الفصل العشرون

تصافٍ

أما اللورد إدورد سميث، فعاد من عند عمته توًّا إلى خاله لكي يفاوضه بأمر الورق فرحب به جدًّا وتهلل وجهه بشرًا، ولما دخل إدورد وجده منهمكًا بمعالجة كلبه فسأله ما علته فقال: كنت في هذا الصباح في مكتبي هنا أقلِّب بعض الأوراق، وأكتب رسائل خصوصية إذ سمعت هذا الكلب يعوي عواءً شديدًا يدل على تألُّم فخطر لي أن بعض الخدم ضربه، وأنت تعلم أنه عزيز عليَّ جدًّا فنهضت في الحال واندفعت إلى حيث العواء، فوجدت الكلب في المطبخ كالمجنون فخطر لي أنه قد كَلِبَ، فكلمته وجمَّشته ودلَّست ظهره ولاطفته، فلم يستكن ولكنه دنا إليَّ وتعلق بأهدابي كأنه يستغيث بي، ولم أَرَ في وجهه وعينيه أعراض الكلب، فقلت للطباخ: «ما خبره؟» فقال: «لا أدري.» فجعلت أفحص بدنه فلم أجد فيه أثرًا للضرب، ولكني رأيت أن شفتيه محمرتان متوردتان جدًّا؛ فاستدعيت كل الخدم وجعلت أستجوبهم عن أمره، فأنكروا كلهم أن واحدًا منهم فعل به شيئًا، ولكني رأيت هنري داي وحده مضطربًا واجفًا دون سائر الخدم فتهددته لكي يقرَّ بالحقيقة، فقال: «إني اغتظت من الكلب لأنه يجلس إلى جانبي وأنا أتلمَّظ الطعام وأحيانًا يتنفس في وجهي في حين أني أكره الكلاب، فلكي أنفره مني فركت شفتيه وأنفه بالفلفل الأحمر الحار.»

وما انتهى هنري هذا من حكايته حتى دفعتُ له حسابه وطردته من خدمتي.

– إني أتأسف لذلك؛ لأني أعلم أن هذا الفتى أمين وغيور ونبيه.

– والحق أقول لك أني أسفت جدًّا لطرده، ولكن عمله هذا غاظني جدًّا؛ فلم أتمالك أن أطرده على أنه إذا عاد أقبله.

فافتكر إدورد أن وجود هنري في بيت خاله قد يفيده فيما لو اقتضت الأحوال أمرًا؛ فقال: سأكتب لأبيه أن يردَّه؛ لأن ذنبه لا يستحق الطرد.

– تفعل حسنًا. أراك قد أتيت إلينا في غير الميعاد المعتاد، عساك توَد أن تتناول العشاء معنا.

– أتناوله معكم، وإنما أتيت الآن لكي أسألك بعض المسائل وألتمس منك أمرًا مهمًّا أيها الخال.

– خيرٌ إن شاء الله! سل ما تشاء فلا أعزُّ عليك شيئًا.

– لا أشك في ذلك، بل أؤكد أني لو طلبت مالك كله لما بخلت به، ولكن ما أطلبه ليس مالًا وإنما هو خبر صادق.

– ماذا؟ سَلْ.

– سألتك غير مرة عن أهل أبي، فكنت تقول لي: إنهم أناس خاملون في قرية حقيرة، ولكني لم أَرَ الآن هذا الجواب شافيًا؛ فأرجو منك أن تخبرني عن حقيقة نسبي. من هو أبي ومن هم أهله ومن هي أسرته؟

فضحك المستر هوكر وقال: وما الذي يدعوك الآن إلى هذا التحقيق؟

– قيل لي إني من أصل شريف …

فبغت المستر هوكر لهذا القول، وسأل: من قال لك ذلك؟

– أسرَّه إليَّ من يعرفه واستحلفني ألا أبوح باسمه ولا بسره.

– عجيب! من يعلم هذا السر؟ لا أعرف أحدًا سواي يعلمه.

– إذن هذا السر حقيقي يا سيدي.

– نعم حقيقي، ألعلك قابلتَ اللايدي بنتن اليوم؟

– نعم أنا عائدٌ من عندها توًّا إليك.

– إذن هي أخبرتك.

– كلا، بل أنا أخبرتُها وقد ثبت لي من ملامحها ومن فحوى حديثها أنها تجهل هذا السر تمامًا ولما أخبرتها به أَبَت أن تصدقه.

– غريب! أما كانت قد تناولت بريد اليوم لما زرتها؟

– كلا، وإنما رأيت الخادم يدخل به وأنا خارج.

– إذن أنت عرفت السر قبلها.

– عرفته منذ ظهر الأمس.

– عجيب عجيب! لا أعهد أحدًا سواي يعرفه.

– أرجو أن تدعنا من عارفي السر الآن، فإن النقطة الجوهرية التي أسعى إليها هي أن تتفضل عليَّ بالأوراق التي تثبت أني ابن شرعي للورد هركورت سميث، ولك الفضل الذي لا يكافأ.

– لو تأخرت دقيقتين عند عمتك اللايدي بنتن لرأيت الأوراق التي تبتغيها بين يديها.

– أأرسلتها إليها؟

– نعم، في صباح هذا النهار. وقبل حادثة الكلب كنت أكتب لها كتابًا أفصِّل فيه حقيقة السر، وهل عرفت أنت الحقيقة تمامًا؟

– نعم عرفتها.

– من أخبرك إياها؟!

– ستعرف بعد حين، ولكن قل لي هل مات أبي مسمومًا؟

– كلا، هل قال لك مخبرك أنه مات كذلك؟

– نعم.

– والحقيقة لا، وإنما ادَّعيت يومئذٍ تسمُّمه؛ لكي أنفِّر خادمه لأبعده عني لأنه هو الوحيد الذي كان يعرف السر.

ثم انتبه المستر هوكر، فقال: ألعله لم يزل حيًّا وقد عثرتَ عليه فأسرَّ لك الحقيقة!

– نعم، كما تقول.

– مسكين جوزف برون الخادم الودود الأمين. أين عثرت عليه؟

– في حانوت في الضاحية الشرقية وقد غيَّر اسمه إلى جاكوب داي.

– وكيف حاله؟ أظنه أصبح شيخًا الآن.

– نعم، وهو لم يزل يعتبر نفسه فارًّا؛ فيخاف أن يعلن اسمه.

– فليأتِ إليَّ فإني أتوق إلى رؤيته.

– هو أبو هنري الذي طردته اليوم.

– أكيد ما تقول.

– نعم.

– عجيب! لكم كنت أقول: إني آلف ملامح هذا الغلام منذ عهد بعيد، ولطالما كان يذكرني بسحنة أبيه.

ثم قص إدورد على خاله كيف عرفه وعلم منه الحكاية، وقال: إذن دفعت الورق إلى عمتي يا سيدي؟

– نعم يا عزيزي.

فابتسم إدورد قائلًا: لأي غرض؟

– لكي تعلن لك نسبك وتعرفك أنك ابن أخيها اللورد إدورد سميث، ولا تضن عليك بابنتها عروسًا.

– ولكن ما الذي حملك الآن على هذا الأمر يا سيدي، وقد كنت تأباه قبلًا وتكتم السر؟

– أنت تعلم يا إدورد أني أحبك حب الأب لابنه، وهل تظن أن حب الأب يتغير مهما تغير قلب الابن؟

– كلَّا، ولكن لم يتغير قلبي من نحوك يا سيدي.

– لا أقول أن قلبك تغير، ولكني أخبرك بقضية راهنة، لما كنت ألحُّ عليك أن تتزوج ابنتي كنت أفعل ذلك لا عن طمع بقلبك لابنتي كما كان قصدي في السنين الغابرة، بل عن حب شديد لك ولابنتي معًا، فكان يلذُّ لي جدًّا أن أراكما زوجين، ولكن لما رأيت أن أمنيتي هذه بعيدة المنال أبيتُ وأنا أحبك جدًّا أن أحرمك مجدك وحبيبتك لويزا بنتن؛ فتهنأ يا بني بها. أسأل الله من صميم فؤادي أن يهنئكما إلى الأبد.

– ما أطيب قلبك أيها الخال بل الأب الحنون!

وعند ذلك طفر الدمع من أجفان الخال وابن الأخت، ووقع أحدهما على الآخر وتعانقا.

– سامحني يا خالي الحنون؛ فكم أسأت إليك بجفائي لك! وكم جرحتك بكبريائي! وكم صبرتَ على جهالتي وغروري! بل كم أسأت إلى أليس عزيزتي! وكم تحمَّلت هي من خشونتي! ألا تسامحني أليس أيها الخال؟

– أليس طيِّبة القلب جدًّا يا إدورد، وهي التي سامحتك أولًا، وهي التي حملتني على أن أعدل عن الإلحاح عليك وأتركك تتبع هواك، وهي تتمنى لك كل خير، ومن أجل كلامها أرسلت الأوراق لعمتك.

– أين هي الآن؟ ألا أراها هنا؟

– أظنها تتمشى في الحديقة، ولو علمت بقدومك لأسرعت لتراك.

وفي لحظة استُدعيت أليس، وكانت بين يدي إدورد يعانقها عناق الأخت.

– سامحيني يا أليس كم كدَّرتك وأحزنت قلبك!

– عذرتك يا إدورد لما عُدْتُ إلى رشدي، وعلمت أن الأمر ليس في يدك. أحبك الآن كما تحبني أحبك حب الأخت الحنون، وأحب اللايدي لويزا بنتن لأجلك، أهنئك بها بل أهنئها بك يا حبيبي إدورد.

فوقع إدورد ثانية على قدمي أليس يقبل يدها ويحمَدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤