الفصل الرابع والعشرون

حب وعهد في ساعة واحدة

وما سدل الليل سجوفه حتى كان قصر كنستون يتألق أبهة وسناءً، وقلب لويزا يرقص بهجة وهناءً، واللايدي واللورد بنتن واللورد روبرت يتهللون سرورًا لتحققهم أن إدورد نسيبهم؛ ولأنهم كانوا يحبونه جدًّا لنبوغه، ولما كانوا يقدِّرونه له من المستقبل المجيد في عالم السياسة، وكل ما كان عند اللايدي بنتن من الكِبر والصلَف قد لاشاه حبها له وحنانها إليه لأنه ابن أخيها، أما إدورد فلم يكن ليرتوي من النظر إلى لويزا ومحادثتها وملاطفتها؛ حتى إنه كاد يلتهمها حبًّا بعينيه كما التهمها بقلبه لأنها كانت وميض بِشْر له وينبوع إيناس.

وقد احتفى الكل بالمستر هوكر وبأليس ابنته، وأعجبوا بما رأوه من جمالها وبهائها وجلالها وحسن روائها؛ حتى إن اللايدي بنتن لم تكن لتتوهمها إلا سليلة النبل والشرف.

وكان في ذلك المساء أن روبرت أعجب غاية الإعجاب بأليس، فأولع بها وظل يحتفل بها ويجاملها حتى لاحظ الكل أمره معها، فبعد تناول العشاء وتفرقهم أزواجًا في قاعات القصر وشرفاته أخذت اللايدي بنتن يد ابنها وأدخلته إلى غرفتها، وقالت له باسمة: أراك يا ولدي روبرت تحتفل كثيرًا بمس هوكر.

– أليس من الواجب يا أماه أن نحتفل بالضيوف؟

– نعم واجب، ولكنك اقتصرت على الاحتفال بأليس وحدها؛ فلا أظن أن هذه الحفاوة كلها من قبيل الواجب بل هناك داعٍ أكبر لها، داعٍ من القلب. أليس كذلك يا روبرت؟

فابتسم روبرت قائلًا: وهل من مانع أن أحتفي بها كحبيبة يا أمي؟

– كيف ترى أليس يا روبرت؟

– إني أراها آية جمال وكمال وأدب. هل أنا غلطان؟

– كلا يا روبرت، إني معجبة بها وأراها لائقة بقصور الأمراء، فهل تشاء أن تكون زوجة لك؟

– كذا أفتكر يا أماه، فإذا كنتِ وأبي ترضيانها؛ فإني أُسَرُّ بأن تحققا أمنيتي.

فاستدعت اللايدي بنتن زوجها وسألته عن رأيه فوافق رأيها بسرور، وقرَّرا أن يسألها روبرت أولًا عن رغبتها بأسلوب بسيط، وفي الحال ذهب إليها وانفرد بها في الشرفة وحادثها طويلًا أحاديث مختلفة، حتى تطرَّق معها في الكلام إلى الحديث الآتي: لي الأمل أن تكوني مسرورة في هذا المساء يا مس أليس.

– لا أظنك تشك بذلك يا حضرة اللورد.

– إذن أعدُّ نفسي سعيدًا.

– أنا السعيدة يا سيدي، بل أرى أن السعادة محصورة في هذا القصر المجيد.

– إذا كان هذا ما تعتقدين يا سيدتي، فإن القصر يتشرف بأن يكون مقامك الدائم إذا شئتِ.

فاقشعرت أليس لهذا القول ولم تُجِبْ، فعاد روبرت يقول لها: لِمَ سكتِّ يا عزيزتي؟

فقالت متلعثمة: هل تعني ما قلتَ يا سيدي؟

– إن ما أقوله هو أمنيتي فهل يسوءكِ؟

– كلا، وإنما زعزع قوامي؛ لأنه سعادة مفاجئة.

– كذا كانت سعادتي في هذا المساء يا حبيبتي، وما أعظم السعادة إذا كانت مفاجئة!

– إني أخاف يا عزيزي روبرت أن تكون هذه السعادة المفاجئة حلمًا سريع الزوال.

– لا سمح الله يا أليس.

فتنهدت أليس متمتمة لنفسها: أشكر الله لأنه لم ينسَ صبري وإخلاصي.

ثم رفعت صوتها قائلة: ولكن …

– ماذا؟

– أرى أن بيني وبينك يا سيدي عقبة صعبة المرتقى جدًّا.

– لا عقبة تستطيع الحيلولة بين القلوب المتفاهمة، فماذا تعنين؟

– أنسيت أن سيادة اللايدي بنتن والدتك قد أنكرت يد اللايدي لويزا على إدورد ابن عمتي؛ لأنها كانت تظنه من العامَّة لا ينبض فيه دم النبلاء؟

فضحك روبرت قائلًا: حقكِ أن تظني هذا الظن، ولكن لا أخفي عليكِ أن سرور أمي بإدورد ابن أخيها خفَّف جدًّا من غلوائها، وأزال كل حقد من قلبها على أبيكِ، وصارت تنظر إليه كصديق كبير عريض الجاه عالي المقام، وإدورد نفسه لم يدَّخر جهدًا اليوم بالتأثير على والديَّ أن خاله المستر هوكر رجل عظيم في عقله نبيل في قلبه شريف في مبادئه، وأنه — أي إدورد — إذا كان يتصف بحسنة؛ فلأن خاله رباه على يديه، وقد عرَّض إدورد بذكرك كثيرًا في هذا النهار، وامتدح صفاتك حتى تعلقنا كلنا بك قبل أن نراكِ، ولما رأيناكِ وجدنا الحُبر أفضل من الخبر.

– لا ريب أن إدورد خلبكم بسحر بيانه، فأوهمكم أن لي محاسن تستحق ثناءكم، فكم أنا مدينة للطفه!

– لم نعد في حاجة إلى شهادة يا أليس، ها أنتِ بيننا وكلنا معجبون بما أنسناه من لطفك وأدبك، فإذا كنتِ تتوهمين أن والديَّ عقبة في سبيل حبنا فأنتِ مخطئة؛ لأني استشرتهما بالأمر فأظهرا تمام الرضى.

ثم تناول روبرت يد أليس وهمَّ أن يقبِّلها، فاجتذبتها منه قائلة: عفوك يا حبيبي أنت استشرتَ أبويك وأنا لي أبٌ.

– أتظنينه يأبى؟

– يستحيل أن يأبى، ولكن واجب الأدب …

– يقتضي أن يُستشار، نعم يستشار، لا أنكر ذلك، وإنما خاطبتك أنا أولًا بهذا الموضوع لكي أعلم رغبتك حتى إذا استحسنتِ الأمر كلَّم أبواي أباكِ بشأنه، وها أنا مخبرهما بنتيجة حديثنا.

وعند ذلك انفرد روبرت بأبويه وأخبرهما خلاصة حديثه مع أليس، فانفردت اللايدي بنتن بالمستر هوكر، وقالت: أي شيء كان ألذَّ لك في هذا المساء يا مستر هوكر؟

– أن أرى إدورد ولويزا يتمازحان فيتغاضبان هنيهة ويتراضيان أخرى، فكانت كل حركة من حركاتهما نقرة على وتر السرور في قلبي، أما لذَّ لكِ ذلك يا حضرة اللايدي بنتن؟

– بالحقيقة سرني جدًّا، ثم سرني شيء آخر مثله أيضًا، أما لاحظته؟

فضحك ضحكة المتجاهل قائلًا: ماذا؟ لم ألحظ غير أمر إدورد ولويزا.

– يستحيل إلا أن تكون قد لاحظت تجامل أليس وروبرت.

– نعم، لاحظت شيئًا من ذلك فنسبته إلى لطف اللورد روبرت الفائق نحو ابنتي، ولا سيما لأنها ضيفته لأول زيارة.

– ما هو لطف يا مستر هوكر، بل هو حب.

– لا أظن اللورد روبرت يعبأ بمثل أليس يا مولاتي.

– ليست لويزا بأفضل من أليس يا مستر هوكر، والذي رَبَّى إدورد هذه التربية السامية رَبَّى أليس، وكما ربيتَ لي إدورد ربيتُ لك روبرت، فأليس وروبرت حبيبان الآن فلا أظنك إلا تسرُّ بأن يكونا زوجين.

– ولكن هل تحققتِ ما تقولين يا سيدتي؟!

– نعم، فقد اطَّلعت على أفكار روبرت بهذا الشأن، وهو نقر على وتر قلب أليس فسمعه مجاوبًا لوتر قلبه، وأنا واللورد بنتن فَرِحَان بهذا التوافق، وأنت؟

– لي الفرح الأكبر.

ثم تصافحا وامتزجا بين البقية، وأعلنت اللايدي بنتن الأمر للجميع؛ فبادلوا بعضهم التهاني، وأتموا سهرتهم في منتهى الهناء والصفاء.

•••

بعد بضعة أسابيع نشرت جرائد إنكلترا أن قد زُفَّتْ اللايدي لويزا بنتن إلى ابن خالها اللورد إدورد سميث، والمس أليس هوكر إلى اللورد روبرت بنتن في مساء يوم واحد في قصر كنستون في احتفالٍ أنيقٍ حضره معظم نبلاء لندن وكبارها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤