إخوان الصفاء

لم أضق بكتابك حين تلقيته، ولا حين قرأته لأني تعودت في هذه الأعوام الأخيرة أن أتلقى أمثاله في غير ضيق، وأن أقرأها في غير ملل، وأن أنشد بعد قراءتها قول أبي العلاء رحمة الله:

وإذا أضاعتني الخطوب فلن أرى
لوداد إخوان الصفاء مضيعا
خاللت توديع الأصادق للنوى
فمتى أودع خلي التوديعا

ولا يثقل عليك هذا البيت الثاني، وما فيه من تكلف، فلا بد من أن تقبل الشعراء على علاتهم، وعلة أبي العلاء أنه عاش في عصر تكلُّف وتصنع، فلم يكن له بدٌّ من أن يتكلف ويتصنع، وقد أراد أن يذكر كثرة توديعه للأصدقاء وضيقه بفراقهم، وأن يتمنى على الدهر، لو أن الدهر يستجيب لمن يتمنى عليه، أن يريحه من الوداع، وما يثير في القلب من الحزن والأسى، وما يغمر النفس به من اللوعة الاكتئاب، فسلك إلى معناه القريب طريقه هذه البعيدة، وزعم أن توديع الأصدقاء قد أصبح له صديقًا بغيضًا ود لو يخلص من صداقته وعشرته.

فاقبل لفظ أبي العلاء كما تيسر له، وكما نُقل إليك، وقف عند معناه فإنه خليق أن تقف عنده؛ لأنه يصور نفسًا كريمةً، وقلبًا ذكيًّا، وضميرًا وفيًّا، وحرصًا أشد الحرص على الوفاء، وهو على ذلك يصور ذات نفسك وذات نفسي في شيء من القصور لا من التقصير، فكلانا حريص مهما تضعه الخطوب على ألا يضيع ود الأصدقاء، وكلانا يجد في استبقاء المودة، والاحتفاظ بالإخاء راحةً وروحًا ولذةً ومتاعًا، ولكن كلينا ممتحن، لا بكثرة التوديع للأصدقاء للنوى، ولكن بكثرة التوديع للأصدقاء للموت، أو للقطيعة التي هي شر من الموت. فأنت لا تفقد صديقك الذي يستأثر به الموت من دونك، أو قل إنك لا تفقده كله، وإنما تفقد محضره، وتُحرم لقاءه، وتبقى لك منه ذكرى فيها كثير من حسرة، وأسًى، ولكن فيها كثيرًا من دعة النفس، ورضى القلب وراحة البال. تحزن لأنك لا تلقاه ولا تنعم بعشرته، وترضى لأنك تذكر صفاء مودته، وصدق إخائه، وأنه قد وفى لك، وأنك قد وفيت له، وأنه قد فارقك راضيًا عنك، وأنك قد فارقته راضيًا عنه، فتجد في هذا الشعور شيئًا من عزاء، وتضيف هذه الذكرى إلى هذا الكنز النفيس الذي يغنى به قلبك، وتنعم به نفسك، وتستريح إليه كلما ضاقت بك الدنيا أو كربتك الخطوب.

فأما القطيعة فإنها لا تترك في قلبك إلا الحسرة الخالصة، واللوعة المصفاة. وويل للقلوب من الحسرة الخالصة، فإنها تلتهم الحياة كما تلتهم النار الحطب، وويل للنفوس من اللوعة المصفاة، فإنها أفتك بها من السم الزعاف.

•••

وأنت تشكو إليَّ تنكُّر فلان لك وازوراره عنك، وتأليبه عليك. وماذا تريد أن أصنع؟ وقد تنكر لي قبل أن يتنكر لك، وازورَّ عني قبل أن يزور عنك، وألَّب علي قبل أن يؤلب عليك. وهلا سرت فيه سيرتي، ولقيت قطيعته كما لقيتها؟ فإني لم أشكُ إليك، ولم أشك إلى أحد من تنكره وتنمره وازوراره، وإنما طويت عن هذا كله كشحًا، وضربت عنه صفحًا، وأضفته إلى هذه المحن التي يمتحن الناس بها في هذه الأيام، والتي لا حاجة إلى إحصائها لأنها أكثر من الإحصاء، ولا إلى التفكير فيها لأنها قد كثرت وكثرت حتى أصبحت أهون من أن نفكر فيها، أو نقف عندها أو نضيع في استعراضها ما بقي لنا من الوقت والجهد والنشاط. فأقبل على الناس ما أقبلوا عليك، وأعرض عنهم ما أعرضوا عنك، وامنحهم من قلبك صفوه وعفوه. لا تضمر لهم كيدًا، ولا تبغهم شرًّا، ولا تدخر عليهم موجدة، وأرح نفسك وأرحني، وأرح الناس من شكوى الزمان، والتبرم بالإخوان، والحزن لقطيعة الصديق، والأسى لغدر الخليل. وألق عن نفسك هذه الفكرة الخاطئة، فإن الزمان لم يتغير، وإن طبيعة الناس لم تتبدل، وليس الزمان الذي تعيش فيه بشر من الزمان الذي عاش فيه أسلافك، وليس الجيل الذي تعاشره بشر من الجيل الذي عاشره الآباء والأجداد؛ فالشمس تجري لمستقرٍّ لها منذ كانت الشمس، والنهار والليل يستبقان منذ كان الليل والنهار، والإنسان هلوع منذ كان الإنسان يجزع إن مسه الشر، ويجزع أن ظن أن قد يمسه الشر، ويبخل إن مسه الخير، ويهيء نفسه للبخل إن ظن أن قد يمسه الخير.

وصاحبك هذا الذي جفاك بعد صفاء، ونبا جانبه بك بعد لين؛ هلوع كغيره من الناس، أشفق أن تجر عليه مودتك شرًّا فاتقاه بسد الذرائع كما يقول الفقهاء، وخاف على ما في يده من الخير أن ينقصه اتصاله بك فاستبقاه بقطيعته لك، وابتغى منه المزيد. ففيمَ تلومه، وقد جرى مع طبعه، وأرسل نفسه على سجيتها؟! فاتَّقى الشر ما وجد إلى اتقائه وسيلة، وابتغَى الخير ما وجد إلى ابتغائه سبيلًا.

•••

وحضارة الناس متكلفة، كانت بعد أن لم تكن، واستحدثت شيئًا فشيئًا بعد أن عاش الناس دهرًا لا حظ لهم منها، ولا سهم لهم فيها. فليس غريبًا أن تغلبها الغرائز بين حين وحين، وليس غريبًا إلا تثبت لقوة الطبع، وسجية النفس، وحب الحياة، والتماس المنافع واستبقائها.

والصداقة أثر من آثار هذه الحضارة المتكلفة المكتسبة. فهي تجري على وتيرتها، وتسلك طريقها، وتتأثر بما تتأثر به من الخطوب والأحداث.

وأنت ترى الخوف يخرج الناس عن أطوارهم، ويذهلهم عن أقدارهم، وينسيهم ما يحسن وما لا يحسن، ويخفي عليهم ما يجمل وما لا يجمل، ويلبس عليهم ما يليق بما لا يليق. والقوانين المشروعة تغفر لهم ما يدفعهم إليه الهلع والفزع من المآثم والموبقات. وقد هلع صاحبك حين رأى الأمر إلى من لا يحبك ولا يدانيك، فمال مع الريح، وانعطف مع المنفعة، وآثر نفسه بالخير، وضحى بالود القديم، فاغفر له، واصفح عنه، ولا تضع نفسك في موضعه، ولا تقل إنك قد امتحنت بمثل محنته فوفيت للصديق، وضننت بالإخاء، فليس كل الشجر يثبت للريح العاصفة، وإنما يثبت لها الشجر الضخم الذي رسخت أصوله في الأرض، وارتفعت فروعه في السماء. فقل إنك شجرة تثبت للريح، وإن صاحبك هذا نجم يميل معها كل ميل.

ولا تقل إن الناس يخطئون حين يسرفون في الصداقة، ومن حقهم أن يبخلوا بها، ويبذرون المودة، ومن حقهم أن يحرصوا عليها، ويقتصدوا فيها لأن حياتهم قصيرة، والصديق الوفي نادر قليل. فكل هذه خواطر وآراء لا تخطر إلا للذين تأصلت في نفوسهم الحضارة، ورسخت في قلوبهم المودة كما رسخت في الراحتين الأصابع على ما يقول قيس بن ذريح. وهؤلاء هم الصفوة القليلة التي لم تخلق لتشيع وتكثر، وإنما خلقت لتقل وتدخر، وتكون مضربًا للمثل، وموضوعًا لأحاديث الكتب، ومسرحًا لخيال الشعراء.

•••

وأنت قد قرأت الكتب، ورويت الأخبار، ووعيت الآثار، وحفظت الحكم النادرة، والأمثال السائرة، وعلمت فيما علمت أن من حماقة الناس أن يبخلوا بالمال، ومن حقه أن ينفق في وجوهه بغير حساب، وأن يسرفوا في الصداقة، ومن حقها أن يبخل بها أصحابها أشد البخل وأعظمه وأقساه، لأن المال غاد ورائح يذهب عنهم اليوم، وقد يعود إليهم غدًا، ولأن الصداقة ليس من طبيعتها الغدو والرواح، ولا المجيء والذهاب، وإنما طبيعتها الثبات والاستقرار. فإذا رأيت من يبخل بالمال حين يجب إنفاقه، فاعلم أنه أحمق سفيه، وامنحه من نفسك ازدراءها في غير هوادة ولا رفق. وإذا رأيت من يسرف في الصداقة ويبذرها تبذيرًا، فاعلم أنه شرير من إخوان الشياطين، وامنحه من نفسك مقتها وغضبها في غير مهل ولا أناة، وارفع نفسك على كل حال عن الاحتفال بمن يبخل بالمال، والالتفات إلى من يسرف في الصداقة، وكِلْهما جميعًا إلى غرائزهما الجامحة وطبائعهما المنحرفة، لا تقدر لهما قدرًا، ولا ترج لهما وقارًا، ولا تحسب لهما حسابًا، ولا تكلف نفسك في سبيلهما حزنًا ولا ألمًا ولا عناءً، فهما أهون من ذلك، وأقل شأنًا.

•••

أما بعد فقد تلقيت كتابك، وأنا أنعم بحياة راضية لا لغو فيها ولا تأثيم، قوامها القراءة ومعاشرة هؤلاء الأصدقاء الذين لا يملون، ولا يثيرون في أنفسنا الملل … الذين يستجيبون لنا إذا دعوناهم، ويمنحوننا الروح إذا استرحنا إليهم. لا يمنون، ولا يتجنون، ولا يتكلفون المعاذير، ولا يتلمسون العلل، وإنما يستجيبون لنا هونًا حين ندعوهم، وينأون عنا هونًا حين ننصرف عنهم، لا يتعللون ولا يتعاتبون ولا يتكذبون ولا يفسدون علينا الحياة بالمكر والكيد والرياء والنفاق، يظهروننا على ذات نفوسهم في أصرح الصراحة، وأصدق الصدق، وأوفى الوفاء.

أتعرفهم؟ إنهم إخوان الصفا حقًّا، إنهم جديرون بأن نمنحهم ودنا في غير تحفظ، ونخلص لهم حبنا في غير اقتصاد. فلن نجني من ذلك إلا خيرًا. إنهم الكتب يا سيدي! الكتب التي يكتبها الناس على اختلاف طبائعهم، وتفاوت حظوظهم من نقاء القلوب، وصفاء الطباع، واعتدال الأمزجة، وطهارة الضمائر.

أليس عجيبًا أنك تقرأ الكتاب فتجد فيه غذاء قلبك وعقلك وذوقك؟ تجد هذا كله صفوًا لا يكدره مكدر، ولا يشوبه شائب، فإذا بحثت عن كاتبه فعسى أن تعرف أنه كان أنكد الناس حياةً، وأكدرهم طبعًا، وأسوأهم مزاجًا.

فاعجب للخير المحض يُستخلص من الشر المحض، وللنقاء النقي يستخلص من الدنس الدنس. صدقني إذا ضقت بالناس فتعزَّ عنهم بما يكتب الناس، واحمد لهم بعد هذا كله أنهم يسيئون كثيرًا، ولكن بينهم قومًا يحسنون كثيرًا، وأنهم يجرحون القلوب، ولكن بينهم قومًا يأسون الجراح.

فاعرف لهم ذلك، واغفر لمسيئهم شكرًا لمحسنهم، واقبلهم آخر الأمر على علاتهم، واذكر دائمًا قول أبي العلاء:

وهل يأبق الإنسان من ملك ربه
فيخرج من أرض له وسماء؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤