المقدمة

لم نسمع قط أن إنسانًا تقدم للقتل راضيًا، أو كد نفسه حتى مات في سبيل أكلة شهية يشتهيها أو عقار يقتنيه، وإنما سمعنا أن ناسًا عديدين تقدموا للقتل من أجل عقيدة جديدة آمنوا بها، ولم يقرهم عليها الجمهور أو الحكومة، وسمعنا أيضًا عن ناس ضحَّوْا بأنفسهم في سبيل اكتشاف أو اختراع.

فما معنى ذلك؟ معناه أن شهوة التطور في نفوسنا أقوى جدًّا من شهوة الطعام أو اقتناء المال، وأن هذه الشهوة تبلغ من نفوسنا أننا نرضى بالقتل في سبيل إرضائها، وأننا لا نقوى على إنكارها وضبطها؛ فالحياة دأبها التحوُّل من أدنى إلى أعلى، والتجدد باكتساب عناصر مما حولها، وتنقية بعض ما فيها مما هي في غنًى عنه، ونقول بعبارة أخرى: إن من دأبها التطور، فإذا وجدت أن أنظمتنا الاجتماعية قد سدَّت عليها أبواب التطور فإنها لا تنفك تحاول فتحها، أو تموت دونها، راغبة فيما هو أرقى منها، والجمود هو طبيعة المؤسسات الاجتماعية، بينما التطور هو طبيعة الحياة، فإذا اتسعت الهوة بينهما عمدت الحياة إلى الخروج والثورة والتحطيم.

وهذا هو معنى استشهاد الأنبياء والعلماء والفلاسفة وغيرهم في سبيل آرائهم الجديدة التي ينشرونها على الناس، فسقراط يشرب السم راضيًا؛ لأنه يشعر أن شهوة التطور التي تنزع به إلى العلا أقوى من شهوة البقاء. والمسيحيون يرضون بأن تأكلهم السباع في ملاهي الرومانيين، ويؤْثرون هذا القتل المرعب على البقاء جامدين راضين بديانة الآباء. والعالم يقعد أمام بوتقته يحاول اكتشاف حقيقة علمية قد بصر بها قلبه، فيكدح راضيًا بالجهد والفقر والموت حتى يبلغها، وكل هؤلاء آلاتٌ تستعملهم الحياة لأغراضها العليا، وتحقق بهم ناموسها العظيم وهو التطور.

وليس الاضطهاد الذي أصاب حرية الفكر، والاستشهاد الذي رضي به الأحرار؛ سوى صراع اصطرع فيه الجمود والتطور، جمود القاعدة الاجتماعية مع تطور الحياة، والفوز على الدوام للتطور على الجمود.

•••

وقد يظن القارئ أن المفكر ما دام يُفكر فقط يكون تفكيرًا حرًّا، لا يمكن أحدًا أن يدخل إلى ذهنه ويعوقه عن التفكير في أيَّة ناحية يريد، ولكن الواقع أن التفكير لا يكون حرًّا طليقًا حتى نستطيع البوح والإفضاء به إلى غيرنا؛ لأن الفكرة طاقة؛ أي قوة من قوى الذهن، لا تزال منحبسة شأنها شأنُ جميع القوى المنحبسة تعذب الذهن حتى تنصرف بالعمل.

والإنسان كالحيوان، طبع على أن لا يخطر بباله خاطر حتى ينصرف إلى عمل وحركة، وجهاز الحيوان العصبي لم يُخلق في الأصل إلا لخدمة حركات الجسم، وذهن الحيوان عاليًا كان أم دانيًا في سلم التطور هو جزء من هذا الجهاز؛ فالخواطرُ الذهنية هي قوًى عصبيةٌ، إذا حبسناها آلمتْنا وعذبتنا، وأحيانًا تؤدي إلى الهوس بل الجنون، وجنون العاشق الذي لا يجد في معشوقته تلبية لعواطفه يرجع إلى أن خواطر العشق قد انحبست في ذهنه لا تجد منصرفًا.

وكل منا يعرف أن في الإفضاء والبوح منفرجًا للصدور، وأن همومنا تخف إذا شاركنا غيرنا فيها، والخواطر العلمية أو الفلسفية تؤذي صاحبها وتعذبه إذا لم يجد لها منصرفًا بالبوح بها إلى الناس؛ لأنها تبقى في نفسه كالهم الرابض، لا يستريح منه حتى يفضي به إلى الناس. فحرية الفكر إذن حرية البوح بالقول.

ولكن التَّاريخ يثبت أن معظم الذين باحوا بما في صدورهم مما اعتقدوا حقيقة علمية أو فلسفية أو دينية؛ نالوا من الاضطهاد بالتعذيب أو الحبس أو القتل الشيءَ الكثير، الذي لم يخلُ منه قرن منذ أكثر من ألفي سنة، فما علة ذلك؟
  • العلة الأولى: أن الناس مطبوعون على الكسل والاستنامة إلى ما أَلِفُوه من العادات الفكرية والعملية، فالإنسان في أحوال معيشته لا يخترع كل يوم، وإنما يجري على عادة أمسه فيسهل عليه عمله، فإذا ابتدع أحدٌ بدعة جديدة في اللباس أو الطعام أو الغناء أو الشعائر الدينية، أو حتى الأُسلوب الكتابي؛ فإنه يصدمنا لأول وهلة، ويكلِّفنا تفكيرًا أو جهدًا كنا في غنًى عنه، لولا بدعته.
  • والعلة الثانية: أن المصلحة الماليةَ والمعاشية كثيرًا ما تكون متعلقةً بالعادات المعروفة، فتبديلها يضيع على بعض الطبقات هذه المصلحة، فالغنيُّ يكره الاشتراكية لمصلحة واضحة، والقاضي الذي يتناول من المال نحو ألف وخمسمائة جنيه كل عام يحكم بالسجن على الخطيب الاشتراكي، ويلذ له النطق بالحكم؛ لأنه لا يرى فيه خصمًا للعدالة فقط، بل خصمًا لشخصه أيضًا، فالاشتراكية بدعة تصطدم بمصالح الأغنياء؛ ولذلك ليس الناس أحرارًا في البوح بأفكارهم عنها الآن في معظم أقطار العالم.
  • وعلة ثالثة: للتعصب واضطهاد الأفكار الجديدة هي: الجهل؛ فإن الذي يجهل نظرية التطور، ويؤمن بأن أبا البشر آدم وأمهم حواء؛ يكره كل من يقول بهذه النظرية الملعونة، والذي يجهل اللغات الأوروبية من شيوخنا يكره كل مَنْ لا يقول بأن اللغة العربية أفصح اللغات وأشرفها، ولا يمنعه من الاضطهاد إلا عجزه.
  • وعلة رابعة: هي: الخوف؛ فإن العجوز مثلًا قد تؤمن بالأولياء والقديسين، وتتشفع بهم، ولا يمكن — وهي في هذه الحال — أن تطالعها بحرية المناقشة فيما يُعزى إلى هؤلاء الأشخاص من الكرامات؛ لأن خوفها يمنعها من أن تطلق لذهنها هذه الحرية، ومن هنا أيضًا تدرك علة تقييد الحرية مدة الحروب؛ لأن الخوف من العدو يزيد وساوس رجال الدولة.

وأحيانًا تجد هذه العلل الأربع مجموعة بعضها أو كلها في طائفة من الناس، فإذا كان للدولة دينٌ رسمي صار الطعن في الدين أو انتقادُه داعية إلى تألُّب طوائف عديدة للذب عنه، منهم العامة الذين يحثهم خوفهم من الدين على اضطهاد المنتقد، ومنهم الكهنة الذين يخشون على مصالحهم، ومنهم جميع أفراد الأُمة تقريبًا الذين يرون أن السير على سنن السلف أيسرُ على قلوبهم من ابتداع البدع؛ لأنه يجب ألا ننسى أن الجماعات بحكم بيئتها مطبوعة على الجمود.

ولكن البدع تفوز في النهاية؛ لأنها وإن كانت تبدأ مع قلة من الأُمة إلا أنها لِمَا فيها من ميزات تتغلب على العادات الموروثة، وكل تقدم للإنسان مصحوبٌ ببدعة، ولولا ذلك لَمَا تم اختراعٌ أو اكتشافٌ، وكلنا يتألم عند اصطناعنا بدعة جديدة لأول مرة، ولكن معرفتنا بفائدتها تجعلنا نرضى بهذا الألم، الذي يزول بالاعتياد والرياضة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤