الدين شريعة

ليس هذا الكتاب دعوةً إلى كراهية الدين، وإنما هو دفاعٌ عن حرية الشخص في اختيار دينه كما يراه في مرآةِ ذهنه وضميره، وبعبارة أخرى نقول: إن الدين يؤذي الناس إذا كانت الحكومة تسومهم إياه؛ لأنه يقف حاجزًا دون حرية التفكير وحرية الاعتقاد.

وليس إنسانٌ يستطيع أن يعيش بلا دين ما لم يكن أبله أو مغفلًا؛ لأن الدين ليس في الحقيقة سوى استقرار الفرد على علاقةٍ ما بينه وبين الكون أصله وغايته وما فيه من ناس وحيوان، فدعامة الدين يجب أن تكون قوة داخلية نابعة من الذهن نؤمن بها إيماننا بالحقائق العلمية المجربة، وليس يجوز أن تكون سلطة خارجية تأمرنا بالإيمان فنؤمن، فإذا لم نؤمن عُوقبنا بالجلد أو الحبس أو القتل.

ثم يجب أن نذكر أن العقائد التي تأمر بها سلطة خارجية وتطالبنا بممارستها لا يمكن أن تكون سوى قواعد، والقاعدة جامدة جمود الحروف المؤلَّفة منها كلماتها، ولكن حياة الإنسان دائمةُ التطور، والتطور هو التحوُّل من حال إلى حال، فمثل هذه العقائد إذن يجب أن تتناقض مع الحياة وتتعارض مع رُقِيِّ الإنسان، إلا إذا أُتيح لها علماء يقومون بتفسيرها بحيث لا تتناقض مع روح الزمن.

أما إذا لم يتح ذلك فإنه يجب عندئذ إما أن تجمد الأمة وتموت، وإما أن تخلع هذه العقائد عنها، ونحن في هذا الفصل سنَعرض لاثنين حاول كلٌّ منهما أن يجعل الدين شريعة جامدة.

وأول هذين الاثنين هو «كالفن» الذي وُلد سنة ١٥٠٩ ومات سنة ١٥٦٤.

وهو رجلٌ فرنسيٌّ، اعتنق البروتستانتية وهو في سن الشباب، وتحمس لها، ودرس القانون، وعاش في باريس، ثم رحل إلى بازل حيث وضع كتابًا عن المسيحية، ثم انتقل إلى جنيف، ولكن أهالي هذه البلدة لم يطيقوا حماسته وطردوه، فذهب إلى ستراسبورغ، ولكنه لم يبق طويلًا بعيدًا عن جنيف؛ فإن حزبه قوي وتكاثر حتى استدعاه إلى المدينة، وكانت الدعوة من البلدية ومن الكهنة ومن الأهالي فلم ير كالفن بُدًّا من الاستجابة لدعوتهم، فعاد إلى جنيف وشرع في برنامج عجيب.

إنما يجب أن نعرف أنه في جميع أحكامه المخطئة كان مجتهدًا اجتهاد الغزالي، كلاهما ينوي في قلبه الإخلاص، وإنما الخطأ جاء لكليهما من النظر الديني لأحوال هذا العالم.

فقد عرفنا من نزاهة الغزالي أنه ترك منصبه في المدرسة النظامية، وترك عائلته، ونسك نحو عشر سنوات، والآن يجب أن نعرف من نزاهة كالفن أنه عندما مرض بالمرض الأخير الذي مات فيه؛ رفض أن يقبل مرتبه؛ لأن المرض منعه من أن يخدم به حتى يستحقه، وعندما مات سنة ١٥٦٤ قال فيه البابا بيوس الرابع: «إن قوة هذا الهرطيق ترجع إلى أنه لم يكن يبالي بالمال.»

ويجب أن نذكر أن عصر كالفن كان عصر الحدة الدينية، ففي السنة التي خرج فيها كالفن من أحضان الكنيسة الكاثوليكية سنة ١٥٣٤ أسس «أغناطيوس لويولا» فرقة من اليسوعيين للدفاع عن المذهب القديم، ورأى العالم الأوروبي أن عصر المجانة قد مضى، وأن الظفر سيُكتب للجادِّ في دعوته.

فما هو أن هدأ كالفن في جنيف حتى شرع يكتب للناس شريعتهم الجديدة، ويفحصهم ويسائلهم عن المذهب الجديد، يجمعهم كل عشرة معًا، ويأخذ في تعيين ما يجب، وما لا يجوز أن يؤمنوا به، وبعد ذلك أقنع مجلس المدينة بطرد جميع من يؤمن بالكاثوليكية، ثم ألَّف مجلسًا يشبه محكمة التفتيش، يفتش ضمائر الناس، فمن روى أنه يعتقد من العقائد ما يغاير مذهب أهل جنيف طلب منه أن يجحد عقائده، فإذا رفض أُخْرِجَ من المدينة ومُنِعَ من الإقامة فيها.

ولكن الهرطقة لم تكن العلة الوحيدة للعقاب، فإن كلمة واحدة ينطق بها على سبيل الفكاهة رجل يحضر عرسًا وقت كتابة العقد أمام الكاهن كانت تكفي لعقابه بالحبس، وإليك شيئًا من المحرومات التي حرمها كالفن على أهل جنيف: الرقص، والغناء، واللعب بالكوتشينة، والمقامرة، ولبس الحرير.

وهذا كله لأن كالفن أراد أن يجعل المسيحية شريعة مدنية جامدة، ولكن جنايته التي تضعه في صف السفاحين هي قَتْله لسرفيتوس، فقد كان هذا الرجل إسبانيًّا، تربَّى في فرنسا، ودرس الطب والفلك والإغريقية والعبرية، وقاده سوءُ بخته أن يدرس اللاهوت، واهتدى في أبحاثه الطبية إلى معرفة الدورة الدموية، ثم ذهب في أبحاثه الدينية إلى أن عقيدة التثليث عند المسيحيين — وهي أن الأب والابن والروح القدس إلهٌ واحد — خطأ لا أصل لها، وبلغ من سذاجته وسلامة نيته أن كتب إلى كالفن خطابًا يرجوه أن يأذن له بدخول جنيف؛ لكي يلتقي به، ويتناقش معه في موضوع التثليث.

ولكن كالفن لم يبعث إليه برد ولا بدعوة، وكان سرفيتوس في ذلك الوقت في ليون بفرنسا، وعرف عنه إنكاره للتثليث، فقبضت عليه محكمة التفتيش، وأودعتْه السجن، ولكنه — لعلة لا تُعْرَفُ — استطاع أن يهرب، وذهب سرفيتوس إلى جنيف، ولكن لم يمض عليه يومٌ حتى قُبِضَ عليه، وشرع في محاكمته للهرطقة.

ومضت على المحاكمة ٧٢ يومًا قضي عليه في نهايتها بالإحراق، وفي هذا الوقت عينه أرسلت محكمة التفتيش في ليون إلى جنيف تطلب سرفيتوس الهرطيق؛ لكي يحرق في ليون، ولكن كالفن رفض تسليمه، وأراد أن يرى بعينه هذا الخصم العنيد يتقلى على الجمر.

وأحرق سرفيتوس وهو لا ينزل عن كلمة واحدة مما فاه به.

ودوى في العالم عندئذ أن البروتستانتية لا تختلف عن الكاثوليكية بشيء، وأنها تفتش ضمائر الناس، وتضطهد، وتقتل، وأن محاكمها الدينية لا تمتاز عن محاكم التفتيش.

ولنودع الآن سرفيتوس وقاتله السافل المخلص كالفن، ولننظر بمثال آخر كيف يكون الدين إذا صار شريعة جامدة.

•••

لما انكسرت شوكة الكاثوليكية بظهور لوثر وخروجه على البابا؛ صار الناس يتجرءون على مساءلة أنفسهم وتفتيش ضمائرهم عن العقائد القديمة، وصاروا يجتهدون ويُعلنون آراءهم، وحوالي سنة ١٥٢٠ ظهر أحد الألمان وأخذ يدعو الناس إلى وجوب تعميدهم مرة أخرى عندما يبلغون سن الشباب؛ لأن التعميد في سن الطفولة — كما هو المتبع بين المسيحيين — لا يفيد الدخول في النصرانية؛ إذ إن الطفل لا يعقل العقائد، فإذا أردنا أن نؤمن حق الإيمان بالمسيحية ينبغي أن نعيد تعميدنا في الشباب، وكانت فرقته تسمى لذلك «المعيدين للتعميد».

وكان هؤلاء «المعيدون» يمتازون من سائر المسيحيين بالسير على حرف الإنجيل، يقولون بشيوعية المال والامتناع عن الحرب، ونحو ذلك من الآراء المزعجة للدول والكنائس معًا.

وفي سنة ١٥٣٤ كثر هؤلاء «المعيدون» في مدينة مونستر الألمانية، فطردوا أسقف المدينة، واستولوا على الحكومة، وشرعوا ينفذون الإنجيل والتوراة، ويمضون أحكامهما في الناس، فجعلوا الدين بذلك شريعةً مدنية جامدة، وافتتحوا للسكان المساكين عهد خراب لم يره العالم من قبل أو من بعد.

وكان أكثر حماسة في مذهب «الإعادة» رجل خياط يدعى يوحنا، كان يعمل للخياطة في النهار، فإذا كان المساء انتفض نبيًّا، ينطق بكلمات الإنجيل والتوراة كأنهما لم ينزلا إلا لأجله وحده، ولا يفهمهما أحدٌ غيره، فلما شرع المعيدون في تقليد الأحكام تناولوا كنائس الكاثوليك فهدموها، وجعلوا أديار الرهبان مساكنَ للفقراء، ثم جمعوا جميع ما في البلدة من الكتب — عدا الإنجيل والتوراة — فأحرقوها كلها، ثم نظروا حولهم فإذا بالمدينة بعض جماعات لا تزال تصر على الإيمان بغير ما يؤمن به هؤلاء المعيدون، فلم يكن بأسرع من أن قبضوا عليهم، وأغرقوهم، أو قطعوا رءُوسهم.

فلما زال من المدينة رجس الهراطقة، ونجاسة الكتب، ولم يبق بها سوى المعيدين الأطهار والإنجيل والتوراة؛ تفكر يوحنا الخياط، فالتمع في ذهنه خاطرٌ جليل، وهو أن يحكم مونستر كما كان سليمان الحكيم يحكم مدينة أورشليم، فذهب إلى سوق المدينة وأقام عرشًا ثم تَبَوَّأَه، ثم قسَّم سكان المدينة اثني عشر سبطًا كما كانت أسباط إسرائيل، ثم تذكر أن سليمان الحكيم لم يقتصر على امرأةٍ واحدة، فأضاف زوجات أُخرى على زوجته، وكان لسوء حظه حسن الذاكرة، جيد الفهم للتوراة، فقادته ذاكرتُه الحسنة وفهمُه الجيد إلى أنه كان لسليمان الحكيم سراري أُخَرَ غير زوجاته، فاتخذ الملك الخياط سراري أُخَرْ غير زوجاته.

وكانت الحكومةُ السابقة المطرودة قد جمعت جيشًا، وحاصرت المدينة، ومنعت عن مونستر التمون مما حولها فعَمَّ القحط، ولكن الملك لم يكن يبالي بذلك، فكان يقعد كل يوم على عرشه في السوق، ويأخذ من الغنيِّ ويعطي المحتاج، ويمتشق الحسام لقتل المخالفين.

ولَمَّا رأى القحط يزداد أمر الأهالي بزراعة الشوارع، ولكن المحاصِرين لم يمهلوا السكان إلى وقت الحصاد؛ فإنهم فتحوا المدينة بعد حصارها بخمسة أشهر، وقبضوا على الخياط، ووضعوه في قفص، وطافوا به، ثم قتلوه أشنع قتلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤