو يتجاهل ظاهريًّا التزامَه بأنْ يشارك في المظاهر الخارجية لفضاء يبدو عامًّا حقًّا. نحن نفعل ذلك طوال الوقت، بمساعدة الأجهزة المحمولة أو دونها؛ فالقراءة في قطارٍ تُقْصِي المرءَ عن الاستغراق المسيطر للفضاء، والتجوُّلُ بجهاز «آي بود» يؤدي إلى النتيجة ذاتها. بل إن الاستغراق في أحلام اليقظة أثناء الوقوف على زاويةِ شارعٍ يمكن للحظةٍ أنْ «يَختطف الشخص من المكان». بَيْدَ أن هناك حلًّا وسطًا ينشأ عندما «ينصرف» الشخص، ولكنه يفعل ذلك مع احتفاظه بالاستغراق المسيطر للفضاء المحلي. يشير جوفمان إلى أنه عندما يبدو الناس وكأنهم قادمون من مكانٍ ما أو ذاهبون إليه، فإنهم يُظهِرون «هدفًا يترك بؤرةَ الانتباه الحقيقية شاغرةً لأشياء أخرى؛ إذ يقع مقصد المرء — ومن ثَمَّ استغراق المرء المسيطر — خارجَ نطاقِ الموقف» (١٩٦٣، صفحة ٥٦). في هذه الحالة، يوجد انفصال بين الاستغراق المسيطر التقليدي للفضاء المادي وبؤرة انتباه الشخص التي تبقى خارجه. لكنْ ماذا يحدث عندما يتركَّز انتباهُ الشخص على خريطةِ المكان الذي يوجد فيه، أو على شخصٍ من شبكته الاجتماعية تصادَفَ وجودُه في الشارع؟ الاستغراقُ المسيطر ليس محدودًا بالموقف المادي؛ إذ من الواضح أن الموقف المادي يظل متكامِلًا مع الموقف الأكبر. فتصفُّح التعليقات على خريطةٍ لجهاز «آي فون» يشتِّت لحظيًّا انتباهَ المرء، ولكنْ مع وجودِ هدفِ إعمالِ ذلك التشتيتِ على الموقف المادي. وبينما قد يبدو من سلوك الشخص «أنه متكاسل»، كما يصف جوفمان هذا السلوك، فإنه في واقع الأمر يوسع عمدًا نطاقَ الموقف المكاني.

إلا أن الأمر قد لا يكون مهمًّا. تطلُّعُ المرءِ إلى جهاز في موقفٍ يتوقَّع فيه الأفراد المتواجدون معه أن يُظهِر الانتباه للفضاء المادي قد يبدو تشتيتيًّا بغضِّ النظر عن نية الفرد. ومن ثَمَّ، فالمستخدم عادةً ما يكون مسئولًا عن الحفاظ على موقفَيْن منفصلَيْن، ولكلٍّ منهما مجموعةُ قواعد تستدعي الالتزامَ بها. ثمة قاعدة في الفضاء المادي بشأن «كون المرء بلا هدفٍ، أو منفصلًا»؛ ونتيجةً لذلك، يستغل المستخدمون «الاستغراقات غير المضنية ليُسَوِّغوا أو ليخفوا الرغبةَ في التكاسُل، كطريقةٍ لحجْبِ تواجُدِ المرء المادي في موقفٍ ما بغلافٍ خادعٍ من التظاهُر بالقيام بنشاطٍ ظاهر مقبول» (١٩٦٣، صفحة ٥٨). قد يعني ذلك أن يجلس المرء على مقعد، أو أن يقف في ركنٍ قريبٍ حاملًا هاتفه المحمول. وفي سياق الأمكنة الرَّقْمِيَّة، ثمة قواعد أيضًا؛ فهناك آدابُ سلوكٍ تخصُّ التوقُّفَ عمَّا تفعله وتسجيل دخولك في شبكة اجتماعية معتمدة على الموقع، وهناك محاذير بشأن تجاهُل أحد الأشخاص «القريبين جدًّا» في شبكتك. لو أن شخصًا ما متواجِدٌ على بُعْدِ مربعٍ سكنيٍّ واحد، فمن الفظاظة نوعًا ما أن تتجاهله. هذا الموقف يستدعي أن يُخْفي المستخدم استغراقَه بأنْ يبدو «منشغلًا بطريقة أخرى»؛ فيمكنه مثلًا أن ينشر تحديثًا مثل «أنا في اجتماع الآن»، أو «أنا في عجلةٍ من أمري الآن لِلَّحاق بالقطار». في الأمكنة الرَّقْمِيَّة، يكون الفضاء المكاني هو الاستغراق المسيطر، ومع ذلك فالفضاء المكاني ليس على الدوام ماديًّا فقط. في الفضاء المادي للشارع، تؤثِّر التكنولوجيا على تقدير المرء «للموقف». الفضاء المادي هو الاستغراقُ المسيطر، حتى عندما يكون انتباهُ المرء موجَّهًا صوب شاشةٍ ما.

ونتيجةً لذلك، في الأمكنة الرَّقْمِيَّة يظل ترابُطُ الموقف المادي قائمًا، بينما ينطلق انتباهُ المستخدم نحوَ بيئةٍ من بؤر الانتباه لا تتميَّز بالتساهُل فحسب، بل تكون بنَّاءةً أيضًا حيال خبرةِ الفضاء الحضري ومظهره. ذلك الشخص في الشارع قد يكون منشغلًا بإرسالِ رسالةٍ نصية إلى زميلٍ له في أقاصي الأرض، وبالرغم من ذلك فإنه أيضًا قد يكون منشغلًا في البحث عن معلوماتٍ ترتبط بالمكان الذي يتواجد فيه حاليًّا — من تعليقات الآخرين وآرائهم حول مطعمٍ ما، إلى التاريخ الحضري لذلك المكان — أو قد يكون في حالةِ تواصُلٍ مع شخصٍ تصادَفَ وجودُه في مقهًى على الجهة الأخرى من الشارع؛ فتركيبةُ الأمكنة الرَّقْمِيَّة يمكن أن تسمح بمجموعة كبيرة متنوعة من بؤر الانتباه ما دام الموقفُ المادي ليس مُغْفَلًا (كما في حالةِ كاتبِ الرسالة النصية الذي يصطدم بشخصٍ آخَر). والواقع أنه مع تحوُّل المعايير المقبولة للفضاء الحضري لتستوعب هذا التنوُّعَ، سوف تتبدَّل التوقعات معها؛ ومن ثَمَّ فالأمكنةُ الرَّقْمِيَّة هي فضاءات يمكن للمرء فيها أن يغيِّر بؤرةَ انتباهه خارجَ إطار الموقف المادي؛ وذلك لأنه من المفهوم أن الموقف أرحبُ كثيرًا من مجردِ كونه قريبًا ماديًّا.

(٢) «الإفلات بالانصراف»

بينما أعرَبَ سيمل عن أسفِه لأن المدن الكبرى تجبر الأفرادَ — شرطًا لتمتُّعهم بحريتهم — على أن يحموا أنفسهم باستخدام توجه لا مبالٍ، وهي وسيلة للتعامل (أو تجنب التعامل) مع العالَم تتَّسِم بتحفُّظٍ عقلانيٍّ ومحسوب، تناوَلَ جوفمان معضلةَ الاستغراق المستمر والمكثَّف في الفضاءات العامة الحضرية من زاوية مختلفة، لكنها كانت إطرائيةً. بدلًا من افتراض وقوع تغييرات دائمة في حالةٍ عقليةٍ، للتعامل مع حالة الفوضى المستمرة في المدن الكبرى، لاحَظَ جوفمان أنه في المواقف الاجتماعية العامة، يتعلَّق الناس بفُرَصِ الهروب ولو لحظيًّا، وأطلَقَ على هذا اسم «الانصراف (الذهني)».

عند المشاركة خارجيًّا في نشاطٍ اجتماعيٍّ ضمن موقف اجتماعي، يمكن للفرد أن يسمح لانتباهه بالإعراض عمَّا يعتبره — وما يعتبره الجميع — العالَمَ الحقيقي أو العالَمَ الجادَّ، ويسلِّم نفسَه، لفترةٍ من الزمن، لعالَمٍ خيالي يكون هو المشارك الوحيد فيه. هذا النوع من النزوح الداخلي عن الجَمْع يمكن أن يُطلَق عليه «بعيدًا» (١٩٦٣).

كان معنى «بعيدًا» عند جوفمان، انسحابًا ذهنيًّا إلى فضاء آخر، وكان معناها أيضًا امتناع التواجُد في الموقف. لكنها لم تتضمن اضطرابًا للموقف بالضرورة. يمكن للأفراد أن «يبتعدوا»، ومع ذلك يظل الطقس الاجتماعي الذي ينظِّم الموقفَ على حاله؛ فمثلًا: أنْ يترك المرءُ عقله يهيم بينما يسير على رصيف مزدحم، غالبًا ما تساعد على حدوثه مطالَعةُ لافتةٍ إعلانية أو مجلةٍ أو هاتفٍ محمول، وهذا ما يدعوه جوفمان «الانصراف دون لوم» (١٩٦٣، صفحة ٧٠). فنحن نركِّز الانتباهَ على أشياء في البيئة المادية لنُكوِّن الانطباعَ بأن انتباهنا قد انصرف لِمجرد لَحْظَة عن الموقف.

أو أنه أصبح شائعًا أن يبدأ الناس من حالة «بعيدًا»، حتى يتمكنوا من السيطرةُ على اختيارِ توقيتِ العودة. لنأخذ على سبيل المثال موقفَ استخدام سماعات الأذن ومشغِّل الوسائط الرَّقْمِيَّة في زاوية شارع مزدحمة: إذا صادَفَ المرءُ أحدَ الأشخاص الذين يعرفهم معرفةً سطحيةً أثناء انتظاره عبورَ الشارع، وكان ذلك الشخص يضع سماعات بيضاء تتدلَّى من أُذنَيْه، فمن المقبول أن يسلك مسلكًا مختلفًا في الموقف؛ إذ يمكنه أن يبتسم ويُومِئ برأسه دون أن ينزع السماعات من أذنَيْه، وبعد ذلك يشيح بوجهه ثانيةً. أو يمكنه، إنْ كان يريد حقًّا أن يتحدَّث إلى مخاطبه، أن ينزع السماعات من أذنَيْه ويتجاذب معه حديثًا من تلك الأحاديث القصيرة التي تستلزمها هذه المقابلات العابرة. من ناحيةٍ أخرى، إنْ لم يكن يضع سماعات الأذن على الإطلاق، ولم يُرِد أن يبدو مُسِيئًا، فسيكون من الملائم له أن يسلك الاختيارَ الأخير؛ فالتقاليدُ الاجتماعية تمنعه من الإعراض بوجهه وتجاهُل اللقاء تمامًا. وفي هذه الحالة تقدِّم التكنولوجيا وسيلةً لتصفية المدينة، أو صنع مظهرٍ خارجي من التحفُّظ الذي أشار إليه سيمل، ولكنْ بالطريقة التي تُمكِّن الفردَ من المشاركة في الموقف بحسب ما يرتئيه.

يبدأ الفرد في هذا المثال من وضع «بعيدًا» وبدلًا من أن ينصرف دون لوم، فإنه يكون بعيدًا دون لوم. والمرجح في هذه الحالة أن استغراقه المسيطر هو في مكان آخر بخلاف الموقف المكاني. يُظهر هذا المثال أهميةَ ممارَسةِ السيطرة على قواعد التفاعل من أجل الشعور الفردي بالسيادة على فضاء ما، ولكنها لا تؤدِّي إلى فضاءات عامة جيدة. تمثِّل الأمكنة الرَّقْمِيَّة، مقابل ذلك، فضاءات يمارس فيها الأفرادُ سيطرةً على المعلومات، وفي الوقت ذاته يُبقُون استغراقهم المسيطر محليًّا. وحتى عندما «ينصرفون» عن الموقف المادي ليستعرضوا رسائلَ على هواتفهم المحمولة، فإنهم يستخدمون الموضعَ المحلي الذي هم فيه لينظموا استغراقهم في الواجهة الرَّقْمِيَّة. ومع أنه يظل هناك قواعد اجتماعية تنظِّم الفضاءات المادية والرَّقْمِيَّة تنظيمًا لا ارتباطَ فيه بين الاثنتين — لأن الاستغراق المسيطر واحدٌ في الحالتين — فإنه يوجد تخفيفٌ من ناحيةِ نوعِ الرقابة التي يتلقَّاها كلُّ موقف. لو أن ثلاثة أشخاص يسيرون في الشارع ويبحثون عن مطعمٍ، و«انصرف» أحدهم لينظر في تطبيق «يِلب» على هاتف «آي فون» الذي يمكنه أن يجد فيه تقويمات للمطاعم القريبة، فمن السهل أن «يفلت بانصرافه» دون لوم؛ حيث من المفهوم أن مغادرته للموقف المادي هي من أجل الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة.

كما يوضِّح جوفمان:

في الأماكن العامة، مسموح لنا إلى حدٍّ ما أن نستغرق مليًّا في حديثٍ مع الآخرين الذين نكون معهم، شريطةَ ألَّا يؤدِّي ذلك بنا إلى تعطيل المرور أو التعدِّي على حقوق الآخرين الثابتة، وكأنَّ من المفترض أن قدرتنا على مشاركة الحديث أحدنا مع الآخر تعني ضمنيًّا أن بإمكاننا مشاركته مع الآخرين الذين يروننا نتحدَّث. ولذلك أيضًا، يمكننا أن نُجْرِي محادَثةً بصوتٍ مرتفعٍ باستخدام هاتفِ شارعٍ غيرِ معزول في حُجَيْرة، بينما ندير ظهورَنا لحركة سَيْر المشاة، أو نشاهدها بذهن شارد، مستخدمين عباراتٍ يُعتقَد أنها غير لائقة؛ لأنه حتى إنْ كانت مشاركتنا مع الآخر ليست ماثلةً للعيان، يمكن افتراض أن تحدث مشاركة أخرى طبيعية، ويوجد تبرير لذلك فيما يخص المكان الذي ذهبنا إليه، إدراكيًّا. وإضافةً إلى ذلك، هذا «المكان» هو مكان مألوف يمكن أن نُستَدعى إليه بحق إذا لزم الأمر. (١٩٨١، صفحة ٨٦)

يتحدَّث جوفمان عن المحادثات عبر وسيط، ولكن الأمر المهم في هذا المثال ليس ما هو في الطرف الآخر من هاتف الشارع غير المعزول في حُجَيْرة، ولكنْ أنَّ الشخص الذي يتحدَّث في الهاتف قد انصرف إلى مكانٍ مألوف. وما دام الأشخاصُ الآخرون المشتركون في هذا الموقف يستوعبون إلى أين انصرف، فمن غير المحتمل أن يُحْدِث فعْلُ الانصراف اضطرابًا للموقف. في حالةٍ من الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة، إذا ما غادَرَ المرء — كوسيلةٍ لتحسين التفاعل المحلي، وأوضَحَ بطريقةٍ مُقْنِعة استمرارَه في حالة استغراقه المسيطر — فمن السهولة بمكانٍ أن «يُفلت بانصرافه» دون لوم.

ولنتأمَّلْ في مثالٍ في هذا الصدد: سيدة جالسة في مقهًى تتناول كوبًا من القهوة مع صديقتها، وما إن تشرع في الردِّ على سؤالٍ من صديقتها عن عائلتها، يُصْدِر هاتفها — الموضوع على المائدة — أزيزًا؛ فتتوقَّف السيدة في منتصف الجملة ولا تُكْمِلها وتتوجَّه بناظرَيْها إلى هاتفها لتطَّلِع على الرسالة الواردة، وتُمِيل الهاتفَ بزاوية ٣٠ درجة لتنظر إلى الشاشة، فترى أنْ قد جاءها تنبيهٌ من شخصٍ تصادَفَ تواجُدُه في مطعمٍ على الجانب الآخَر من الشارع، وبينما هو في المطعم رأى التحديثَ الذي نشرَتْه على تطبيق «فورسكوير»؛ فتتوقَّف لوهلةٍ، وتبعث برسالة نصية موجزة، وتضع الهاتف جانبًا. أما صديقتها — التي يبدو الضيق عليها جليًّا — فتُرجِع ظهرَها للوراء وهي جالسةٌ على مقعدها بينما تبعث صديقتُها بالرسالة. وبمجرد أن تنتهي السيدة من رسالتها، توضِّح لصديقتها أن صديقتَها الأخرى — وهي من المعارف المشتركين — بالجوار وتريد أن تمر بالمقهى لتُلقِي التحية. بعد هذا التفسير، تنكسر حدةُ التوتر سريعًا ويتجه الحديثُ إلى حال هذه الصديقة المشتركة. في هذا المثال، تَغيَّرَ الموقف تغيُّرًا ملحوظًا بسبب هذه «المقاطعة»، ولكنْ لأن مبرِّرَ «الانصراف» وُجِّه إلى الموقف المحلي، كان سهلًا جدًّا لها أن تفلت بذلك.

والآن لَنتأمَّلِ المثال التالي: تلك السيدة نفسها جالسةٌ في المقهى نفسه وتتحدَّث إلى الصديقة نفسها، وفي منتصف جملتها، يرن الهاتف، فتتوقف، وتنظر إلى الرقم الوارد، وتستقبل المكالمة، وترفع إصبعًا واحدًا وتحرك شفتيها — بلا صوت — بجملة قصيرة: «لحظة واحدة.» تقولها لصديقتها المتواجدة معها تواجُدًا ماديًّا، وتستمر في الحديث مع صديقتها الأخرى على الهاتف عن خططهما للأسبوع القادم. في هذه الحالة، تنقل استغراقها المسيطر بعيدًا عن الفضاء المحلي الذي تتواجد فيه، ولا نية لديها لتبرير غيابها، وتختصر المحادثة الهاتفية وتعود إلى الموقف المادي بجملة: «أعتذر عن ذلك، لقد كنتُ أحاول الاتصال بها لأسابيع.» فتبتسم صديقتُها وتواصلان الحديث. مع أن المكالمة الهاتفية لم تُعطِّل الموقفَ تعطيلًا دائمًا، وأن السيدة قد أبدَتْ مراعاةً لصديقتها المتواجدة معها تواجدًا ماديًّا، فإنها لم تدمج المكالمة الهاتفية في الموقف المحلي الذي كانتا متواجدتين فيه. ثمة طرقٌ عديدة كان من الممكن أن يئول إليها هذا اللقاء، تتراوح بين البراءة النسبية، وبين الفظاظة الصريحة (بلانت، ٢٠٠١). ولكن في المثال السابق، انفصلت المكالمة الهاتفية عن الموقف المحلي؛ فالمكالمة تجرى بمعزلٍ عن الفضاء. أما في الأمكنة الرَّقْمِيَّة، فمع حاجةِ المرء إلى «الانصراف» لينهمك في استخدام جهازٍ ما، فإن الانصراف في تلك الحالة يعزِّز الاستغراق المسيطر بالمحلِّي.

توجد طرق عديدة لاستخدام التكنولوجيا للحدِّ من موقف اجتماعي أو تنميته. يدرس كيث هامبتون ونيتي جوبتا (٢٠٠٨) استخدام شبكات «واي فاي» العامة في المقاهي باعتباره وسيلة لاكتشافِ بعض تلك الطرق، وأسفَرَ بحثهما عن نتائج متفاوتة؛ فهما يحذِّران ممَّا يدعوانه «نزعة الخصوصية العامة»، ويضعان فرضية أن «شبكات «واي فاي» في الأماكن العامة ستصبح مكوَّنةً من شرانق للتفاعُل، تنتفع بها الروابط الحميمة القائمة بالفعل، وتُصْرِف المرءَ عن أيِّ تفاعُلات مع الآخرين الذين يشاركونه المكان المادي نفسه، وتؤدي في نهاية الأمر إلى تعزيز النزعة القائمة نحو الخصوصية». ولكنهما يزعمان أيضًا أن العكس قد يكون صحيحًا؛ وهو أن الناس قد يستخدمون التكنولوجيا لينخرطوا انخراطًا أشدَّ في الأماكن التي يشغلونها. في دراستهما عن المقاهي في بوسطن وسياتل، حدَّدَا نوعين من مستخدمي شبكات «واي فاي»: الأول سمَّيَاه الأجهزة المحمولة البشرية، وقصَدَا بذلك الأشخاص الذين يستخدمون المقاهي بوصفها «خلفيةً لنشاطاتٍ تتركز حول إنهائهم لأعمالهم»، والنوع الثاني صانعو المكان، الذين «يستخدمون الكمبيوترات المحمولة بوصفها مقدمة منطقية للدخول في «الصخب الاجتماعي» للفضاء والانخراط فيه». وبينما يستخدم نوع «الأجهزة المحمولة البشرية» الكمبيوترات المحمولة درعًا يحميه من التفاعل مع العامة، يستخدمها صانعو المكان مبرِّرًا للاندماج في المشهد؛ إذ يبدون متلهفين للانخراط في حديثٍ حول ما يفعلونه، وتقديم مداخل للآخرين مثل النظر من فوق شاشاتهم، وحتى تغيير اتجاه شاشاتهم كي يتمكَّن الآخرون من مشاهدة ما يفعلونه. ينصرف الجهاز المحمول البشري إلى جهازه بغضِّ النظر عن الموقف المحلي المحيط به، بينما ينصرف صانع المكان ليجذب الانتباه المحلي. إن هذه الدراسة مفيدة؛ لكونها تسترعي الانتباه لوجود توجُّهات متباينة لاستخدام التكنولوجيا ذاتها، وهي في هذه الحالة الكمبيوترات المحمولة. يكمن التباين بين التوجهات بالكلية في مقاصد مستخدم التكنولوجيا وطريقة توصيل تلك المقاصد في سياق الموقف المحلي. بعبارة أخرى، الأمر كله يدور حول الأداء.

(٣) الأداء على الملأ/أداء الملأ

المعلومات ليست مجرد شيء يُستهلَك. إدراكُ المرء للمعلومات القريبة (وكذلك الأشخاص) يمكن أيضًا أن يكون سياقًا للأداء. عندما وصَفَ خبيرُ تخطيطِ المدن وليام وايت «الفضاءات العامة الجيدة»، أشارَ إلى ساحةِ مبنى سيجرام في مانهاتن؛ حيث «يمكن، في يومٍ صافٍ، أن يتواجد مائة وخمسون شخصًا يجلسون، ويتشمسون، ويتنزهون، ويتبادلون أحاديثَ عابرةً؛ كالنميمة الفارغة، والتحدث «بكلامٍ فارغٍ»» (١٩٨٠). من وجهة نظر وايت، كانت الطبيعة العامة للفضاء المكاني هي المظهر الخارجي لأناسٍ يترابطون أحدهم مع الآخر، حتى لو لم يكن لهذه التفاعلات محتوًى (أي «كلام فارغ»). لقد اعتقد المعماريون ومخطِّطو المدن اعتقادًا تامًّا في هذا التمثيل للفضاء العام، حتى إنهم حاولوا محاولاتٍ حثيثةً لعقودٍ أن يُعِيدوا بناءَ فضاءات مماثلة، في الواقع الفعلي وليس في المظهر فقط، عن طريق تصميم تقاطعات المارة وأثاث الشوارع كي يصنعوا الانطباعات المناسبة (لاتشيزي وماكورميك وهيئة التخطيط الحديث للمدن، ٢٠٠٠). هذا التصور للفضاءات العامة يمتلك أيضًا تاريخًا طويلًا في العالم الرقمي؛ فمنذ تسعينيات القرن الماضي، قدَّم مصمِّمو غُرَفِ الدردشة ومصمِّمو ألعابِ الزنازين أو النطاقات والألعاب المتعددة المستخدمين الموجَّهة نحو هدفٍ محددٍ؛ بتقديم فضاءات أعطت انطباعًا بكونها عامة (ديبل، ١٩٩٣؛ رينجولد، ١٩٩٣). فمثلًا، الفضاءات الخاصة بمجتمع «لامباداموو» على الإنترنت كان يشار إليها بوصفها «غرف نوم»، وإلى الفضاءات العامة بوصفها «غرف معيشة». كان المقصد هو خلق فضاءات للمحادثات العَرَضية، وللمصادفات السعيدة، يلتقي فيها الناسُ بعضهم ببعض مصادفةً بوَحْيٍ من «الفضاءات العامة الجيدة».

وهكذا، بينما كانت الفضاءات العامة الجيدة فضاءات اجتذبَتِ البعضَ إلى محادثات عَرَضية، فإن الفضاءات العامة الرائعة هي التي أوجبَتْها. لذا يشير وايت إلى الساحات العامة في مركز روكفلر في وسط مدينة مانهاتن بأنها أماكن رائعة، وسببُ روعتها أنها حافظَتْ على شهرتها من خلال العروض. وعلى الرغم من الرأي الشائع، فإنه يقول:

تتكون «الساحة السفلية» من جزء واحد فقط، وهي ليست المكان الذي يتواجد فيه معظم الناس، فمعظم الناس يتواجدون في مدرجات مسرح مُدرَّج. ومع ذلك فالناس في الساحة السفلية هم أنفسهم الذين يجتذبون الناس للمكان؛ ففي الشتاء هناك التزلج، وفي الصيف يتحوَّل المكان إلى مقهًى في الهواء الطلق وعروض موسيقية. ويتواجد الجزء الأكبر من الناس — عادةً حوالي ٨٠ بالمئة — في الأعلى؛ حيث السياج بامتداد الشارع، وبطول المستوى المتوسط بين الشارع والساحة السفلية، أو في الممشى الرحب الذي يبدأ من الجادة الخامسة. (وايت، ١٩٨٠، صفحة ٥٩)

مع ثنائه على هذا الفضاء، يُبْدِي وايت أسفَه لأنه يُساء فهمُه كثيرًا؛ فالمعماريون يقتبسون باستمرار من تصميم الساحة، ولكنْ من أجل خلق فضاء للجمهور، يصمِّمون عادةً تصميمًا مطابقًا للساحة السفلية فقط، لكنه خالٍ من السياق؛ «فينتهي المطاف بهم إلى أنْ تصير لديهم خشبةُ مسرحٍ بلا مكانٍ للجمهور، أو ملعب بلا مدرجات، ثم يتساءلون عن الخطأ الذي وقع» (١٩٨٠). إن مشاهدة عرضٍ ما (أو المشاركة فيه)، سواء أكان رسميًّا أم غير رسمي، هي أحد الأمور التي تعطي نجاحًا للفضاءات العامة؛ فمشاهدة المتزلجين على الجليد من الجادة الخامسة هي أحد الصور المقبولة للانصراف. وبالتأكيد التزلُّج على الجليد في مركز روكفلر، باعتباره نوعًا من العروض هو أيضًا نوعٌ من الانصراف. ففي الموقف المثالي، يمكن لشاغل الفضاء المكاني أن ينتقل بسلاسةٍ شبه كاملة بين هذين النوعين من الممارسات.

fig26
شكل ٤-١: الساحتان العلوية والسفلية بمركز روكفلر في فترة أعياد الكريسماس. حقوق طبع الصورة إد يوردون ٢٠٠٩، http://creativecommons.org.

يقر جوفمان (١٩٥٩) بأهمية الأداء في التفاعلات اليومية، ويمضي بعيدًا لحد استخدام التشبيهات الضمنية لخشبة المسرح بمنطقتيها الأمامية والخلفية؛ فالناس أثناء تواجدهم على خشبة المسرح يسلكون مسلكًا تُمْلِيه عليهم قواعدُ وأنظمةُ الأداء المسرحي، فيظل الممثلون ملتزمين بالنص المسرحي، ويتوقَّع المشاهدون منهم أنْ يفعلوا ذلك، ولكنهم ليسوا مُجْبَرين على أن يظلوا على خشبة المسرح؛ إذ يمكنهم التراجُع إلى الكواليس حيث تكون الأنظمة الاجتماعية غير مُراقَبة بشدة كما هي على خشبة المسرح. بعد انتهائه من أحد المشاهد، يمكن للممثِّل أن يغادر خشبةَ المسرح ويشتكي إلى عمال المسرح أن «الجمهور يبدو حقًّا غير مستجيب الليلة». ومع ذلك، عندما يعود إلى خشبة المسرح، من المتوقَّع أن يُضمِر هذا الرأي. يصف جوفمان في أحد الأمثلة نادلًا، يتصرَّف هذا النادلُ عندما يكون في غرفة الطعام (المنطقة الأمامية) تصرفاتٍ مختلفةً عن تصرُّفاته عندما يكون في المطبخ (المنطقة الخلفية)؛ فيتحدَّث إلى زبائن المطعم بطريقةٍ وإلى النُّدُل والعاملين بالمطبخ بطريقةٍ مختلفة تمامًا. الأمر المثير للاهتمام حقًّا في هذا الموقف هو أن كل الممثلين يفهمون التمايُزَ بين المنطقتين الأمامية والخلفية، وزبائن المطعم يعلمون أن النادل قد يتراجع إلى المنطقة الخلفية ويتكلم على نحوٍ مختلف، وبالطبع يعرف العاملون بالمطبخ أن النادل سيكون عليه أن يؤدي عرضًا عندما يصبح «على خشبة المسرح». يظل العرض ثابتًا ما دامت المناطق واضحةً، فإذا سُمِع حديثُ المطبخ — عَرَضًا أو عمدًا — في غرفة الطعام، فساعتَها يحدث اختلالٌ في أداء العرض. فَلْننظُرْ مرةً ثانية إلى ما يجعل مركز روكفلر ناجحًا. ذلك ليس فقط لوجود ساحتين: واحدة لمؤدِّي العرض، والثانية للمتفرجين. ولكنها «فضاء عام رائع»؛ لأن المرء ليس مُجبَرًا أنْ يصبح إما على خشبة المسرح وإما خلفها. توجد انسيابية بين الفضاءيْن؛ حيث يمكن أن يتحوَّل الأداء إلى مشاهدة، وتتحوَّل المشاهدة إلى ما يبدو كأنه مشاهدة بينما يلتفت المرء إلى أمور أخرى. وكِلا فِعْلَيِ الأداء أو المشاهدة يُحِيل إلى الآخَر؛ ففي هذه الحالة يكون الموقف المحلي مركزيًّا.

يضيف عالم الاجتماع جوشوا ميرويتز (١٩٨٥) عنصرًا إضافيًّا مثيرًا للاهتمام إلى معادلة جوفمان؛ فهو يزعم أن جوفمان يفرط في الاعتماد على الاستعارات التجسيدية في توضيحاته، وأن التمايُزَ بين المنطقتين الأمامية والخلفية في الواقع يمكن أيضًا أن يُفرَض عن طريق «تدفُّق المعلومات»؛ فالانتقالُ بين خشبة المسرح والمنطقة الخلفية في مثال جوفمان متقيد تقيُّدًا حرفيًّا بالفضاء المكاني؛ إذ إن الممثل مجبورٌ على التنقُّل من فضاء إلى آخر. بينما يزعم ميرويتز أن «أنماط تدفق المعلومات، سواء أكانت مباشِرةً أم عبر وسيط، تساعد على تحديد الموقف ودلالات الأسلوب والأفعال المناسبة» (١٩٨٥). بعبارةٍ أخرى، طبيعةُ الأداء — التي تحدِّدها جزئيًّا البيئةُ المادية للمكان — يمكن أنْ تتأثَّر بتغيُّرٍ معلوماتيٍّ في الموقف، على سبيل المثال: يستخدم ميرويتز مثالَ كبيرِ النُّدُل الذي يدخل إلى المطبخ، وفجأةً تتحوَّل المنطقةُ الخلفية إلى خشبةِ مسرحٍ، والنظامُ الاجتماعي المسترخي المتوافق مع حديث المطبخ يتبدَّل الآن، وتبعًا لذلك يصبح النادل مُجبَرًا على إعادة ضبط أدائه. أو يمكننا، في بعض الحالات، أن نتخيَّل أنه بدلًا من ثنائية المنطقتين الأمامية والخلفية، يتواجد داعٍ لإنشاء ما يطلِق عليه جوفمان «خشبة مسرح ثنائية» (جوفمان، ١٩٥٩).

بَيْدَ أنه بدلًا من وجود منصَّتَيْن، فإن الأمكنة الرَّقْمِيَّة في حد ذاتها تتطلَّب أداءَ عرضٍ لجمهورَيْن على منصة واحدة؛ فلكي تلعب لعبةً مثل «بوتفايترز» (التي ذُكِرت في الفصل الثالث)، يستلزم ذلك أن يؤدي اللاعب أمام اللاعبين الآخرين، بينما يؤدِّي أمام المشاهدين الذين يتشاركون معه في الشارع المادي. ويمكن أن يتعقَّد الموقف بأنْ يكون لاعبو «بوتفايترز» في الجانب الآخر من المدينة، أو أن يتشاركوا المربع السكني نفسَه معه؛ لذا فالتمييزُ بين القريب والبعيد في هذه الحالة قد أصبح مشوَّشًا؛ إذ إن اللاعبين البعيدين يمكن أنْ يكونوا مشتركين في التواجُد رقميًّا على شاشةِ الهاتف المحمول للاعب، وعلى ذلك يمكن أن يُوصَفوا بأنهم «مشاركون» في الموقف المحلي. وإضافةً إلى ذلك، ثمة توتر آخر يطرأ بين الأشخاص المشتركين في التواجد المادي، الذين قد يكونون — أو لا يكونون — جزءًا من اللعبة. والتمييزُ بين اللاعبين والمشاهدين معقَّدٌ؛ فحتى مع كون المشاهدين غير مشاركين في اللعبة بصفة لاعبين، فهُمْ متداخِلون في الفضاء استنادًا إلى كونهم جزءًا من جمهور اللعبة. ومع ذلك فإنه في بعض الحالات يُزَجُّ بالجمهور إلى فضاء اللعبة؛ فمثلًا في لعبة «آنكل روي أول أروند يو» (بلاست ثيري، ومعمل ميكسيد ريالتي، ٢٠٠٣)، من المفترض أن يسأل لاعبو الشارع الأشخاصَ المتواجدين عن معلوماتٍ كي يتسنَّى لهم إيجادُ موقعِ مكتبِ «العمِّ روي». وعلى النحو نفسه، قد يحصل لاعبو «بوتفايترز» على إرشاداتٍ من غرباء كي يجدوا مكانًا يتواجد فيه «روبوت» (لاعب آخَر). وهكذا لو أن غريبًا مجهولَ الهُوِيَّة يؤثِّر على نتيجة اللعبة، أَفيُعتبَر ذلك الشخص جزءًا من اللعبة أم من جمهورها؟

تطبيق «فورسكوير» (الذي نُوقِش في الفصل الثالث) مثالٌ توضيحي مناسب في هذا السياق؛ فالتطبيق مبني على مجموعات صغيرة من أداء العروض. عندما يسجِّل مستخدِمٌ «تواجُدَه» في موقعٍ ما، فهو يعلن تواجُدَه في الفضاء. ذلك يشبه بصورةٍ مجازيةٍ تواجُدَ المرءِ بالساحة السفلية في مركز روكفلر، بينما يتجمَّع «أصدقاؤه» حوله للمشاهدة. وعندما يشغل المرء ماديًّا أيَّ فضاء، يحتاج الشخصُ الذي سَجَّلَ تواجُدَه أن يؤدِّي للجمهور الذي رأى تسجيله عبر وسيطٍ (التطبيق)، ويحتاج أيضًا أن ينصرف عن الفضاء المادي في الفترة التي يتطلَّبها تسجليه مكانَه على التطبيق. ومع أن المرء يمكن أن يجادل بأن هذه الممارسة تساعد على انفصال المؤدي عن الموقف، فمن الممكن قولُ نفس الشيء عن المتزلِّج على الجليد في مركز روكفلر؛ فالاهتمام المسيطِر على المتزلِّج على الجليد واضحٌ وملحوظٌ، والاهتمامُ المسيطر على مستخدِم «فورسكوير» أقلُّ وضوحًا. ومع ذلك فالناتج في الحالتين متشابه؛ فسواءٌ أكنتَ تقف في الجادة الخامسة أم تستخدم تطبيق «فورسكوير»، فإن فضاء الأداء يصبح مشهدَ المتفرجين، ويصبح مكانُ المتفرجين هو السياقَ الذي منه يصبح للفضاء العام معنًى. وعلى الرغم من أن تصميم الفضاء المادي أمرٌ مهم من أجل تنظيم المواقف الاجتماعية، فإن تلك الأمثلة توضِّح أن تدفُّق المعلومات يمكن أن يكون بنفس القدر من التأثير، وبهذا ينتهي تخوُّف وايت بشأن عدم مراعاة المعماريين فضاءات الأداء المتنوعة. تمامًا مثلما يُسِيء الناس عادةً فهْمَ دور الساحات في مركز روكفلر، يُسِيئون أيضًا فهْمَ كيف يؤثِّر تدفُّق المعلومات على إمكانات الاندماج في فضاء ما. وثمة دليلٌ على أن الناس قد أصبحوا أكثر سفورًا في استخدامهم للتكنولوجيا في الفضاءات الحضرية، وأنهم أصبحوا يفضِّلون الاتصالَ بأشخاصٍ بعيدين عن الروابط القريبة (جورناي، ٢٠٠٢؛ هابوتشي، ٢٠٠٥). إلا أن هناك أيضًا دليلًا على أن الانصراف لا يستلزم أن يتجاهل المرءُ الموقفَ المحلي، وعندما يحدث ذلك، فإنها تكون بالفعل مكانيةً رقميةً، وليس مجرد مكانٍ سبَّبَتِ الشبكةُ الرَّقْمِيَّة اضطرابَه. ومع استمرار التوسُّع في استخدام التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني في الفضاءات الحضرية، فإن طبيعة الفضاءات ستشهد تغيُّرات وسيؤدِّي ذلك بالتالي إلى وقوعِ تغيُّرات في طبائع المدن.

(٤) الفضاءات الحضرية المعدَّلة

يُنْهِي سيمل (١٩٧١) مقالته لعام ١٩٠١ «المدن الكبرى والحياة العقلية» بهذه الجملة: «ليست مهمتنا في الحياة — منذ أن تطوَّرت قوى الحياة هذه لتصبح أصلَ وذروةَ الحياةِ التاريخية بأسرها التي ننتمي إليها كجزءٍ لا أكثر، منذ بدء وجودنا الزائل كخلية — أن ندين أو أن نصفح، ولكن دورنا فقط هو أن نفهم.» وبالمثل، نحن نسعى لأنْ نفهم الأمكنة الرَّقْمِيَّة لعلنا نبدأ في فهم طريقة استخدامها لنصمِّمَ فضاءات عامة رائعة لنحيا فيها. يستخدم الناس التكنولوجيا استخدامًا دوريًّا بطرق متنوعة، مُسخِّرين حقيقةَ الوصول الشبكي في تفاعلاتهم اليومية في الفضاء الحضري. وفي بعض الحالات، يستخدمون هذه الأدوات ليبعدوا أنفسهم عن الفضاء العام؛ «الابتعاد بالانصراف»، إلا أنهم في حالات أخرى يستخدمون الوسائل نفسها لتوسيع نطاق الفضاء العام عن طريق استخدام المعلومات الموضعية في الشبكات لإحداث تأثيرٍ في الفضاء المادي المحلي. ما نرغب في إيصاله هنا هو أن انتشارَ التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني في الفضاءات العامة ليس من المحتم أن يقود إلى تفكُّكها. تقدِّم الأمكنة الرَّقْمِيَّة مثالًا عكسيًّا لكل أولئك الذين ينتقدون تأثيراتِ التكنولوجيا على الفضاءات العامة. الفضاءات الحضرية العامة شديدةُ التعقيد بما يفوق قدرتنا على تحليلها، وثمة استخداماتٌ متعددة للفضاءات الحضرية، كما أن التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني تكشف عن المزيد من تلك الاستخدامات. ويجب أن تستوعب الفضاءات العامة الجيدة النابضة بالحياة هذه الأدواتِ، وأن تصبح منصةً للعديد من أساليب الانخراط في الحياة المحلية، ومنها المشاركة المجتمعية والانخراط في المجتمع المدني. إضافةً إلى ذلك، لو أن قواعد الدخول إلى الأمكنة الرَّقْمِيَّة في أيدي أولئك الذين يصمِّمون هذه المنصات التي تُستخدَم في التفاعل الاجتماعي، فكيف يستطيع صنَّاعُ القرار والمجتمع العام التأثير في قرارات التصميم هذه، التي ستشكِّل حرفيًّا فضاءاتنا العامة؟ يقدِّم الفصلُ التالي بعضَ الإجابات المحتملة لهذا السؤال.

هوامش

(١) انظرْ: لينج، ٢٠٠٤؛ جيرجين، ٢٠٠٢؛ هامبتون وليفيو وجوليت، ٢٠١٠.
(٢) مقابلة مع دي سوزا إي سيلفا (٨ نوفمبر ٢٠٠٢).
(٣) بخصوص الطقوس الاجتماعية والتفاعلات، انظرْ: وايت، ١٩٨٠؛ جيكوبس، ١٩٦٩. وبخصوص مجتمعاتٍ أقوى، انظرْ: لاتشيزي وماكورميك وهيئة التخطيط الحديث للمدن، ٢٠٠٠؛ هاس، ٢٠٠٨؛ بتنام، ٢٠٠٠. وبخصوص شوارع أكثر أمنًا، انظرْ جيكوبس، ٢٠٠٢.
(٤) يُطلِق ليكوب وإينادا (٢٠٠٦) على هذا «لقاءً على الشاشة». المثير للاهتمام حول هذه اللقاءات أنها لا توجد بالتعارض — أو حتى بالتوازي — مع الوجود المشترك المادي، بل إنها تجري بدرجة متزايدة بالتوافق مع الموقف المادي.
(٥) انظرْ: جيرجين، ٢٠٠٢؛ بورو، ٢٠٠٢؛ بلانت، ٢٠٠١؛ هابوتشي، ٢٠٠٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤