سوزيني

سبقت إيطاليا سائر الأمم الأوروبية في ترويج النهضة، وكانت إيطاليا خاصة تمتاز في طبع الكتب أو نسخها من سائر الأقطار، ففي القرن السادس عشر — بينما كان لا يوجد في إنجلترا سوى ست عشرة بلدة بها مطابع وبألمانيا عشرون — كان بإيطاليا مائة بلدة تحتوي كل منها على مطبعة، تعمل ليل نهار جادة في طبع الكتب ونشرها على الناس.

وكان الأمراء الذين يروجون الدعاية للنهضة في إيطاليا عديدين: منهم البابا نقولا الخامس، ومنهم الفونس أمير نابولي، ومنهم أسرة مديتشي، ومنهم البابا ليون العاشر، فإن كل هؤلاء وغيرهم كانوا يكثرون الكتبة لنسخ الكتب القديمة من الأديار لمكاتبهم، أو كانوا يأمرون بطبعها ونشرها على الناس.

وأنت — أيها القارئ العربي — يجب أن تذكر أن أول ما طبع من الكتب العربية في العالم إنما كان في إيطاليا بأمر باباوات رومية.

ولكن مع أن إيطاليا تولَّت زعامة النهضة مدة طويلة، وأخرجت من مطابعها مئات الكتب، التي كانت محبوسة في أديارها، ونشرتها على الناس — فإنها لم تتأثر قط بالنهضة الدينية، بل بقيت كما كانت كاثوليكية، وعاشت فيها محكمة التفتيش إلى سنة ١٨٧٠، ويرجع ذلك إلى إقامة البابوية في رومية، وتسلُّطها على البلاد بجيش جرار من الكهنة والرهبان، فقد كانت رومية منذ القرن الرابع المسيحي إلى الآن معسكر النصرانية الأكبر، ينضوي إلى لوائها جميع الأولياء لهذا الدين.

ولكن مع جدب التربة الإيطالية لبذور الإصلاحات الدينية نجد أن شهوة التطور الديني قد تملكت بعض الأفراد والأسر في إيطاليا، وأسرة سوزيني تعد في طليعة هؤلاء، نشأ منها اثنان عمل كلاهما للتحرير الديني في إيطاليا، وسنقنع بترجمة واحد من هذه الأسرة هو «فوستوس سوزيني».

ورث فوستوس عن جده ضيعة صغيرة، ولم يتزوج إلا بعد أن بلغ الخمسين، فاستطاع أن يعيش مستقلًّا، يرصد وقته للدرس، خاليًا من هموم العائلة والمعاش، وزار فرنسا، وأقام في ليون مدة، ثم عاد إلى إيطاليا سنة ١٥٦٣، واجتاز في عودته بمدينة جنيف، فرأى حكومة كالفن، وكيف تكون المسيحية عندما تستحيل شريعة يتعامل بها الناس مما سنشرحه بعد.

وأمضى بعد ذلك ١٢ سنة في خدمة إحدى أميرات أسرة مديتشي المدعوة إيزابلا، ثم غادر إيطاليا إلى بازل في سويسرا، حيث أكب على ترجمة المزامير إلى اللغة العامية الإيطالية، وأخذ في تأليف كتاب عن حياة المسيح، وقد أطلق على كتابه اسم «المسيح الخادم» وهو اسم ذو مغزًى، يدل على الروح الجديدة، التي صار ينظر بها الناس إلى المسيح وإلى الكنيسة.

فإن المسيحية كانت إلى هذا الوقت ديانة تمثلها كنيسة قوية، تسيطر على عقول الناس وأجسامهم، وتتخذ هيئة السيد أمام العبيد، ولكن فوستوس أراد أن يضع المسيح موضع الخادم للناس، وأن يعود الناس إلى ديانة المسيح التي نجدها في الإنجيل، ديانة التواضع والتسامح والخدمة العامة، لا ديانة بولس الشائعة في زمنه، ديانة الكنائس والكهنة ومحاكم التفتيش.

ولم يقع فوستوس بكلمة في كل ما كتبه يمكن محكمة التفتيش أن تؤاخذه عليها، وكذلك لم يذكر كتابه أو مزاميره المترجمة في «الدليل» فقد كان فوستوس يعيش — كما قلنا — بما يحمل إليه من ريع ضيعة صغيرة في إيطاليا، فكان لذلك يحرص على ألا يغضب محكمة التفتيش، التي كان أهون ما عندها من عقاب مصادرة المالك في ملكه، ومما ساعده على الحذر والحيطة في كتابه أنه كان أَصَمَّ، والصمم على الدوام من دواعي الحذر، وكان من حذره أن يصطنع أسماء مختلفة، وأن يداور في العبارة، ويقنع بالتلميح دون التصريح.

وكانت أوروبا في ذلك الوقت ميدانًا للحماسة الدينية، يقتتل فيه المذهبان القديم والجديد أو الكاثوليكية والبروتستانتية، وكانت بولندا في ذلك الوقت ملجأً للأحرار، فقد كان لها برلمان غريب، لا يمكن أن يصدر عنه قانونٌ ما دام عضوٌ واحدٌ يعارض في إصداره، فكان هذا النظام مانعًا من اشتراع أَيَّة شرعة يراد بها اضطهاد أحد.

وكان في بولندا طبيب إيطالي، قرأ تاريخ المسيح، الذي ألَّفه سوزيني، فأُعْجِبَ به، واستدعاه من بازل إلى بولندا، فرحل من بازل إلى بولندا، وقضى فيها سائر عمره إلى أن مات سنة ١٦٠٤، وهناك — في بولندا — وضع كتابه «تعليم راكوف» في ضرورة التسامح ننقل منه هذه القطعة الآتية:

فلندع كل إنسان حرًّا للحكم على دينه؛ لأن هذه هي القاعدة التي يبسطها لنا «العهد الجديد» ولأننا نجد تعاليم الكنيسة الأولى تقول بها، ومن نحن — نحن الأشقاء — حتى نحنق ونطفئ في الآخرين نار الروح المقدسة، التي أشعلها الله فيهم؟ هل احتكر أحد منا معرفة الكتب المقدسة؟ ولم لا نتذكر أن سيدنا الوحيد هو يسوع المسيح، وأننا جميعنا إخوة ليس لأحد منا أن يسيطر على نفوس الآخرين؟ وليس من ينكر أن يكون أحد منا أعلى من الآخرين، ولكننا نستوي جميعًا في الحرية وفي علاقتنا بالمسيح.

وهذا كلام بديع، ولكنه جاء في غير أوانه، فإنه عندما نشر كتاب سوزيني عن المسيح في كراكوف حدث هرج واضطراب في المدينة من العامة، كاد يودي بالمؤلف، وكان أكبر ما دعا العامة إلى الاضطراب إنكار سوزيني لعقيدة التثليث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤