النهضة الأوروبية

شملت النهضة الأوروبية جملة مناحي النشاط الفكري، فقد كان لسان حال الناهضين في الدين يقول: «انشدوا الحق في الكتاب المقدس، ولا تبالوا بالكهنة والكنيسة.»

ولسان حال الناهضين في الأدب يقول: «انشدوا الحقيقة في كتب القدماء، وخاصة الإغريق، ولا تبالوا بالكتاب المقدس.»

ولسان حال الناهضين في العلم يقول: «دعنا مما حفظناه عن أرسطوطاليس وجالينوس، واعمد إلى بوتقتك، وجرب وخذ مشرطك وشرِّح.»

وبعبارة أخرى نقول: إن النهضة بأنواعها قد استقت روح التجديد من ثلاثة مصادر:
  • (١)

    الأدب وفنونه من الإغريق القدماء، وقد ابتدأت دراسة لغة الإغريق بعد أن مات في أوروبا نحو ألف سنة في إيطاليا، ثم انتشرت عندما استولى الأتراك على القسطنطينية، فهجرها الرهبان وكانوا يدرسون هذه اللغة.

  • (٢)

    العلوم التجريبية من عرب الأندلس.

  • (٣)

    دراسة الكتاب المقدس من العبرانية والإغريقية.

ولكن كان هناك للنهضة دافعٌ آخرُ يدفعها إلى العمل، نعني به: سد طريق التجارة بين أوروبا وآسيا وباستيلاء الأتراك على سوريا ومصر؛ فإن مصر وسوريا عَمَّهما الخراب لسد هذه الطريق، وعدم انتفاعهما بمرور التجارة بين القارتين، ولكن أوروبا انتفعت بغباوة الأتراك، فعمدت إلى اكتشافاتها الجغرافية العظيمة، ويُمكن أن يقال: إن هذه الاكتشافات كانت نتيجة النهضة، وهذا صحيح، ولكنها كانت أيضًا دافعًا آخر يجرئ الناهضين في العلم والأدب والفلسفة والدين على التفكير الحر الجريء.

فإن الراهب العالم، الذي كان يدرس كتب القديس أوغسطين، وينظر إليها نظرة الاحترام، التي ينظر بها إلى الكتب المقدسة — تزعزع إيمانُه به وبغيره من القدماء عندما رأى أنه كان يجزم بأن القول بوجود أناس في الجهة الأخرى من الكرة الأرضية هرطقة؛ لأن هذه الجهة لم ير سكانها المسيح الذي جاء لجميع البشر، ألم ير هو أن كولمبوس قد اكتشف أميركا سنة ١٤٩٢، وأن فاسكو دي غاما قد بلغ جزائر الهند سنة ١٤٩٩؟

ولم يكن الشك في آباء الكنيسة فقط، بل تعدى إلى أرسطوطاليس نفسه، فقد كانت كلمة أرسطوطاليس هي العليا، تتحطم الرءُوس في تفسيرها، ولا تستطيع معارضتها طول مدة القرون الوسطى، وحسبك دليلًا على مكانة هذا الفيلسوف أن الرشديين والميمونيين كان لكل منهم فلسفةٌ تعارض إحداهما الأخرى، وكانت كلتاهما — مع ذلك — قائمة على أساس فلسفة أرسطوطاليس، كأن أقوال هذا الإغريقي العظيم أصبحتْ ناموسًا طبيعيًّا، يتفهمه الناسُ ولا يستطيعون إنكارَه، وإن كانوا يختلفون في تفسيره.

فقد كان يقول بأن الأرض مركزُ الكون، وعاشتْ هذه العقيدة نحو ألفي سنة حتى كانت النهضة الأوروبية، فإننا نجد «نقولا كاسا» الذي مات سنة ١٤٦٤ يُعلن عن شكه فيها في هوادة وضعف بقوله: «لقد فكرت كثيرًا، وظني أن الأرض غيرُ ثابتة، وإنها لتتحرك كما تتحرك الكواكب … وأظن أنها تدور حول محورها مرة كل يوم.»

ولم يضطهد كاسا لهذه الظنون الخطيرة؛ لأن رجال الدين لم يفطنوا لمرماها البعيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤