الفصل الحادي والعشرون

ما ليس في الحسبان

في صباح اليوم التالي ركب اللورد إدورد مركبته، وقصد إلى قصر كنستون فدفع بطاقته إلى البواب يلتمس مقابلة عمته اللايدي بنتن، وبعد هنيهة أقبلت عليه إحدى الوصيفات، وقالت له: تقول حضرة اللايدي بنتن إنها لا تقبل زيارات الماجنين الهازلين، فإياك أن تقصد إلى هذا القصر بعد.

– ما السبب؟ لم أفهم ما تقولين.

– كذا أقول لك.

ثم صعدت في سلم القصر غاضبة.

فبهت إدورد من هذه المقابلة المهينة، وجعل يفكر بأسبابها وأول ما خطر له أن عمته تأبى عليه انتسابه لها لئلا يسترد منها ثروة أبيه، وأنها — وقد حصلت على الأوراق الرسمية التي تثبت انتسابه — صار يسهل عليها أن تنكر دعواه بأن تتلف الورق الذي هو حجته، فعاد ساخطًا محترق الفؤاد تارة يلعن عمته لطمعها، ويقول: «لو تمنحني يد لويزا فأتنازل عن لقبي وحقي من ثروة أبي!» وطورًا يلعن خاله لأجل إرساله الأوراق إلى عمته وعدم تسليمها إياه هو. وقد تمادى بالغيظ والحزن، فلم يدرِ نفسه إلا وهو أمام منزله، فصعد إلى غرفته فوجد بريد الصباح ينتظره فقلَّبه، فعثر على غلاف مُعَنْوَن بخط لويزا ففتحه بلهفة وقرأه كما يأتي:

عزيزي إدورد

لا تأتِ إلى قصر كنستون قبل أن تذهب إلى خالك، وتحتال عليه لتتحقق أمر الأوراق الرسمية منه؛ ذلك لأنه ورد لأمي في المساء كتاب بإمضاء خالك يخبرها فيه الحقيقة كما علمتها أنت من الشيخ المستر داي، أو بالأحرى المستر برون، ويقول: إنه أرسل لها الأوراق ضمن حقيبة جلد زرقاء مرسلة في البريد نفسه الذي أرسل فيه كتابه، فبحثت أمي عن الحقيبة المذكورة بين مواد بريدها فوجدتها، ولكن لما فتحتها لم تجد فيها إلا ورقًا أبيض، فغضبت وسخطت جدًّا وأنت تعلم كيف تسخط وتغضب، وظنت أنك وخالك تمازحانها مكايدةً لها أولًا لأنها منذ عشرين عامًا رفضت خالك زوجًا لها، ثم في هذا العام رفضتك زوجًا لي، فلا أدري هل يَجِدُّ خالك أم يهزل حقيقة، وهاك نسخة رسالته لتقرأها لعلك تستنتج منها نتيجة مفيدة في تحقيق الأمر.

لويزا
ثم فتح إدورد الورقة الثانية التي فيها نسخة كتاب خاله فقرأ كما يأتي:

سيدتي الفاضلة اللايدي بنتن المحترمة

تعرفينني وأعرفك منذ أكثر من عشرين عامًا يوم كنا كلانا في شرخ الشباب وفي أشد عنفوانه، أما الآن فإذا اجتمعنا رأى كلٌّ منا الآخر قد تغيَّر في طبعه ومزاجه كما تغير في سحنته، فحرارة الشباب قد بردت ونزق الصبا قد تحوَّل إلى أناة وصبر وحلم.

في ذلك العهد كنت كما كنت في أعلى قمة الشموخ والخيلاء، فلما طلبت يدكِ أبيتِ بازدراءٍ واحتقارٍ مع أني كنت أعدُّ نفسي أعظم منك بثروتي بمقدار ما أنتِ أعظم مني بحسبك، ولما رفضتْني شعرت بجرح في فؤادي لا يبرأ إلا إذا أذللتُ كبرياءك؛ ولذلك صممت أن أزوج أختي من أخيكِ المرحوم اللورد هركورت سميث، وقد حسَّنتُها له وأغريته بجمالها، وملَّقته بودادها حتى نجح مشروعي. وإذا تأكدنا أن ذلك يسوءك جدًّا، وأنكِ تحرضين أباكِ على أن يحرم أخاكِ من اللقب والإرث إذا تزوج أختي عقدنا الإكليل سرًّا.

ولما ولدت أختي غلامًا وشَمنا الغلام على ظهره بعلامة صليب، وكتب أبوه رقيمًا وأمضاه بخط يده إقرارًا بأنه ابنه بدليل الوشم؛ لأن أختي ماتت على أثر النفاس، وبقي الصبي تحت عنايتي ريثما يتسنَّى لأخيكِ أن يعلن زواجه بعد وفاة أبيه، ثم توفي أبوكِ ولحقه أخوكِ على الأثر قبل أن يعلن زواجه السري. فخطر لي حينئذٍ أن أبقي ذلك الزواج مكتومًا إلى أن يشب الصبي فأزوِّجه ابنتي التي ولدت في ذلك الحين حتى إذا تمت هذه الأمنية أكون قد نلت وطري في حالةٍ أفضل.

ولما شبَّ الصبي بعدما بذلت كل غالٍ ورخيص في سبيل تعليمه وتربيته وجدت نفسي أحبه حبًّا شديدًا، وصرت أتمنى أن أزوجه ابنتي لأجل أني أحبه لا لكي أكيدك؛ لأن الجرح الذي جرحتني به اندمل على تمادي الزمان.

وقد عرضت عليه ابنتي وأغريته بالثروة الطائلة وبالمجد المخبوء فلم أَفُزْ بفؤاده، وعند ذاك عرفت أنه يحب ابنتك، فحاولت أن أثنيه عن حبها وأحبِّبه بابنتي فلم أفلح، وقد صبرت عليه إلى الآن حتى قطعتُ الأمل من استمالته؛ ولذلك رأيت أن أعلن له نسبه عن يدك.

واصلك صحبة رسالتي في هذا البريد نفسه «حقيبة زرقاء» تنطوي على الأوراق الرسمية التي تثبت زواج أخيك وشخصية اللورد إدورد ابنه، فافعلي بها ما تشائين.

اللورد إدورد شاب نابغة ولطيف وطيب القلب. أنصحك أن تزوجيه ابنتك، لا تجدين مثله بين طالبي يدها، واقبلي فائق احترامي.

جوزف هوكر

قرأ إدورد رسالة خاله إلى اللايدي بنتن مرارًا وتأملها جيدًا، وقابلها بالحديث الذي سمعه منه بالأمس، وبالدموع التي سكبها على خده عندما عانقه، فلم تتراءَ له هزلًا ولا مزاحًا. إذن ما هو تعليل هذه الأوراق البيضاء في المحفظة؟ ألعلَّ الأقدار محت نسبه عن تلك الأوراق لكي تحرمه لويزا حبيبته؟ احتدم غيظه واشتد حزنه حتى كادت نفسه تطير شعاعًا، فركب مركبته ودرجت به توًّا تسابق الريح إلى بيت خاله، فدخل المنزل وهو لا يدري بأي لهجة يقابل خاله، أبالعتاب أم بالخصام أم بالحيرة؟ فالتقى به في باب الرحبة على أهبة الخروج إلى معمله، فلما رآه المستر هوكر وعلى محياه غيهب من الغم كثيفٌ حالكٌ اقشعرَّ بدنه، وقال بانبغات: ما خبرك يا حبيبي إدورد؟

– إن كنت تمزح يا سيدي، فالأمر جلل لا يحتمل المزاح، فبربك قل لي الحقيقة: أين الأوراق؟

فأجاب المستر هوكر بكل رزانة وجِدٍّ: قلت لك أمس إني أرسلتها إلى اللايدي بنتن.

– قل الصدق.

فقال المستر هوكر بسخط وقد اكمدَّت ملامحه: يا لله يا إدورد!

– وصلت المحفظة مشتملة على ورق أبيض. اقرأ هذا الكتاب.

وفي الحال دفع إليه رسالة لويزا فقرأها المستر هوكر، وشعر أن شاربيه يتراقصان، فقال: ويلاه! كيف ذلك؟ أين فقد الورق؟ أي يد لعبت بالحقيبة؟!

– إذن أنت تؤكد أن الورق كان في الحقيبة لما أرسلتها؟

– من غير بُدٍّ، تفقدت الورق فيها فوجدته تامًّا، ثم أخذت أكتب الرسالة للايدي بنتن، وما انتهيت من تحريرها حتى حصلت حادثة الكلب، فعالجته وعدت فغلفت الرسالة ولففت الحقيبة وختمتها بالشمع الأحمر، ونزلت في الحال ووضعتهما من يدي في البريد.

– ألا يحتمل أن يكون أحد عمال البريد قد سرق الورق؟

– ولكن من يدري ماذا كان في الحقيبة، ولماذا يسرقه؟! وماذا يفيده؟ لا أدري لا أدري. حيَّرني فَقْدُ هذا الورق.

– ابحث الآن بين أوراقك لعله بقي عندك عن سهوٍ.

فدخلا كلاهما إلى مكتب المستر هوكر وبحثا بين أوراقه كلها، فلم يجدا لذلك الورق أثرًا. فقال المستر هوكر: يستحيل أن يبقى الورق هنا، بل هو مسروق عمدًا، وإلا فما معنى وجود الورق الأبيض في الحقيبة.

– ولكن كيف يُسرق، إنه وايم الحقِّ لأمر عجيب.

– هلمَّ بنا إلى قصر كنستون؛ فنتحرى المسألة هناك ونرى المحفظة نفسها لنعلم كيف فُتحت واختُلس الورق منها.

عند ذلك لم يبقَ ريب عند إدورد أن خاله يصدق فيما يقول فقال: ولكن اللايدي بنتن لا تستقبلنا؛ لأنها ساخطة جدًّا وقد قصدتُ في هذا الصباح إلى قصر كنستون قبل أن تصل رسائلي والتمست مقابلتها، فعادت وصيفتها تنقل إليَّ إرعادها وإبراقها حتى كأني شعرت برجة غضبها وأنا خارج القصر.

– إذن ماذا نفعل؟ لا بد من الاجتماع باللايدي بنتن وتحقق الأمر معها، فمتى وصلنا إلى القصر نرى الوسيلة الممكنة لمقابلتها وتفهُّم أمر الحقيبة منها جيدًا.

وفي الحال ركبا توًّا إلى قصر كنستون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤