نزعة الشك

القرن السابع عشر هو قرنُ الشك، نشأ فيه طائفة من العلماء والفلاسفة ينكرون طرق القدماء، ويقولون بالتجربة، ويدعون إلى الشك في الحقائق المزعومة حتى تجرب، وإلا فلا يجوز الإيمان بها. وأبطالُ هذه النزعة هم:
  • بيكون الذي وُلِدَ سنة ١٥٦١ ومات سنة ١٦٢٥.

  • وديكارت الذي وُلِدَ سنة ١٥٩٦ ومات سنة ١٦٥٠.

  • وسبينوزا الذي وُلِدَ سنة ١٦٣٢ ومات سنة ١٦٧٧.

  • وهوبز الذي وُلِدَ سنة ١٥٨٨ ومات سنة ١٦٧٩.

  • ولوك الذي وُلِدَ سنة ١٦٣٢ ومات سنة ١٧٠٤.

وكل واحد من هؤلاء جديرٌ بفصل قائمٍ بنفسه في كتاب خاص بحرية الفكر؛ فقد عملوا كلهم لتحرير الفكر من التقاليد ومن السلطة، ولكننا سنقنع هنا بالإشارة المختصرة إلى كل منهم، وما يمتاز به من خدمة الحرية.

وأول هؤلاء هو «فرانسيس بيكون» وهو رجل مثل سميه القديم روجر بيكون، إنجليزي، يقول بوجوب التجربة، وعدم الاعتماد على شيء سواها من كتب القدماء، ووضع كتابًا سنة ١٦٢٠ أوضح فيه طريقته الجديدة، ومما قال فيها: «هناك من الأسباب ما يرجينا بأن نجد في بطن الطبيعة من الأسرار الكثيرة ما ليس له علاقة أو مشابهة بما نعرفه مما هو بعيدٌ البُعد كله عن خيالنا، ومما لم يُعْرَف بعد.»

وفي سنة ١٦٢٧ وضع طوبى تخيل فيها أمثل هيئة بشرية تعيش وغايتها الأصلية الاكتشاف والاختراع.

ولم يكن بيكون ينزع إلى الشك في القدماء فقط، وإنما كان يُنكر كل ما قالوه حتى تؤيده التجربة، وبينما كان علماء القرون الوسطى يقضون أعمارهم في درس القدماء، والجدل المنطقي الذي يحوم ويدور حول الألفاظ والفروض؛ كان بيكون يفكر في المستقبل، ويضع الطرق التي يجب اتباعها لكي تتقدم العلوم، وذلك بأن نذهب إلى الطبيعة رأسًا، ونخطب أسرارها، غير مقيدين بأية سلطة سوى سلطة التجربة التي تميز الفاسد من الصالح.

ويُقابل بيكون في إنجلترا «ديكارت» في فرنسا، ومن أسماء مؤلفاته تعرف الروح الجديدة التي أخذت تتفشى في عصره وهي روح الشك، فله كتاب يُدْعَى «قواعد لهداية العقل» وآخر يُدْعَى «بحث في الطريقة» وآخر يُدْعَى «مبادئ الفلسفة».

ويَبني ديكارت فلسفته على الشك في كل شيء، ولا يؤمن إيمانًا يقينيًّا بشيء سوى الفكر، ومن كلماته المأثورة: «إني أفكر فأنا لذلك كائن» وهو يشترط لإقامة بناء الفلسفة الجديدة هذه القواعد الأربعة:
  • (١)

    لا يصح قبول شيء على أنه حق ما لم تعرف ماهيته بغاية الوضوح؛ حتى لا يمكن الشك فيه.

  • (٢)

    تقسيم المسائل الصعبة إلى ما يمكن أن تشتمل عليه من الأجزاء؛ ليسهل إدراكها.

  • (٣)

    يبدأ في الدرس من السهل البسيط إلى الصعب المركَّب.

  • (٤)

    يستوعب البحث ويَستقصي ويُعمم النظر؛ حتى نتأكد بأننا لم ننس شيئًا.

وهذا الكلام يبدو لنا هينًا لينًا، ولكنه كان في القرن السابع عشر نارًا وكبريتًا على رجال الدين، وكان من يتهم باعتقاد الديكارتية يُعَدُّ كافرًا لا غش فيه، ولم يكن يقل عمن كانوا يتهمون بالداروينية في القرن التاسع عشر.

وقد أمضى ديكارت جزءًا كبيرًا من حياته في هولندا، ولا نعرف علة ذلك، وربما كان استحسانه لها يرجع إلى كثرة مطابعها، وسهولة وسائل النشر فيها.

على أن إقامته بهولندا — وإن لم يتعلم لغتها ولا وضع كتابًا فيها إلا بلغته الأصلية أي الفرنسية — قد أفادت، فإن أكبر حوارييه كان من يهود هولندا، وكان يُدْعَى «باروخ سبينوزا».

ففي أحد الأيام وجدت طائفة اليهود المقيمة بأمستردام أن واحدًا من أبنائها يُجاهر بإيمانه بديكارت، وبأنه لا يؤمن بأشياء في التوراة والتلمود، ولم يستطع ربَّانية الطائفة أن يعاقبوه على ذلك؛ لأنهم كانوا قد ارتكبوا جُرمًا شنيعًا منذ زمن قليل، لم يكن قد نسيه بعد أهالي أمستردام، فلم يكونوا يرغبون في إثارة هذه الذكرى.

فقد حدث أن أحد اليهود البرتغاليين رحل إلى هولندا، وأبى كبرياؤه أن يخضع للربَّانية، وأن يواظب على الحضور للكنيس؛ فجلدة الربانية، وأهانه رجال الطائفة، وفعلت هذه الإهانة في نفسه أفاعيلها، فانتحر.

فلما وجد الربَّانية أن سبينوزا قد خرج على آراء التوراة والتلمود لم يلجئوا إلى العنف في إسكاته؛ خشية أن يتكرر حادثُ هذا اليهودي البرتغالي، ويتسامع أهالي المدينة بما يفعلونه بأحرارهم، فتَلطَّفوا وعرضوا عليه مبلغًا من المال؛ ثمنًا لسكوته، فأبى، وقنع الربَّانية بأن لَعَنُوه لعنة أبدية في الكنيس، وخلعوه من الطائفة، وحاول أحد المتعصبين أن يغتاله فأخفق، وبقي سبينوزا بأمستردام لا يبالي بالتوراة ولا بخناجر الغادرين من أبناء طائفته.

وأخيرًا لجأ الربَّانية إلى حكومة أمستردام؛ لكي تعاقب سبينوزا؛ لأنه لا يكفر باليهود فقط بل بكل شيء، بالله واليوم الآخر، ويعلن شكوكه في أشياء مقدسة يؤمن بها النصارى واليهود معًا، وانعقدت محكمة نصرانية لمحاكمته على هذه التهمة العمومية، ولكنها بَرَّأَتْهُ في النهاية، وقنعتْ بأن غادر المدينة مدة شهرين حتى تهدأ العاصفة.

وغادر سبينوزا أمستردام، وعرضت عليه مناصب للتعليم رفض قبولها؛ لئلا يضطر إلى تقييد حريته، وارتضى الفقر مع الدرس، وأقام في لاهاي يصنع العدسات ويبيعها.

ومن الصعب أن نلخص في كلمات فلسفة سبينوزا التي وضعها في مجلدات.

ولكن يجب أن نقول: إنها لم تكن من نوع ذلك البحر الطامي الذي فاضت به كُتُب الجدل اللفظيِّ العقيم، حتى كان مثل عمر الخيام يؤثر الخمر عليها، ويرى أن السكر الحادث من هذه خير من السخف الذي تقول به تلك المجلدات الضخمة.

كان سبينوزا يؤمن بأن حدود الأديان أضيقُ من أن تَسَعَ الفكر الإنساني، وأن هذا الكون المؤلَّف من ملايين النجوم بكواكبها هو وطن الإنسان الحقيقي، وأن الله متحد بهذا الكون وهو فكرته، وأن حرية المرء لا تتحقق إلا بالتخلص من شهواته واتحاده بالله.

وفي هذا الوقت عاش «هوبز» وهو معلِّم إنجليزي، كان يعلِّم أبناء الأغنياء، ويقضي معهم الأشهر العديدة في أوروبا؛ لأنه كان يجعل الرحلة من شروط التربية.

وعرف في رحلاته هذه «جاليل» و«ديكارت» و«بيكون» ونزع نزعتهم، وإن كانت العلوم الرياضية تغلب عليه، ثم أوفى عليهم بدرسه الفلسفة السياسية، ورأى من اضطهاد طائفة «الطهريين» في إنجلترا ما ألجأه إلى أن ينفي نفسه في أوروبا إحدى عشرة سنة.

فقد كان وضع كتابًا في الدفاع عن الملكية، وكانت الملوكية في إنجلترا في أسوأ حال؛ إذ كان «الطهريون» قد قتلوا الملك شارل الأول، وليس يمكن أن نقول: إن هوبز دعا إلى الحرية الفكرية، بل هو دعا بعكس ذلك إلى الخضوع لحكم ملك مستبد، وإنما أبحاثه في أصل الهيئة الاجتماعية، وأن الإنسان كان يعيش في فوضى وتوحش، ثم اتفق الناس على أن يسلموا السلطة لواحد أو أكثر من واحد لكي يحكمهم.

نقول: إن هذه الأبحاث فتحت بابًا جديدًا لتحرير الفكر بالبحث في أصل الحكومات وغايتها، وقد قبل البلاط الإنجليزي هذه الآراء، وكافأه عليها بمعاش سنوي مدى حياته، ولكن الكنيسة الإنجليزية حكمت بتكفيره لآرائه الدينية، واتهمته بالإلحاد.

وثم رجلٌ آخرُ وُلد في عام واحد مع سبينوزا، ولكنه أوفى عليه في العمر بسبع وعشرين سنة، حتى عاش أربع سنوات من القرن الثامن عشر، وهذا الرجل هو «لوك».

ولد لوك في إنجلترا، ووقع له في أحد الأيام كتاب هوبز في الدفاع عن الملكية فقرأه، وكثيرًا ما تَهْدم الكتب الموضوعة في الدفاع عن بعض المبادئ هذه المبادئ نفسها؛ لأنها تفتح أبوابًا لم يَلِجْهَا أحد من قبل، وقد يلجها القارئ فتنفتح عينه لأشياء لم تكن مفتوحة لها من قبل، ولا يُغني عندئذ دفاع المؤلف.

فقد تجد فلاحًا ساذجًا يؤمن بالله إيمانًا صادقًا، يسلم فيه بربوبيته وقدرته، وقد تُشكِّكه في دينه إذا أنت حاولت أن تثبت له وجود الله بطريق المنطق؛ فإن القارئ يجد أن هذا النوع يجرحها أكثر مما يؤيدها.

والعادة أن من ينزع إلى الجرأة في نقد الحكومة لا يمكنه أن يتخلى عن هذه النزعة في نقد الدين أو الهيئة الاجتماعية أو الأخلاق أو غير ذلك، وقد قرأ لوك — وهو طالب في أوكسفورد — كتاب هوبز عن الملكية، ورأى كيف أن «الطهريين» قد قتلوا الملك شارل الأول سنة ١٦٤٩ فتساءل هو: إذا كان للناس الحق في أن يخلعوا ملوكهم المستبدين، ويقتلوهم، ويمحوا استبدادهم؛ فلِمَ يرضون باستبداد الكهنة؟ ولم لا يختار الناس الأديان التي تقرهم ضمائرهم عليها؟

ولكن لوك وجد أن الجو لا يُلائم هذه النزعة، وأن رجال الدين يتهامسون بأنه ملحد، فرحل إلى أمستردام، ووضع هناك «خطابات عن التسامح» قال فيها: إنه لا حق للحكومة بأن تدخل في ضمير المرء وتُمليَ عليه دينه، وإنها إنما أُقيمت برضا الناس واتفاقهم لحماية الأفراد وأمنهم، وكما أنه لا يجوز لها أن تعيِّن ما يأكله الناس وما يشربونه؛ كذلك لا يجوز لها أن تعين لهم المذهب الذي يؤمنون به.

وقد كانت أوروبا قد تفشَّت فيها المذاهب، فقال لوك ينتقد اشتغال الحكومات بالأديان، ووجوب تركها الناس أحرارًا:

إذا كان للحكومات الحق بأن تملي على الناس كل ما يختص بسعادة أرواحهم المستقبلة؛ فإن نصف الناس قد حكم عليه منذ الآن بالهلاك الأبدي؛ لأنه لما كان من المستحيل أن يكون المذهبان صحيحين فمن المعقول أن جميع من وُلِدُوا في ناحية ما سيذهبون إلى السماء في حين أن من وُلِدُوا في الناحية الأخرى قد قضي عليهم بالذهاب إلى جهنم، وبهذه الطريقة يتقرر مصير الإنسان ونجاته حسب البقعة الجغرافية التي اتفق ميلاده فيها.

ومنذ ذلك الوقت أخذت الدعوة إلى التسامح تزداد وتَقْوى، ويكون لها دعاةٌ يجاهرون بها، مثل فولتير وتوم بين، ويستطيعون إنكار التقاليد، مجاهرين بذلك لا يخشون بطش الحكومات ولا الكهنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤