القرن التاسع عشر

القرن التاسع عشر هو القرن الذي استقرتْ ورسختْ فيه الحرية الفكرية؛ فإنه وُلِدَ في حجر الثورة الفرنسية، التي شرعت تنكر كل التقاليد الدينية، وتخترع الآلهة اختراعًا، فلما بلغ منتصف عمره أعلن داروين للناس أن الإنسان لم يكن عاليًا فسقط، بل كان ساقطًا فتطور وارتفع.

واتسم القرن التاسع عشر بثلاث نزعات تأيدت بها الحرية الفكرية:
  • (١)

    تمرد العمال في جميع الأقطار الأوروبية، وتفشى بينهم النظر الثوري في أحوال معيشتهم، وتعدى هذا النظر أحوال المعيشة إلى أحوال الضمير، فنزعوا إلى الحرية في الدين، ولا تزال الأوساط الاشتراكية للآن أبعد الأوساط غلوًّا في الحرية الدينية، والعبرة بالنزعة على الدوام، فإذا ما نزع المرء إلى الحرية في النظر الاقتصادي أو الاجتماعي فإنه لا بد نازع أيضًا إلى الحرية في النظر الديني.

  • (٢)

    أقبل العلماء على درس العلوم بشراهة وإدمان، وكان للبيولوجية؛ أي العلم الخاص بالأحياء، وللجيولوجية؛ أي العلم الخاص بتكوين قشرة الأرض والأحافير؛ أثر خاص في ترويج الحرية الفكرية.

  • (٣)

    تحوَّل درس كل الكتب المقدسة من الإيمان والتسليم إلى النقد والتمحيص بمقابلة التواريخ والتنقيب عن الآثار.

وفيما يلي سنُلقي نظرة سريعة على حوادث القرن التاسع عشر التي تمس الحرية الفكرية، أو تتعلق بها بأدنى علاقة.

ففي أوائل القرن نجد أن لابلاس — الذي مات سنة ١٨٢٧ — يعرض على نابليون نظرية، يقول: إنه يمكن أن يُستغنى بها عن فرض وجود إله خالق، ولكن نابليون، وإن كان قد تشبع بروح الثورة الفرنسية؛ فإنه عندما رسخت أصول الإمبراطورية أصبح ينظر للدين نظر أصحاب الدول والسلطان؛ ولذلك رد لابلاس أقبح رد، ولكن اقتراح لابلاس يدل على الروح التي سرتْ بين رجال الذهن في فرنسا، والتي بَعُدَتْ بُعْدًا عظيمًا عما كان سائدًا فيها أيام فولتير.

وفي سنة ١٨٦٣ ألَّف ليال كتاب «قدم الإنسان» أوضح فيه أن الإنسان قديمٌ، يرجع تاريخه إلى مئات الألوف من السنين، كما تُثبت ذلك الجيولوجية، وقد كان أبعدَ الناس تقديرًا لتاريخ الإنسان على الأرض — حسب ما تقولُه التوراة — لا يبعده أكثر من ٦٠٠٠ سنة.

وفي سنة ١٨٥٩ ثم في سنة ١٨٧١ وضع داروين كتابيه عن نظرية التطور: الأول في أصل الأنواع، والثاني في أصل الإنسان، ولم يكن أحدٌ يشك في أن نظر داروين يختلف عن النظر الديني اختلافًا في الأُصول والمبادئ، حتى قال الأسقف ولبر فورس: «إن مبدأ الانتخاب الطبيعي يخالف كلمة الله.»

وفيلسوف التطور هو — بلا شك — هربرت سبنسر؛ فإن داروين قصر نظره على تطور الأحياء الذي يؤدي اختلاف الأفراد فيها إلى ظهور السلالات، ثم يؤدي اختلاف السلالات فيها إلى ظهور الأنواع.

ولكن سبنسر أخذ النظرية وعَمَّمَها على العمران والعادات والأخلاق، وصبغ عالم المفكرين في أوروبا كلها بهذه الصبغة، ومن الحق أن نقول الآن: إن تعميم نظرية التطور إنما يرجع إلى علماء الإنجليز، وخاصة إلى داروين وسبنسر.

وما هو أن عمَّت النظرية حتى كان علماء آخرون يطبقونها على الديانات نفسها، ويرصدون حياتهم للبحث عن أصل السحر والعقائد الدينية القديمة، مثل التثليث عند المصريين القدماء وغيرهم، ومثل نظرية الفداء وتجسم لحم الآلهة في الغلات الزراعية ونحو ذلك، وكتاب فريزر في هذا الموضوع المسمى «الغصن الذهبي» من أفضل وأعمق نتائج هذا الدرس.

وكان لتقدُّم العلوم البيولوجية أثرٌ كبير في زعزعة العقائد الموروثة؛ لأنه ظهر منها أن جسم الإنسان بعيدٌ عن الكمال، بادي النقص والخلل، بما ورثه من أعضاء كانت تنفعه وهو بعد في طور الحيوان، وأصبحت الآن تؤذيه مثل الزائدة الدودية والقولون وغيرهما، حتى قال هلمهولتز العالم الألماني — الذي مات سنة ١٨٩٤ — عن عين الإنسان: «لو أن أحد صُنَّاع النظارات أرسلها إلي باعتبارها آلة لرددتها إليه، ووبخته على عدم عنايته بعمله، وطلبت منه رد نقودي.»

والقرن التاسع عشر حافلٌ بأسماء العلماء والفلاسفة، الذين حاولوا تفسيرَ الكون بدون الرجوع إلى العقائد، مثل شوبنهور وكونت وسبنسر، وفي أواخر هذا القرن نظمت في إنجلترا «جمعية الدهريين» وشرعت تطبع الكتب العلمية والتاريخية، ويقال: إنها قد باعت من مؤلفاتها نحو ثلاثة ملايين نسخة كلها في مقاومة الأديان.

وقلما نجد في القرن التاسع عشر حادثةَ اضطهادٍ لحرية الفكر تستلفت النظر؛ فإن الحكومات أخذتْ أمام حملة العلماء تنكفئ وتزدجر، وكانت الاضطهاداتُ السابقة والحروب الدينية لا تزال ماثلةً بنتائجها المرعبة وعِظَاتها البالغة، ولكنا مع ذلك نسمع عن حادثة لو أنها ذُكرتْ قبل هذا القرن لعُدَّتْ طفيفةً، ولكنها كانت خطيرة في وقتها للتقدُّم الذي أحرزتْه الحرية الفكرية.

ففي سنة ١٨٨٨ انتُخب رجل دهري يُدْعَى «برادلف» عضوًا في مجلس العموم البريطاني، وكانت العادة أن يُقسم بالله يمين الولاء، ولكن برادلف لم يكن يؤمن بالله، ورفض أن يقسم هذه اليمين، فحبسه البرلمان ثم ألغى انتخابه، فعاد إلى دائرته، فانتخبتْه ثانيًا، فخضع البرلمان عندئذ، وأذن للدهريين في أن يقسموا اليمين التي يشاءُونها.

وكانت العادة أن ملوك إنجلترا لا يُتَوَّجون إلا إذا سَبُّوا البابا والكاثوليك، فلما ارتقى إدوار السابع محا هذا السباب من حفلة التتويج، وكان الكاثوليك يحرمون من مناصب الدولة في إنجلترا، فأُلْغِي أيضًا هذا التحريم، وكان الزواج يُعْقَدُ في الكنائس على أيدي الكهنة، ولكن الأمم الأوروبية قررت اعتباره عقدًا مدنيًّا.

وما جاء القرن العشرون حتى أخذت أمم كثيرة تفصل الكنيسة عن الحكومة، وبعضها — مثل فرنسا — عمد إلى الاضطهاد، فاستصفى أملاك الكنيسة، ومنع التعليم الديني في المدارس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤