جاليل

ولد جاليل سنة ١٥٦٤ ومات سنة ١٦٤٢، وحياته كفاح متصل مع القدماء الذين أخذ على عاتقه هدمهم، ومع الكهنة الذين أوشكوا أن يجعلوا خاتمة حياته مثل خاتمة حياة برونو، ولكنه توقى هذه الخاتمة بأن رضي بأن ينكر ما قال.

كان جاليل إيطاليًّا، نشأ في أسرة شريفة، وَتَرَبَّى التربية العالية، التي كان يحصل عليها أبناء الأشراف في إيطاليا، وقد أبدى من الذكاء والميل إلى الدرس ما جعله أُستاذًا في جامعات إيطاليا في الرياضة والميكانيكا.

وحدث في سنة ١٦٠٩ أنه سمع بأن أحد البلجيكيين قد اخترع زجاجة إذا نظر من خلالها جعلت الشيء البعيد قريبًا، فأكب على درس هذا الاختراع، واخترع التلسكوب، وأخذ في درس الفلك، واخترع جاليل شيئين آخرين كان لهما أيضًا أكبر الأثر في النهضة العلمية، وهما: الميكروسكوب والترمومتر.

وربما لم يكن لهذه المخترعات في نظر الكهنة من القيمة في زمنه مقدار ما كان لتخطئته لأرسطوطاليس في زعمه بأن الأجسام الثقيلة أسرعُ في السقوط من الأجسام الخفيفة، فقد كذب جاليل هذا الزعم، وأثبته بالتجربة بأن ألقى جسمين أحدهما خفيف والآخر ثقيل من قمة برج بيزا، فوقع الاثنان في وقت واحد على الأرض، واستنتج جاليل أن سرعة السقوط إنما تتوقف على بُعد المسافة لا على ثقل الجسم، وكذب أرسطوطاليس أيضًا في زعمه بأن الأرض مركز الكون، وقد كان لأرسطوطاليس من الحرمة في الكنيسة ما يكاد يشبه حرمة الإنجيل.

ونزع جاليل نزعة علمية قائمة على التجربة، فاستعمل تلسكوبه الجديد في كشف السماء، فعرف بذلك من النجوم نحو عشرة أضعاف ما كان معروفًا منها بالعين المجردة، وأظهره تلسكوبه أيضًا على القمر، فأخذ يرصده، ووجد أن وجهه «يشبه جدًّا سطح الأرض» فيه السهل والجبل.

واكتشف أقمارًا لجوبتر، ثم استنتج أن هذا الكوكب يشبه الأرض، ووقفه تلسكوبه أيضًا على بقع الشمس التي لا نزال نحن حائرين في ماهيتها، وكانت كل هذه الأبحاث تقوده إلى ما يقوله الآن علماء الفلك، وهو أن الكواكب والقمر قد تكون مأهولة بالناس مثل الأرض، وهنا بدأ الكفاح بينه وبين الكهنة.

وذلك أن الكتب المقدسة قد جعلت الأرض مركزًا للخليقة، ووجدت من أرسطوطاليس تأييدًا لهذا القول، فأكبرت تعاليمه في هذه الناحية، وعوَّلَت عليها، ولكن جاليل وجد أن هناك من الكواكب ما هو أكبر من الأرض، فاستنتج أن الحياة لا يُمكن أن تكون امتيازًا خاصًّا بالأرض، وأنها كما نشأتْ هنا يجوز أن تكون قد نشأتْ هناك.

وبلغ محكمة التفتيش في إيطاليا هذه الهرطقة الجديدة سنة ١٦١٦، فكتبت إلى الكردينال بلارمين تأمره «أن ينهى جاليل عن هذه الآراء، وفي حالة رفضه يؤمر بالكف عن تعليم هذه الآراء أو الدفاع عنها أو حتى البحث فيها، وفي حالة مخالفته يُسْجَن.»

وسكت جاليل؛ فإن شبح النار التي أُوقدت لبرونو سنة ١٦٠٠ كان لا يزال قريبًا، ولم يكن جاليل يستمرئ نار الاستشهاد، فلما كانت سنة ١٦٣٠ ألَّف كتابًا عن الفلك، وذهب إلى البابا يستأذنه في نشره، وكان موضوع الكتاب المهم هو تعليل حركة المد والجزر بازدواج حركة الأرض؛ أي بدورانها حول نفسها، وأيضًا بدورانها حول الشمس، فأذن له البابا بنشر الكتاب بعد أن اشترط عليه جملةَ شروط، كان أهمها أن يكتب في ختام الكتاب هذه العبارة «الله قادر على كل شيء … وكل شيء ممكن لديه، وعلى ذلك فليس يمكن أن يقال: إن المد والجزر برهان ضروري للحركة المزدوجة للأرض بدون تحديد قدرته على كل شيء.»

وقبل جاليل هذه الشروط، ونشر الكتاب سنة ١٦٣٢، ولكن في السنة عينها هاج رجال الدين، ومنعوا نشر الكتاب، حتى مع وجود هذه الخاتمة التي يكذب فيها جاليل نفسه، وانعقدت محكمة التفتيش سنة ١٦٣٣، وحكمت عليه بالسجن ثلاث سنوات، وأن يتلو المزامير السبعة مرة كل أسبوع، وأن ينكر كل ما قال.

أما من حيث الإنكار فقد كان جاليل سريعًا إلى إنكار ما يُطلب منه؛ لأنه كان يعرف أنه بعد إيراد الأدلة القوية على صحة نظريته ليس من المهم أن ينكر كل ما يُطلب منه؛ لأن الأدلة هي سبيل الإقناع العلمي، وهي كلها مثبتة بالكتاب، فهو يَتَّقِي غضب الكنيسة باللفظ، ولكن يعتمد على التدليل العلمي في الإقناع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤