رسالة إلى …

لست أدري كيف أدعوك! فقد كنت فيما مضى من الأيام أدعوك بالأخ العزيز، والصديق الكريم، وأنا أخشى أن أسوءك، وأن أسوء الحق أن دعوتك بهاتين الصفتين؛ إحداهما أو كلتيهما.

أخشى أن أسوءك بإثارة الحزن، والأسى في نفسك، وبإثارة الندم فيها أيضًا، فأنت تعلم أنك لم تبق لي أخًا عزيزًا لأنك ألغيت هذا الإخاء، ولا صديقًا كريمًا لأنك قطعت أسباب هذه الصداقة. وقد يسوءك تذكيرك بما مضى، وقد يحزنك ردك إلى ما سلف، وقد يشق على نفسك أن تتبين أن لا سبيل إلى استدراك ما فات، ولا إلى استئناف ما فرط، فلأمر ما أرسل القدماء مثلَهم المعروف «سبق السيف العذل».

وقد يثير الندم في نفسك إن تصدقك الذكرى بعد أن بعد العهد، وسكت الغضب، ورضيت الأطماع، وتغيرت الظروف، فتنبئك بأنك قد تجنيت في غير موضع للتجني، وتكلفت القطيعة في غير مقتض لتكلفها، وأقدمت عليها حين كان كل شيء يدعوك إلى أن تحجم عنها، وترفع نفسك عن إثمها …

نعم لست أدري كيف أدعوك! فلست أريد أن أسوءك، ولست أريد أن أسوء الحق، فالحق يعلم أنك كنت لي أخًا عزيزًا وصديقًا كريمًا، ثم ألغيت الإخاء إلغاء، ومحوت الصداقة محوًا. وما أحب أن أدعوك سيدي كما تعود الناس أن يدعوا من ليس بينهم وبينه صلة من مودة أو إخاء، فإني أشق على نفسي، وأكلفها أكثر مما تطيق أن دعوتك بهذا الاسم، وقد أشق على شيء هو أكرم علي من نفسي، وإن لم يكن عليك كريمًا، وهو الذكرى.

ولعلك لم تنس بعد ما كنا نتحدث به أيام الصفاء من أننا قد بلغنا السن التي يحرص الناس فيها على الذكرى كما يحرصون على أنفس الكنوز؛ لأنها خير من كل ما بقي لهم، أو هي خير ما بقي لهم من حياة قد مضى أكثرها، ولم يبق إلا أقلها، وليس إلى استئنافها من سبيل.

وكنا نقول في أيام الصفاء تلك أنا قد بلغنا السن التي يحتفظ فيها الرجل الكريم بشيئين أشد الاحتفاظ، ويحرص عليهما أعظم الحرص، ويضن بهما أكثر مما يضن البخيل بماله؛ وهما الذكرى التي تستبقي له حياته أو ما يمكن استبقاؤه من هذه الحياة، والصداقة التي تصل بينه وبين الدنيا حين تنقطع الأسباب بينه وبين الدنيا كلما مرت ساعة من ليل أو ساعة من نهار. وكنا نتواصى في أيام الصفاء تلك بأن يخلو كل واحد منا إلى نفسه ما استطاع، فيستحضر الماضي كله، ويعصره عصرًا ليستخلص منه ما يستطيع أن يستخلصه من الذكرى، وليسجله في كتاب حتى لا تعبث به الأحداث، وحتى لا تذهب به الأيام، وحتى لا تمحوه هذه الشيخوخة التي تسرع إلينا أو نسرع إليها، والتي تفني كل شيء فينا قليلًا قليلًا، فكنا نريد أن نستخلص الذكرى من الأحداث والأيام والشيخوخة، ونكرها على البقاء؛ لأننا نجد العزاء كل العزاء في الرجوع إليها، والاستماع لما تقص علينا من أحاديث أنفسنا، والاستمتاع باستحضار ما عملنا، وما لا نستطيع أن نعمل.

وكنت أحبك أشد الحب، وأوثرك على الناس جميعًا، وأوثرك على نفسي قبل أن أوثرك على الناس. وكنت تحبني أشد الحب، وتؤثرني على الناس جميعًا، وتؤثرني على نفسك قبل أن تؤثرني على الناس. وكان كل واحد منا حريصًا من أجل ذلك على أن يعرف من أمر صاحبه كل شيء.

كنت أنت قد بلغت الثلاثين، وكان بيني وبينها أعوام قليلة حين التقينا، وحين اصطفى كل واحد منا صاحبه على غيره من اللدات والأتراب. ومنذ ذلك الوقت لم يخفَ على أحدنا من أمر صاحبه شيء. ولكن كلًّا منا كان يجهل صبا صاحبه وشبابه، وكان يحرص على أن يعرف صبا صاحبه وشبابه. وكنا نتواصى في أوقات الصفاء تلك بأن نستقصي فنحسن الاستقصاء، وبأن نحصي فنتقن الإحصاء، وبأن نسأل الأهل عما كان من أمر طفولتنا حتى لا يفوت أحدنا من أمر صاحبه قليل أو كثير. كان كل واحد منا حريصًا على أن يعمر قلبه بصورة من صاحبه كاملة إلى أقصى ما يتاح للأشياء الإنسانية من الكمال.

أتذكر هذا كله، أم نسيته كما نسيت كثيرًا غيره من الأشياء؟ أما أنا فأذكره كما أذكر نفسي، وأنعم به كما أنعم بنفسي، وأشقى به كما أشقى بنفسي أيضًا. فأنت تعلم أن الإنسان المتفكر يجد في نفسه ينبوعين يفيض أحدهما بالسعادة، ويفيض ثانيهما بالشقاء.

لم أنس من هذا كله شيئًا، ولن أنسى من هذا كله شيئًا، وسأنعم بهذا كله فأجد شقاء في هذا النعيم لأنه لا يزداد ولا ينمو، ولا يتجدد، وسأشقى بهذا كله فأجد نعيمًا في هذا الشقاء؛ لأنه يستبقي لي سعادة قد بلوتها فحمدت بلاءها، وما زلت أذوقها، وأحرص على استبقاء هذا المذاق.

كل هذا أقوله لأني لا أدري كيف أدعوك … فلست أخي العزيز، ولست صديقي الكريم لأنك لا تريد أن تكون هذا ولا ذاك، ولست سيدي؛ لأني لا أريد أن أدعوك بهذا اللفظ السخيف الفارغ الذي لا يدل على شيء. وما حاجتي إلى أن أدعوك! وما حاجتك إلى هذا الدعاء! وما يمنعني أن أكتب إليك دون أن أبدأ رسالتي بما تعود الناس أن يبدءوا به رسائلهم من هذه الألفاظ. إنك لتفهم عني، وإن لم أدعك، وإني لأوجه إليك القول، وإن لم تسمع دعائي. وما حاجتي إلى أن أدعوك، وأنا لن أرسل إليك هذا الكتاب في بيتك في القاهرة، أو في مصيفك في الإسكندرية، أو غيرها من مصايف مصر، فلست أعرف أين تصطاف، وقد مضى زمن كنت أسأل فيه عنك في أي فصل من فصول السنة، وفي أي شهر من شهورها، وفي أي يوم من أيام الشهر، وفي أي ساعة من ساعات اليوم، فأعرف أين تكون … وأدلُّ سائلي على مكانك من دارك، أو مكتبك، أو ناديك، أو ما شئت من هذه الأماكن التي كنت تضطرب بينها، وتختلف إليها. فأما الآن فأنا أجهل من أمرك كل شيء إلا هذه الأنباء التي أقرؤها في هذه الصحيفة أو تلك.

فأنت رجل تتحدث عنه الصحف فتكثر الحديث، وتروي أنباءه فتحسن رواية الأنباء. لا أعرف من أمرك إلا ما يعرفه كل قارئ للصحف، ولا ألقاك إلا حين تفرض علينا ظروف الحياة أن نلتقي في هذا الحفل أو ذاك. وقد يقبل أحدنا على صاحبه مكرها فيهدي إليه تحية فاترة ملؤها الاستحياء أو الاستخذاء، وفيها كثير من التعجل، وفيها كثير الرغبة في أن يطرأ طارئ أو يقبل مقبل أو يكون شيء من هذه الأشياء الكثيرة التي يفترق لها الناس بعد اجتماع، ويشغل بها بعض الناس عن بعض في هذه المواطن التي يقوم الأمر كله فيها على التكلف، والتجمل، والرياء. ولا أعرف من أمرك إلا ما يعرف الناس جميعًا، ولا ألقاك إلا كما يلقى بعض الناس بعضًا في هذه الاجتماعات السخيفة البغيضة التي تسوء أكثر مما تسر، وتغيظ أكثر مما ترضي، والتي لا أشهدها إلا رجعت منها بالسخط على نفسي، وعلى الناس.

أتذكر؟! لقد كنا نتحدث في ذلك فنطيل الحديث، نضحك منه كثيرًا، ونحزن له كثيرًا، ونسخر منه دائمًا. لا أعرف من أمرك إلا ما يعرف الناس جميعًا، ولا ألقاك إلا في هذا الفصل الذي يلتقي الناس فيه حول مائدة من موائد الشاي أو موائد الطعام. لا أسمع صوتك في التليفون قبل أن يرتفع الضحى، ولا أسمع صوتك في التليفون حين يتقدم الليل، ولا تسعدني زيارتك حين أقيم، ولا تؤنسني رسائلك حين أغترب. ومن أجل ذلك أكتب إليك دون أن أضع عنوانك على هذا الكتاب، ودون أن أسلم هذا الكتاب إلى البريد؛ لأنا فقدنا عادة المكاتبة كما فقدنا عادة التزاور، وكما فقدنا عادة الحديث بالتليفون. وأنا مع ذلك أكتب إليك، وأسلم كتابي إلى مجلة الهلال؛ لأني واثق بأنه سيصل إليك دون أن تعرف مجلة الهلال لمن أكتب أو إلى من أسوق الحديث! ودون أن يعرف أحد من قراء الهلال لمن أكتب، وإلى من أسوق الحديث، إلا أنت، فستعرف حق المعرفة لمن أكتب، وإلى من أسوق الحديث.

ستقرأ هذا الكتاب ما في ذلك شك؛ لأنك تقرأ كل ما أكتب كما أقرأ أنا كل ما تكتب، فأنت مريض بي كما أني مريض بك، لا نلتقي، ولا نتزاور، ولا نتحدث، ولكننا نتصل على رغم هذا كله اتصالًا يشوبه الرضى حينًا، ويشوبه السخط حينًا، ويشوبه الحزن دائمًا.

ستقرأ هذا الكتاب، وستعلم أنه موجه إليك، وسترى نفسك فيه فتنكرها أشد الإنكار، وتود لو تجهلها، ولو تستطيع أن تفلت منها، وستحاول ذلك ما وسعتك المحاولة، ولكنك لن تبلغ من ذلك شيئًا.

فهناك شيئًان لا يستطيع الإنسان أن يفلت منهما مهما يجهد، ومهما يحاول … لا يستطيع الإنسان أن يفلت من نفسه، ولا يستطيع الإنسان أن يفلت من ملك ربه كما يقول أبو العلاء.

سترى نفسك في هذا الكتاب، وستنكرها أشد الإنكار، وسيلذع الندم قلبك على ما أضعت من حق، وما بددت من مودة كان يجب عليك أن تحتفظ بها، ولكنك ستتكلف النسيان، وستنسى أحيانًا، وسيعود إليك الندم فيعذب قلبك عذابًا شديدًا. إنك تود لو تستطيع أن تصل ما انقطع من الأسباب، وتجمع ما تفرق من الشمل، ولكنك ستجد بينك وبين هذا أمدًا بعيدًا لا سبيل إلى قطعه، وهوة سحيقة لا سبيل إلى عبورها، فالدواعي التي دفعتك إلى القطيعة ما زالت قائمة لم تمحها الظروف بعد، وستمحوها الظروف من غير شك غدًا أو بعد غد، ولكنك حينئذ ستستحي من التفكير في وصل ما قطعت من سبب، وجمع ما فرقت من شمل، وستؤثر الموت على العودة إلى صديق قطعت أسباب وده طلبًا للمنفعة، وتهالكًا على أعراض الحياة، ورغبةً في الوصول إلى ما كانت نفسك تتقطع عليه حسرات.

لقد كنت تجهل نفسك جهلًا شديدًا، وما أرى إلا إنك تجهل نفسك جهلًا شديدًا، وإن كنت قد بلغت سن «الشيوخ»، وليس عليك من ذلك بأس؛ فالحكمة التي كتبت على معبد دلف لم تكتب عبثًا … طلبت إلى الإنسان أن يعرف نفسه بنفسه، وقد اجتهد سقراط في أن يستجيب لهذه الحكمة، وفي أن يعرف نفسه، فلم يبلغ ما أراد. وما أحسبك أذكى قلبًا، ولا أمضى عزمًا، ولا أشد جلدًا من سقراط.

لقد كنت تجهل نفسك. كنت ترى نفسك رجلًا خيرًا مؤثرًا، فكشفت لك الأيام عن رجل قد يكون خيرًا، ولكنه ليس من الإيثار في شيء، وإنما هو من الأثرة في كل شيء!

كنت ترى نفسك زاهدًا في متاع الدنيا، وأعراض الحياة، فكشفت لك الأيام عن رجل قد يرتفع بنفسه عن المتاع الدنيء، والأعراض المخزية، ولكنه يتتبع الثراء ما استطاع إليه سبيلًا، والجاه ما وجد إليه مسلكًا، وغرور المنصب ما أتيح له هذا الغرور … يؤثر هذا كله على كل شيء حتى على الوفاء، وعلى كل إنسان حتى على الأخ العزيز، والصديق الكريم. إنك «أديب»، ولكنك تحب الأدب السهل، وتكره الأدب العسير. ولم يكن شيء يغيظك في أيام الصفاء تلك كما كان يغيظك تحدثي إليك عن بعض آيات الأدب الرفيع. كنت تراني أعيش في السحاب، وكنت تطلب إليَّ أن أهبط إلى الأرض، وكنت تشكو إلي ما أُشقُّ به عليك من هذه المعاني التي لم نألفها في شعر شعرائنا، ونثر كتابنا، ومن هذه الآمال التي لم نألفها في حياتنا المتواضعة الراكدة.

فدعني أشق عليك مرة أخرى ببعض هذا الأدب الرفيع الذي كنت تضيق به أشد الضيق. وعلم الله ما كتبت إليك لأشق عليك، ولكن هذا الأدب الرفيع قد يظهر الناس على نفوسهم أحيانًا، وأنا أحب أن أظهرك على بعض نفسك لعلك تتذكر أو تخشى، ولعلك تستقبل أيامك بغير ما تعودت أن تستقبلها به إلى الآن. إني أقرأ في قصة تمثيلية لشاعر يوناني لست في حاجة إلى أن أسميه؛ لأن اسمه لن يدلك على شيء. أقرأ في هذه القصة اليونانية حديث أم إلى ابنها، وقد لقيته بعد نفي طويل … فهي تسأله عن حياته في المنفى، وتقول له فيما تقول: ألم يعنك أصدقاء أبيك، وهؤلاء الذين نزلت عليهم ضيفًا؟ فيجيبها: يجب أن يكون الإنسان سعيدًا ليجد مودة الأصدقاء، فإن الأصدقاء لا يغنون عن الصديق البائس شيئًا.

وأقرأ في قصة فرنسية لكاتب لا أسميه؛ لأن اسمه لن يدلك على شيء، إن الصداقة تقف الإنسان عن أن يتقدم إلى أمام، وقد ترجع به أحيانًا إلى وراء. فمن الخير ألا يستبقي الإنسان صداقة تمنعه من الرقي إلى ما يطمح إلى تحقيقه من الآمال.

أرأيت لم يهجر الصديق الصديق؟ أرأيت لم يعرض الخليل عن ود الخليل؟ أرأيت لِمَ قال الشاعر العربي القديم:

غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت
مسافة الخلف بين القول والعمل

عد الآن إلى نفسك، وسلها: متى رثت أسباب الود بينك وبيني، ومتى انقطعت هذه الأسباب؟ … فستفهم كل شيء، وستعرف من أمر نفسك ما خفي عليك. والله يداول الأيام بين الناس، والأرض تدور، والظروف تتغير، وسترى قومًا يألفونك الآن، ويتهالكون عليك كما يتهالك الذباب على الطعام الشهي. ستراهم حين يتم الزمن دورة من دوراته، وحين يبدل الله من قوم لقوم، وحين تذهب ظروف، وتأتي مكانها ظروف أخرى، وقد انصرفوا عنك كما انصرفت أنت عن بعض الناس، وتنكَّروا لك كما تنكرت أنت لبعض الناس. فإذا مضت الأيام استحيوا منك كما تستحي أنت الآن من بعض الناس.

صدِّقني إني لا أعرف الرجل الكريم حقًّا إلا بخصلة واحدة، هي أن يتجنب فيما بينه وبين الناس من صلة، ما من شأنه أن يخزيه أمام نفسه … فالرجل الذي لا يخزى أمام نفسه خليق ألا يخزى أمام الناس، والرجل الذي يكره أن يستحي أمام ضميره حين يجنه الليل، ويسكن من حوله كل شيء؛ خليق أن يتجنب ما يضطره إلى أن يستحي من الناس.

صدِّقني إن نفوس الناس معادن، ومن المعادن ما يعلوه الصدأ، ومنها ما لا يجد الصدأ إليه سبيلًا. وكم كنت أتمنى أن تكون نفسك أصفى وأنقى وأقوم، وأمتن من أن يعلوها الصدأ أو تعبث بها الخطوب. ولكن لا بد مما ليس منه بد، ولا سبيل إلى إصلاح ما أفسدت الأيام!

•••

أفهمت الآن لِمَ لمْ أرسل كتابي إليك؟ … أفهمت الآن لم لم أعرف كيف أبدأ كتابي إليك؟ وهناك شيء آخر أحب أن تفهمه، فقد يكون في فهمك إياه بعض هذا العزاء الرخيص؛ لماذا كتبت هذا الكتاب، وقد انقطعت الأسباب بينك وبيني، ولماذا نشرت هذا الكتاب في الهلال؟! لسبب يسير جدًّا، وهو أن أمثالك في الناس كثيرون بل أكثر جدًّا مما تظن، فليس هذا الكتاب إلا مرآة لن تكون أنت الشخص الوحيد الذي يرى نفسه فيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤