المطبعة

اعتدنا رؤية الكتب والصحف، نقتنيها ونقرأها، بل نطرحها لكثرتها ولقلة أثمانها، حتى لَيكاد يتعذر علينا أن نتصور زمنًا كان يعيش فيه الناس بلا كتب أو صحف مطبوعة.

ومع ذلك فإن هذا كان الواقع إلى القرن الخامس عشر، ولم يكن فن الطبع نفسه مجهولًا، فإن الشرقيين والغربيين كانوا يعرفون الأختام منذ زمان بعيد، ويطبعونها على المراسيم والمنشورات، وكانت أوراق الكوتشينة معروفة، تُباع للناس مطبوعة قبل أن تُخترع طباعة الكتب بأكثر من قرن، ومع ذلك لم يفكر أحدٌ في طباعة الكتب إلا في قرن النهضة، القرن الخامس عشر.

وإنما كان ذلك؛ لأن نزعة النهضة لم تكن بعد قد أُشربت بها النفوسُ، والإنسان يعمى عن أبسط الأشياء ما لم تتملك نفسه نزعة خاصة، تجعله ينقب ويبحث ويتساءل ويشك ويجرِّب، وكان الناس في أُوروبا مدة القرون الوسطى لا يعرفون من العلم سوى ما قاله السلفُ الصالح، يقضون أوقاتهم في تفسير أقوالهم على نحو ما يفعل بعض الشرقيين الذين هم نكبة الشرق الآن.

وتنسب الطباعة الحديثة إلى جوتمبرج الألماني، الذي مات سنة ١٤٦٨، فهو الذي صنع الحروف المنفصلة، وطبع بها عدة كتب، لا يزال يوجد منها للآن في متحف مينز توراة مطبوعة باللاتينية، ومعجم لاتيني، وجزء من تقويم، وهذه أشياءُ ضئيلة القيمة في ذاتها، ولكن جوتمبرج أشعل شرارةً لو كان علم الرجعيون بمبلغ النار التي ستُؤججها فيما بعد لوأدوا المطبعة في مهدها.

فإنه ما جاء القرن السادس عشر حتى انتشرت المطابع، وصارت الكتب تخرج منها بالآلاف واضحة الخط، رخيصة الثمن، فأقبل عليها الجمهور، يستنير بهذه المعارف التي كانت قبلًا وقفًا على الأغنياء، ورأى الكهنةُ أنهم أمام تيار قويٍّ من الثقافة، يكاد يطفو بهم ويغرقهم، فألَّفوا المجامع لحرمان الناس من قراءة الكتب التي لا توافق الكنيسة على نشرها، وكانوا ينشرون أسماء هذه الكتب فيما يسمى «القائمة» أو «الدليل».

ولكن «القائمة» بدلًا من أن ترُد الناس عن قراءة هذه الكتب كانت تحثهم على اقتنائها، وكان الطبَّاعون في ألمانيا وهولندا يبعثون وكلاءهم؛ لكي يبحثوا عن الكتب الواردة بقائمة الحرم، فينسخونها ويحملونها إلى مطابعهم في شمال أوروبا ويطبعونها. وكانت «قائمة» الكنيسة أكبر إعلان للكتاب، وصار للمطابع الشهيرة في أوروبا وكلاء يقيمون في رومية، وينسخون الكتب الواردة بالقائمة، وينفذونها إلى مطابعهم، مغتبطين بتحريم الكنيسة لها؛ لأن هذا التحريم كان أكبر ضمان لرواجها.

ويطول بنا الكلام إذا أردنا أن نتتبع الاضطهادات التي نالت المؤلفين والطباعين من الكنيسة والحكومات، بل آلة الطباعة نفسها، وهي قطع مؤلفة من جماد لا يحس، نالت شيئًا من الاضطهاد؛ لأنه كان يحكم بإغلاقها كأنها جسم حي ينشر الفساد بين الناس ويعاقب بتعطيله.

ولكن «قائمة» الكنيسة، وإحراق الكتب، واضطهاد المؤلفين، وحبس الطبَّاعين، وتعطيل المطابع؛ كل هذه لم تستطع أن تمنع الثقافة من الانتشار؛ لأن فكر الإنسان وشهوته للتطور يأبيان إلا أن يشقا لها طريقًا وسط الاضطهاد نحو الحرية والسمو.

وخير ما يقال عن الطباعة ما قاله ملتون الشاعر الإنجليزي سنة ١٦٤٤، فقد تكلم ملتون عن مراقبة الطباعة، وقال: «إنها تؤدي إلى تثبيت الثقافة ووقف المعارف، وذلك ليس فقط بتعجيز كفاياتنا وثلمها في فحص ما نعرفه، بل أيضًا بإعاقة الاكتشافات الجديدة التي كان يمكن أن تكتشف سواء في الحكمة الدينية أو الحكمة المدنية»، وإذا كان تيار الحقيقة «لا يتدفق ماؤه ويسير قدمًا فإنه يأسن، ويستحيل بركة كدرة، قوامها التجانس والتقاليد.»

ثم يضرب المثل بالأقطار التي بها رقابةٌ على المطبوعات، ويقول: «انظر إلى إيطاليا وإسبانيا، هل هما أحسن حالًا بمثقال ذرة، أو هل هما أشرف أو أحكم أو أطهر بما اكتسبته كل منهما من قسوة محكمة التفتيش في معاملتها للكتب؟!» وأيضًا: «أعطني الحرية في أن أعرف وأن أقول وأن أناقش كما يملي عليَّ ضميري قبل أن تعطيني أية حرية أخرى.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤