المانوية

نحن هنا في تاريخ حرية الفكر نقصر نظرنا على أوروبا والإسلام؛ لاتصال حياتنا الحاضرة بالثقافة الأوروبية؛ التي هي مادتنا الذهنية، وأيضًا لِما ورثناه من التقاليد الإسلامية العربية التي تؤثر فينا إلى الآن.

ولذلك لا نبحث عن هذه الحرية في الهند أو الصين أو اليابان؛ لانقطاع الصلة بيننا وبين هذه الأقطار، ولسنا نخرج في هذا الفصل عن هذه القاعدة عندما ننظر في المانوية التي نشأت في فارس، فإن فارس — وإن كانت بعيدة عنا — إلا أنها أخرجت دينًا عجيبًا، تخطاها إلى ألمانيا وفرنسا ومصر، وعاش دهرًا ثم انقرض فجأة بعد أن أثَّر أثره في المسيحية بل في الإسلام أيضًا.

ثم نحن نذكر الأديان لعلاقتها بالاضطهاد، وتقييد الحرية الفكرية فقط، وقد ظهرت «محكمة التفتيش» أول ما ظهرت في أوروبا بسبب العقائد المانوية التي تسربت إلى المسيحية كما تسربت بعد ذلك إلى الفرق الإسلامية.

وإذا قلنا: إن «محكمة التفتيش» نشأت بسبب العقائد المانوية؛ فإننا لا نعني بذلك أن الاضطهاد الديني لم يُعرف قبل هذه المحكمة، فإنه ما كادت المسيحية تنتصر على الوثنية حتى شَبَّ الخلاف بين الطوائف المسيحية نفسها، وعقد أول «مجمع مسكوني» في نيقية سنة ٣٢٥ لتقرير العقائد، وحدث النزاع المشهور بين آريوس وأثناسيوس على طبيعة المسيح، وهل هو مثل الله أو دونه، أو هل هما واحد؟ أو نحو هذا من الخلافات التي لا نأبه نحن لها الآن ولا نفهمها، ولكن محكمة التفتيش هي أول أداة منظمة للعقاب ظهرت في المسيحية، ويرجع تأسيسها إلى العقائد المانوية، ورغبة رجال الكنيسة الكاثوليكية في تجريد الدين منها.

كان «ماني» مؤسس المانوية رجلًا فارسيًّا، ولد بالمدائن سنة ٢١٥، وجعل دينه مزيجًا من الأديان الشائعة في زمنه، ولقي حظًّا قليلًا في نشره، ثم انتصر عليه رجال الدين في فارس فصلبوه وسلخوه وحشوه تبنًا، وعلَّقوه مدة ما لكي يعتبر المؤمنون به.

ولكن تجارب الأمم تدل كلها على أن الأفكار لا تُقتل بالسيف أو بالنار؛ فما هو أن مات ماني حتى كان الناس يستشهدون من أجل أفكاره في فرنسا وإسبانيا، وحتى كان الأقباط في مصر يمارسون طائفة كبيرة من عقائده لا تزال حية إلى الآن. ويبدو لمن تأمل المانوية أن ماني كان يقصد إلى إيجاد وفاق عام بين الناس بالتوفيق بين أديانهم جميعًا؛ فقد درس البوذية، وأخذ منها فكرة التسلط على الشهوات، وقمعها بسحق الجسم، وحرَّم لذلك جملة مآكل، وقصر طعامه على الخضراوات والسمك — كما هو صوم الأقباط الآن.

وجرى في منطقه البوذي — الذي استقاه من معينه بعد أن ساح في الهند والصين — إلى نهايته بأن جحد الحب والتناسل، فقال بإيثار العزوبة على الزواج، وترجع العزوبة التي يتسم بها كهنة الكاثوليك الآن إلى هذه النزعة المانوية. ثم أخذ من زرادشت — نبي الفرس — تقسيم القوة الكونية إلى مبدأين، مبدأ الخير ومبدأ الشر، وكان زرادشت يعبر عن الأولى بالضوء وعن الثانية بالظلام، فنقح هو هذا التعبير بأن جعل إله المسيحية مبدأ للخير وإله اليهود «يهوه» مبدأ للشر.

وتقوَّضت كنيسته بموته سنة ٢٧٧، ولكن عقائده — كما قلنا — لم تمت، فتقمصها الكهنة المسيحيون في غرب أوروبا، وجنحوا إلى العزوبة، وحرَّموا على الناس قراءة التوراة؛ لأنه كتاب «يهوه» وكان المانويون يُدْعون «الطاهرين» لشدة تقشفهم، ولإعلائهم شأن الروح، وإنكارهم اللذات الجسدية.

وأول ضحايا المانوية أسقف إسباني يدعى بريشيليان، أحرق سنة ٣٨٥ لهرطقته المانوية، وبعد هذا التاريخ لا نسمع شيئًا عن المانوية إلى القرن الحادي عشر، حين نسمع عن طوائف تتسمى بأسماء مختلفة، ولكنها مشربة بهذا المذهب: فمنهم طائفة الألبين التي عاشت في جنوب فرنسا الشرقي، لا نعرف متى ابتدأ تكوينها، وإنما يذكر التاريخ أن أول من قُتل لتمسكه بمذهبها كان سنة ١٠٢٢، وأن آخر من قُتل كان سنة ١٣٤٥، وأن محكمة التفتيش أنشئت في هذا العهد.

ولما لم تكف المحكمة — إذ كان كل شهيد يُقتل أو يحرق يتقدم لملء فراغه عشرة أو عشرون — نظمت الجيوش وسلطت على الطائفة كلها لمحقها. وكان الألبي يؤمن بأن الجسم والمادة كليهما شر، وأن المسيح إنما عاش على الأرض روحًا لا جسم له، وأن الزواج منكر يحسن بالإنسان أن يتجنبه، وأن الإنسان لا يمكنه أن يتحرر تمامًا إلا بالتقشف وإنكار الذات.

وكانت الطائفة منقسمة فئتين: فئة القادة «الطاهرين» وهؤلاء كانوا يعيشون في نسك وتقشف بالغَين، وفئة «الأتباع» الذين لم يكن يُطلب منهم مثل هذا النسك أو التقشف، ولعل كل ذلك كان يمكن كنيسة البابا أن تتسامح فيه وتتصام عنه، ولكن الألبين كانوا — وهذا موضع الخطر — يرفضون أن يرضخوا للكنيسة بقرش واحد من مالهم.

وأخيرًا ألهب الألبيون شرارة الحرب بأن قتلوا مندوب البابا في بروفانس — الإقليم الذي يسكنونه — فتعلل البابا أنوسنت الثالث بقتل مندوبه، ودعا لجهادهم، ورغَّب الناس في هذا الجهاد بأن كل من يقاتل هؤلاء الكفار أربعين يومًا متوالية يُرفع عنه ربا الديون التي يستدينها، وتغفر له خطاياه السابقة واللاحقة، وأيضًا يعفى مدة القتال من سريان أحكام القضاء عليه، ومعنى هذا الامتياز الأخير أنه يستطيع أن يفعل بمن يقاتلهم كما يشاء.

واجتمع الأوباش من جميع أنحاء أوروبا؛ تلبية لهذا النداء، ومحقوا الألبيين محقًا، وكان يقود هؤلاء الأوباش رجل إنكليزي يدعى سيمون دومونتفورث، كوفئ على الفظائع التي ارتكبها بإقطاعه عدة ضياع واسعة في أرض هؤلاء المساكين الذين قتلهم وأبادهم، وبقي أفراد من الألبين توزعوا في البلاد وقد ذلوا واستكانوا، ولكن محكمة التفتيش كانت تستثيرهم من أجحارهم، وتعمل فيهم الموت قتلًا بالسيف، وإحراقًا بالنار، وخنقًا بالحبال إلى أن زال اسمهم تمامًا.

وكانت محاكم التفتيش تنشأ في كل مكان، وتحاكم الناس على كل شيء، وأشهر هذه المحاكم «المحكمة الملوكية» في إسبانيا و«المحكمة المقدسة» في رومية، والأولى مشهورة بقتل الأندلسيين المسلمين واليهود.

وعاشت محاكم التفتيش أكثر من خمسمائة سنة، قتلت فيها الألوف من الناس، ولا نعني بالناس دهماءهم الذين يرضون بما يُملى عليهم، بل نعني: خيارهم وعلماءهم ومفكريهم، أولئك الذين كانت لهم كرامة فكرية لا يبيعونها بنفوسهم، وكان لهم عرض ديني ينافحون عنه، وكان لهم ضمير يأبون الزنا عليه. هؤلاء الناس قتلتْهم محاكم التفتيش، فحرمت أوروبا من هذا العرق الثائر الحر الكريم، واستأصلت من إسبانيا جرثومة التفكير الحر، حتى باتت هذه الأمة — وهي تعيش الآن بأجسامها في القرن العشرين — وأرواحها لا تزال تتحسس الحياة في القرون المظلمة.

وكان الإنسان في تلك العصور يكبس منزله وهو هادئ وادع، فيحمل في جوف الليل، ويعتقل الأشهر — بل السنين — وهو لا يدري ماهية التهمة التي سيُتهم بها؛ لأن خصمًا له من الجيران قد أبلغ المحكمة بأنه سمعه يقول كيت وكيت عن «الرؤيا» أو عن «الثالوث» أو عن «المعجزات».

وكان يحرم على المتهم أن يوكل عنه محاميًا، أو أن يعرف اسم الذي أبلغ عنه، وكانت المحكمة تعتبر شهادة الهرطيق إذا كانت على المتهم، فإذا كانت له لم تعتبرها، ثم إذا أصرَّ المتهم على إنكار ما نسب إليه من التهمة جاز للمحكمة تعذيبه بأن تقطعه أشلاء، شلوًا بعد شلو، أمام عينيه، أو أن تُقرض لحمه بالمقراض، وأخيرًا تحرقه، وقد يحرق وهو لا يدري فيم أحرق.

وقد يبدو غريبًا للقارئ أن يعرف أن محكمة التفتيش كانت تحكم على رجل قد مضى على موته نحو خمسين سنة، فتأمر بنبشه من القبر، وتستصفي جميع أملاكه بعد أن تتهمه بالهرطقة، التي ربما كان هو نفسه لا يعرف منها شيئًا، دع عنك ورثته المساكين الذين يصادرون في أملاكهم اعتبارًا بأنها كانت ملك هذا السلف الخاطئ، فيخرجون من نعمة نشئوا وتقلبوا على بساطها، شريدين مطرودين، يمتهنهم كل من كان دونهم في المقام والمال.

وكانت طائفة الرهبان الجوالين يتجرون بالدين، يطرقون الناس وينزلون ببيوتهم، يأكلون ويشربون هانئين في رغد، فإذا أحسوا بضجر أو إساءة اتهموا رب البيت بالهرطقة، ولم يكونوا يخشون شيئًا؛ لأنهم كانوا يعرفون أن المتهم سيقر بالتهمة لفرط ما ينال جسمه من العذاب، فإذا اعترف قتل، ولم يقف الجمهور على غدرهم وباطلهم.

وقد كان هؤلاء الرهبان ومحاكم التفتيش سببًا من أسباب النجاح الذي أصابته الدعاية البروتستانتية، بل سببًا أيضًا من أسباب نزعة الإلحاد التي فشت في العالم الأوروبي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤