الإسلام والفنون والعلوم

كان المسلمون إحدى حلقات الاتصال بين الإغريق القدماء وأوروبا الحديثة، نقلوا علوم الإغريق وفلسفاتهم إلى العربية، إما من الإغريقية مباشرة وإما من السريانية، وامتاز العرب عن الإغريق بنزعة علمية في العلوم، كان أساسها وغايتها إحالة المعادن الخسيسة إلى ذهب، وقد اشتغل الإغريق بالعلوم ولكن نزعتهم فيها كانت نظرية — إذا استثنينا أرسطوطاليس وأرشميدس — ولذلك اتجه نشاط الإغريق إلى ما يوافق هذه النزعة في الأدب والفلسفة، ولكن المسلمين عمدوا إلى التجارب بالنار والبوتقة، فعرفوا أشياء ثمينة في الكيمياء، وقد انتفعت أوروبا بما احتفظ به العرب من كتب الإغريق كما انتفعت أيضًا بتلك النزعة التجريبية العلمية التي اتسم بها كيميائيو العرب.

وانتفعت أوروبا من العرب بالنزعة الرومانتيكية الخيالية Romantic التي هي أصل القصص الحديثة، فقد كانت قصص الحب والأشعار الغزلية منتشرة بين عرب الأندلس، فلما انتقلت إلى أوروبا في جنوب فرنسا أحدثت تلك الحركة الرومانتيكية الخيالية، التي يتسم بها جزء كبير من الأدب الأوروبي الحديث.

يتبين للقارئ من ذلك أن أوروبا كانت مدة القرون الوسطى في ظلام الجهل، وأن العرب في ذلك الوقت كانوا في حركة علمية صحيحة الوسائل مخطئة الغاية، وفي حركة فلسفية تجديدية قائمة على إيجاد الفلسفات الإغريقية السابقة.

وقد كان «فم الذهب» بطريك القسطنطينية يفخر في القرن الرابع بأنَّ كتب القدماء الوثنيين قد زالت من الأرض، فلما كان القرن الثامن كان المسلمون في بغداد ينفقون الأموال الجمة في نقل هذه الكتب إلى لُغتهم، ويفخرون بالعلم والعلماء.

هذا من حيث العلم والفلسفة، فإن رجال الدين بين المسلمين لم يعارضوها إلا قليلًا — كما سنرى بعد — أما من حيث الأدب وفنونه جميعها فإن العرب قصروا تقصيرًا شنيعًا، وبعض هذا التقصير قد يرجع إلى الدين الذي قيدهم، ومنعهم من الانبعاث لمطالبه.

وقبل أن نتكلم عن الأدب يجب أن نقول: إن الدين أيضًا أو الخلافة جعلت الطب أسخف لعبة لعب بها العرب في تاريخهم، فقد منعوا التشريح، واعتبروه مُثلة يحرمها الدين، فلم يعرف أطباء العرب شيئًا عن جسم الإنسان، ووقفت معارفهم عند حد القول بما قال جالينوس وقال أبوقراط، وصار علم الطب بذلك أشبه شيء بعلم الحديث، حتى لقد حفزت الغزيرة العلمية أحد الأطباء النصارى في العراق بأن يعرف شيئًا عن الجسم، فاشترى قردًا، وأخذ يشرحه ويدرس الأعضاء بتشريحه قانعًا من الأصل بالبدل، ويمكن القارئ أن يستنتج أن «التشخيص» الذي لا تمكن المعالجة بدونه كان مجهولًا عند أطباء العرب.

أما الأدب فإن العرب تقيدوا من البدء بالقرآن، فلم ينقلوا شيئًا من الأدب الإغريقي للإشارات الوثنية التي فيه عن الآلهة والمعابد، ثم كانت الروح البدوية سائدةً أيضًا فقُوطعت الفنون الجميلة؛ لأن البدوي يكره — بطبيعته — جميعَ ضروب الترف والحضارة، وهو نفسه يعيش في صحراء، لا يحتاج إلى فُنون الحضارة من عمارة وتصوير ونقش؛ ولذلك حرم التصوير كما حرمت صناعة التماثيل، وصار الغناء والموسيقى لهوًا يتلهى به السكارى، وبلغ من احتقارهما أن منعت شهادة المغني والموسيقِي أمام القاضي. وقد اكتسبنا نحن — بحكم التقاليد — شيئًا من هذا النظر للموسيقَى والغناء؛ فمعظم من يذهب منا لسماعها يحتاج إلى الشراب.

وعاد الأدب العربي بعد ذلك يجتر نفسه، ويعيش على الألفاظ والصنعة، وجرى به ذلك القدر الذي جرى على الفنون البيزنطية حين هجرت الحياة، واعتمدت على الصنعة، فصارت مسخًا من الحياة، وتدهور الغناء والرقص والموسيقى إلى ضروب من الخلاعة والتخنُّث، لا يستطيع رجلٌ له كرامة الرجال أن يشاهدها بلا اشمئزاز، دع عنك ممارستها.

ولكننا نعود فنقول: هل تحريم التصوير وصناعة التماثيل يعود إلى تفاسير الفقهاء للإسلام أم يعود إلى الروح البدوية التي كان يتسم بها العرب؟ وقد نُجيب على ذلك بأن هؤلاء الفقهاء كانوا هم أنفسهم عربًا شديدي النزوع إلى البداوة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤