مقام الخلافة في الإسلام

في القرن السابع كان الشرق الأدنى قد سئم سيطرة القسطنطينية؛ لأن اختلال إدارتها كان قد بلغ شأوًا عظيمًا، ولأن الخلافات المذهبية بين الطوائف كانت كرَّهت الناس في حكوماتهم المحلية، فما إن هبت الريح العربية حتى تلقاها أهل سوريا ومصر كما يتلقى المحرور النسيم، وكانت روح الإسلام المهادنة والمحايدة، فكان يقنع في أول ظهوره بالجزية من الذميين، ويترك لهم شئونهم الداخلية، وكان جنود العرب يقيمون في أرباض المدن بعيدين عن الأهالي، فخف لذلك عبئهم على الأهالي، وآثروهم على الرومانيين.

وإذا أردنا أن نستكنه روح الإسلام يجب أن نفهم روح الأعرابي في جزيرة العرب، فهي روح البداوة، والبدوي بطبيعة معيشته يتعصب لوحدانية الله تعصبًا شديدًا، ويكره جميع ضروب الترف، سواء أكان هذا الترف ذهنيًّا أم ماديًّا، وربما كان الوهابيون الآن أقرب من يمثل لنا فورة الإسلام وهبوب العاصفة العربية على الدولة الرومانية.

ويمتاز الإسلام من سائر الأديان بأنه ليس له كهنة سوى كاهن واحد هو الخليفة، ولست في قولي هذا أجهل المحاولات الشريفة التي حاول بها كتَّاب عصريون أن يجعلوا الخلافة منصبًا مدنيًّا فقط؛ فإن الذي يبعثهم على ذلك بواعث شريفة، ولكنها تُخالف التاريخ، فالواقع أن الخليفة حاكم مدني وديني معًا، وأن الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب إنما فعلوا ذلك؛ لأنه في نظرهم لم يستبد الاستبداد اللائق بالخلافة، وأنه رضي بالتحكيم، مع أن الخلافة منصب ديني يستمد سلطته من الله، ويشترط الاستبداد بالرأي.

ولكن المتأمل في هذا الموضوع يرى نفسه في مأزق من الشك، هل ينسب الاستبداد في الخلافة إلى الروح البدوية العربية أم إلى فقهاء الإسلام؟ من الجهة الواحدة نرى أن العربي البدوي يؤثر الحكم المطلق، وبيئته تساعده على ذلك؛ لأنه في رحلته أو مقامه في وسط الصحراء كالمسافر على السفينة، ينظر إلى الربان نظرة الجندي للقائد، أو هو بين إخطار الغارات التي تنزل به في أي وقت يحتاج إلى قائد مستبد، يرى الرأي وينفذه في التو والساعة.

ومن الجهة الأخرى نرى أن أممًا مسلمة كثيرة بعدت عن الروح العربية، ولكن بقي بها استبداد الخلافة، وقد يقال: إن القرآن لم ينص على الخلافة، وهذا صحيح، ولكن الإنجيل أيضًا لم ينص على البابوية، فكما أنه لا يمكن أن نخلي المسيحية من تبعات البابوية، فكذلك لا يمكن أن نخلي الإسلام من تبعات الخلافة، والحقيقة أن البابوية والخلافة ترجعان إلى التقاليد المأثورة لا إلى الإنجيل ولا إلى القرآن.

وقد انتفع الإسلام من عدم وجود الكهنة في نظامه، ولكن بقاء المسحة الدينية على الخلافة كاد يزيل هذه الميزة التي للإسلام على الكنيسة المسيحية؛ فإن المهدي والهادي مثلًا اقترفا فعلًا بخلافتهما من اضطهاد الزنادقة مثلما اقترف الكهنة بمحكمة التفتيش من اضطهاد الهراطقة، ومن يقرأ الخُطَبْ التي فاه بها بعض الخلفاء يشعر أن دعواهم بالحق الإلهي في الحكم الديني والدنيوي تزيد على دعوى الباباوات في رومية.

وليس ههنا مجال الكلام على أصول الإسلام أو غاياته أو قيمته العمرانية، وكل ما يمكن أن نقوله أنه دين يتسم بكراهية الترف، وبشدة الإيمان بالوحدانية، وأن الوهابيين يمثلون روحه الآن أصدق تمثيل.

•••

والخليفة والبابا كلاهما كان له شأن في تاريخ حرية الفكر، الأول في الشرق والثاني في الغرب، وكلاهما قد اعتمد على سلطة إلهية ليس للبشر سلطان عليها؛ ولذلك لا يمكن مؤلفًا يؤرخ حرية الفكر أن يهمل الإلمام بتاريخهما.

والخليفة هو مصدر السلطات الدينية والمدنية لجميع الأمم الإسلامية، وهو من حيث الانتخاب يشبه البابا، فكلاهما يُنتخب، والبيعة هي الشكل الذي عرفه المسلمون لتقرير الانتخاب، ويُقابلها عند البابا القرعة.

فالبابا — كان ولا يزال — ينتخبه الكرادلة؛ أي كبار الكهنة، بالقرعة، أما الخليفة فكان مدة الخلفاء الراشدين ينتخب بالبيعة العلنية، تنتخبه الأمة بأجمعها. ولكن في حين أن البابا لا يزال يُنتخب للآن؛ فإن الخلفاء منذ ابتداء الدولة الأموية إلى آخر الدولة العباسية والعثمانية كانوا يتوارثون الخلافة.

وقد كانت الخلافة مدة الخلفاء الراشدين — أبي بكر وعمر وعثمان وعلي — يغلب على خلفائها الزهد والورع، فلما انتقلت إلى الأمويين زالت عنها المسحة الدينية تقريبًا، مع استثناء عمر بن عبد العزيز، وهي لو استمرت في دولة الأمويين لاقتصرت على الحكم المدني، وربما كان اهتدى المسلمون بالأمويين إلى نظام دستوري لحكمهم، فقد كان الأمويون ينظرون إلى العرب بعين العطف، وإلى الإسلام بعين الحسد، وكانوا يكتمون جميع النزعات الدينية.

ولكن ظهرت الدولة العباسية — التي تنتمي إلى العباس عم النبي — فعادت الصبغة الدينية، واستمر الخلفاء في صعود إلى أن استولى الفرس والأتراك على البلاد، فضيَّقوا على الخليفة، واضطروه إلى الانزواء في قصره، ورتَّبوا له معاشًا، فعاد أسوأ حالًا من البابا الآن.

وإليك الآن خطبة لأبي جعفر المنصور العباسي، الذي مات سنة ٧٧٥م، وتدلك على مقدار نظره إلى سلطته، قال:

أيها الناس! إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلًا، إن شاء الله أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم، وإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني، فارغبوا الله وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم من فضله ما أعلمكم به كتابه؛ إذ يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا أن يوفقني للرشاد والصواب، وأن يلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم.

ولما استوزر الناصر — الذي مات سنة ١٢٢٥م — وزيره محمد بن برز القمي أذاع منشورًا بين الناس هذا نصه:

محمد بن برز القمي نائبنا في البلاد والعباد، فمن أطاعه فقد أطاعنا، ومن أطاعنا فقد أطاع الله، ومن أطاع الله أدخله الجنة، ومن عصاه فقد عصانا، ومن عصانا فقد عصى الله، ومن عصى الله أدخله النار.

واختلفت حظوظ الخلفاء من سطوة المنصور إلى ذلة القاهر، ومن أُبَّهة الرشيد إلى ورع عمر بن عبد العزيز، ويمكن أن يقال: إن الأتراك هم الذين جعلوا الخلافة اسمًا بلا مسمًّى؛ فإنهم كانوا يخلعون الخلفاء، ويسملون عيونهم ويعذبونهم.

فمن ذلك ما فعلوه بالقاهر الذي بويع سنة ٩٢٩م، فإنهم «هجموا عليه وسملوه حتى سالت عيناه على خديه، ثم حبس في دار السلطنة، ومكث في الحبس مدة، ثم أخرج منه عند تقلب الأحوال، وكان مرة يحبس ومرة يفرج عنه، فخرج يومًا ووقف بجامع المنصور يطلب الصدقة من الناس … فرآه بعض الهاشميين فمنعه من ذلك، وأعطاه خمسمائة درهم.»

ولما دخل المغول بغداد انتقلت الخلافة العباسية إلى القاهرة، وبقي الخليفة يمثل المجد التاريخي القديم، ويولي الأمراء باسمه، إلى أن جاء سليم سلطان الأتراك فاحتمله معه إلى القسطنطينية، ولا يعرف هل نزل له الخليفة عن حقوق الخلافة أم ادَّعاها سليم دعوى القادر الغاصب، وبقيت الخلافة في سلاطين الأتراك إلى أن ألغاها الأتراك حديثًا، ومحوها من بلادهم.

وكان من الخلفاء المُحب للعلم والكاره له، فكان منهم المأمون الذي كان يأمر بنقل فلسفة الإغريق إلى العربية، وكان منهم أيضًا المهدي الذي كان «شديدًا على أهل الإلحاد والزندقة لا تأخذه في إهلاكهم لومة لائم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤