التسامح في الإسلام

من أحسن الكتب التي وضعت في اللغة العربية في بدء هذا القرن كتاب «ابن رشد وفلسفته» الذي ألَّفه فرح أنطون؛ فهو أول كتاب ظهر في اللغة العربية يدافع عن حرية الفكر والتسامح الديني، وقد حدثت بين المؤلف والشيخ محمد عبده مناقشة حادة بشأن التسامح في الإسلام والنصرانية، يمكن القارئ الراغب في التزيد في هذا الموضوع أن يرجع إليها في الكتاب نفسه، ولكننا وجدنا فيه للشيخ محمد عبده دفاعًا عن الإسلام يحسن بنا أن نثبته هنا؛ حتى يذكره القارئ وهو يقرأ ما نقلناه من الكتب التاريخية بشأن اضطهاد بعض الخلفاء لغير المسلمين من النصارى واليهود، قال الشيخ محمد عبده:

قال المستر دربير — أحد المؤرخين ومن كبار الفلاسفة: «إن المسلمين الأولين في زمن الخلفاء لم يقتصروا في معاملة أهل العلم من النصارى والنسطوريين ومن اليهود على مجرد الاحترام، بل فوضوا إليهم كثيرًا من الأعمال، ورقوهم إلى المناصب في الدولة، حتى إن هارون الرشيد وضع جميع المدارس تحت مراقبة حنا بن ماسويه.»

وقال في موضع آخر:

كانت إدارة المدارس مفوضة مع نبل الرأي وسعة الفكر من الخلفاء إلى النسطوريين تارة وإلى اليهود تارة أخرى، ولم يكن ينظر إلى البلد الذي عاش فيه العالم ولا إلى الدين الذي ولد فيه، بل لم يكن ينظر إلا إلى مكانته من العلم والمعرفة.

قال الخليفة العباسي الأكبر، المأمون:

إن الحكماء هم صفوة الله من خلقه، ونخبته من عباده؛ لأنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس الناطقة، وارتفعوا بقواهم عن دنس الطبيعة، هم ضياء العالم، وهم واضعو قوانينه، ولولاهم لَسقط العالم في الجهل والبربرية.

وقال في موضع آخر:

إن العرب زحفوا بجيش من أطبائهم اليهود ومؤدبي أولادهم من النسطوريين، ففتحوا من مملكة العلم والفلسفة ما أتوا على حدوده بأسرع مما أتوا على حدود مملكة الرومانيين.

ولست في حاجة إلى ذكر ما أسس الخلفاء والملوك من المدارس، وأقاموا من المراصد، وما حشدوا من الكتب في المكاتب؛ لأن هذا خارج عن بحثنا الآن.

… أذكر ممن اشتهر من الحكماء بالحظوة عند الخلفاء جيورجيس بن بختيشوع طبيب المنصور: كان فيلسوفًا كبيرًا، عَلَتْ منزلته عند المنصور، كانت له زوجة عجوز لا تُشْتَهَى، فأشفق عليه المنصور، وأنفذ إليه ثلاث جوارٍ حسان، فردهن وقال: «إن ديني لا يسمح لي بأن أتزوج غير زوجتي ما دامت حية» فأعلى مكانته حتى على وزرائه، ولما مرض أمر المنصور بحمله إلى دار العامة، وخرج إليه ماشيًا يسأل عن حاله، فاستأذنه الحكيم في رجوعه إلى بلده؛ ليدفن مع آبائه، فعرض عليه الإسلام ليدخل الجنة، فقال: «رضيت أن أكون مع آبائي في جنة أو نار» فضحك المنصور وأمر بتجهيزه، ووصله بعشرة آلاف دينار — وهو المنصور الدوانيقي المشهور بالإمساك وكزازة اليد — وأوصى من معه بحمله إذا مات في الطريق إلى مدافن آبائه كما طلب، ثم سأله عمن يخلفه عنده، فأشار إلى عيسى ابن شهلانا أحد تلاميذه، فأخذه المنصور مكان جيورجيس، فطفق يؤذي القسوس والبطارقة، ويهددهم بمكانه عند الخليفة؛ لينال منهم رغائبه، فشعر الخليفة بذلك وطرده.

وممن حظي عند المنصور نوبخت المنجم وولده أبو سهل، وكانا فارسَين على مذهب الفرس، ثم كانت ذرية مسلمة لأبي سهل، وكانوا جميعًا منجمين، لهم شهرة في علوم الكواكب فائقةٌ.

وممن حظي بالمكانة العليا عند الخلفاء المهدي تيوفيل، ابن توما النصراني المنجم، وكان على مذهب الموارنة من سكان لبنان، وله كتبٌ في التاريخ جليلةٌ، ونقل كتاب أميروس إلى السريانية بأفصح عبارة.

وممن ارتفع شأنه عند الرشيد من الفلاسفة بختيشوع الطبيب، وجبريل ولده، ويوحنا بن ماسويه النصراني السرياني — الذي تقدم أن الرشيد جعله مديرًا لجميع مدارس بغداد — ولاه الرشيد ترجمةَ الكتب القديمة، طبية وغيرها، وخدم الرشيد ومَنْ بعده إلى المتوكل. وكان يعقد في داره مجلسًا للدرس والمناظرة، ولم يكن يجتمع في بيت للمذاكرة في العلوم من كل نوع والآداب من كل فن مثل ما كان يجتمع في بيت يوحنا بن ماسويه.

وممن علا قدره في زمن المأمون يوحنا البطريق مولى المأمون، أقامه كذلك أمينًا على ترجمة الكتب من كل علم من علوم الطب والفلسفة، وكذلك ارتفع شأن سهل بن سابور وسابور ابنه، وكانا نصرانيين، وولى سابور بن سهل مارستان جندي سابور.

وكان سلمويه بن ينان النصراني طبيبًا عند المعتصم، ولما مات جزع عليه جزعًا شديدًا، وأمر أن يدفن بالبخور والشموع على طريقة النصارى.

وكان بختيشوع بن جبريل عند المتوكل يومًا فأجلسه بجانبه، وكان عليه دراعة رومية من الحرير بها فتق، فأخذ المتوكل يُحادثه ويعبث بالفتق، حتى وصل إلى النيفق وهو ما اتسع من الثوب، ودار الكلام بينهما حتى سأله المتوكل بماذا تعلمون أن المسوس يحتاج إلى الشد؟ فقال بختيشوع: إذا عبث بفتق ذراعه طبيبه حتى بلغ النيفق شددناه، فضحك المتوكل حتى استلقى.

وفي أيام المتوكل اشتهر حنين بن إسحاق النصراني العبادي، وهو من أشهر المترجمين لكتب أرسطو وغيره، وامتحن المتوكل صدقه، فظهرت له عزيمة لا تفل، فأقطعه إقطاعات واسعة، وكان قد عرف بفصاحة العبارة وحسن الترجمة في زمن المأمون وهو فتًى، فكلفه بترجمة الكتب، وكان يعطيه ما يترجم ذهبًا، وكان بينه وبين الطيفوري النصراني مُحاسَدة أفضتْ إلى طلب الحكم على حنين في مجلس الأساقفة بالحرم من الكنيسة، فمات غمًّا لاضطهاد أهل طائفته له مع عزته وعلو قدره عند الخليفة. وهذا الطيفوري أيضًا كان من المقربين عند الخلفاء.

وممن ارتفع شأنه عند الخلفاء والخاصة والعامة في زمنه أيام خلافة الراضي متَّى بن يونس المنطقي النصراني النسطوري، كان متفننًا في جميع العلوم العقلية، أخذ عنه أبو نصر الفارابي، وانتهت إليه الرياسة في بغداد، وكان من أهل دير قنى، ونشأ في مدرسة مار ماري، وقرأ على روفائيل وبنيامين الراهبين اليعقوبيين.

ومن المقربين عند الخلفاء قسطا البعلبكي من فلاسفة الإسلام، وهو نصراني، طلبه الخليفة إلى بغداد لأجل الترجمة، ثم يحيى بن عهدي بن حميد بن زكريا المنطقي، انتهت إليه الرئاسة ومعرفة العلوم الحكمية في وقته، وقرأ على متَّى بن يونس، وعلى أبي نصر الفارابي.

ومنهم أبو الفرج بن الطيب فيلسوف عالم، قالوا: كان كاتب الجاثليق متميزًا في النصارى ببغداد، وكان يقرئ صناعة الطب في المارستان العضدي، وكان معاصرًا للشيخ الرئيس ابن سينا، والرئيس يمدح طبه، ولا يحمد فلسفته، وله كلام فيه.

وممن كانت له المكانة الرفيعة عند الخلفاء والخاصة والعامة ثابت بن قرة الحراني الصابئ — من طائفة الصابئين المعروفة — تربى في بيت محمد بن موسى بن شاكر الفلكي المشهور، وبلغ من علوم الفلسفة مبلغًا لم يدانه فيه غيره، وله تآليف كثيرة من المنطق والطب والرياضيات، وبلغ عند المعتضد مقامًا تقدم فيه عنده على وزرائه، وولد ثابت هذا سنة إحدى عشرة ومائتين بحرَّان، ثم كان ابناه إبراهيم وسنان على قدم أبيهما، ومن حفدته أبو الحسن ثابت بن قرة، وكان ثابت وإبراهيم وسنان صابئين، ولهم من المنزلة ما علمت، ومدحهم كثير من شعراء المسلمين، وهم صابئة.

انتهى ما أردناه من كلام الشيخ محمد عبده ومنه يرى القارئ شيئين:
  • (١)

    تسامُح الخلفاء ورعايتُهم للعلماء النصارى.

  • (٢)

    تشجيعهم للعلوم.

في معظم حوادث الاضطهاد الديني نجد أن رجل الدين يتعلل بالدين وغايتُه في الحقيقة السياسةُ، ولولا المصلحة السياسية أيضًا لَبقي الدين معتكفًا منعزلًا وحده في جامع أو صومعة، فقد تسمع أن ريتشارد قلب الأسد صادر اليهود في أموالهم في إنكلترا، يتعلل في ذلك بأنهم يهود كفار، وفي الوقت نفسه ينتفع بأموالهم في الحروب الصليبية.

وكذلك الحال في كل اضطهاد تقريبًا نزل باليهود، الأصل فيه هو السياسة والوسيلة هي الدين؛ ولذلك نجد أن النظر الديني لليهود والنصارى يختلف باختلاف الزمان والمكان؛ أي باختلاف النظر السياسي، فقد قضت السياسة على عمر بن الخطاب أن يمحو النصرانية واليهودية من جزيرة العرب فمحاهما.

وقضت السياسة أيضًا على مسلمي الأندلس أن يتسامحوا مع النصارى فبلغ من تسامحهم — مع استثناء بعض نزعات التعصب — أن جعلوا يوم الأحد يوم البطالة، وأذنوا للمبشرين بالنصرانية بالوقوف على أبواب الجوامع لدعوة المسلمين إلى النصرانية، وكان أمراؤهم يتخذون هيئة الأمراء النصارى في اللباس ويصاهرونهم. وكذلك نرى من التسامح في مصر شيئًا كثيرًا، حين كان أمراء مصر وخلفاؤها يستوزرون الأقباط.

وقيمة هذا التسامح تزداد وضوحًا عندما نقابله بالمعاملة التي لاقاها المسلمون واليهود على أيدي الإسبانيين الذين استأصلوهم من إسبانيا بعد أن فتكت بهم محكمة التفتيش.

وفيما يلي سنذكر ثلاثة من خلفاء الإسلام؛ اثنان منهم من الطراز الأول في العدل كما يفهمه كل منهما، وواحد لا شك في هوسه، وسترى الآن أن ما يعزى من الاضطهاد للاثنين الأولين، وهما عمر بن الخطاب والمأمون، إنما هو أشبه بالاضطهاد السياسي منه بالاضطهاد الديني. وأما ما يعزى إلى الثالث، وهو الحاكم بأمر الله، فضرْب من الهوس، ولكن يبقى بعد ذلك أن هؤلاء الثلاثة اضطهدوا اليهود والنصارى، وتعلَّلوا بالدين باضطهادهم.

فقد كان عمر بن الخطاب يقصد إلى رَفْع شأن العرب، وتوثيق عُرى قوميتهم، فطرد اليهود والنصارى من الجزيرة، ثم أمر بعدم بناء كنائس جديدة أو ترميم ما تَهَدَّمَ، ومنع النصارى من إقامة الصلبان فوق الكنائس، كما منعهم من حمل كُتُبهم المقدسة في المواكب أو الأماكن العامة، وأجبرهم على تخفيض صوتهم عند الترتيل في الكنائس إذا كانت هذه الكنائس في حي يسكنه المسلمون، ومنعهم من إيقاد الشمع والمشاعل في المشاهد وقت تشييع الجنائز، وحرَّم عليهم محاولة تنصير مسلم، أو أن يَحُولوا دون إسلام نصراني، ومنعهم من أن يتخذوا هيئة المسلمين في اللباس، وحظر عليهم التسمي بأسماء عربية أو حمل السلاح، وكتب إلى عمرو بن العاص — والي مصر — يأمره بأن يختم في رقاب أهل الذمة بالرصاص، وأن تجز نواصيهم، وأن يركبوا عرضًا، وأن يظهروا زنانيرهم.

أما المأمون فإن شهرته بالعدل لا تقل عن شهرة عمر، وقد ذكر الكندي عنه قصة جرت بمصر وقت زيارته لها تدل على نظره للمخالفين للدين، فإنه عندما كاد يبلغ تخوم مصر الشرقية أنبئ بخروج المسلمين والأقباط في سمنود متحدين على الوالي؛ لفرط ما كابدوا من الجور، وما تحملوا من الضرائب الفادحة، فتغاضب المأمون وعنف الوالي، وحمَّله هو وجُباتُه اللوم كله، وتوعدهم بالعقاب القريب، وتعالم الناس بما فَاهَ به المأمون، وبلغ الثائرين ما قاله، وما توعد به الوالي وجباة الضرائب، فاتفقوا مسلمين وأقباطًا على أن يستأمنوا للمأمون وينزلوا على حكمه، فلما استأمنوا وسلموا سلاحهم عفا عن المسلمين، ثم قبض على جميع الأقباط رجالًا ونساءً — وهم يُعدون بالآلاف — فقتل جميع الرجال وباع النساء والصبيان.

بقي الحاكم الخليفة الفاطمي — الذي قُتل بالقاهرة سنة ١٠٢١م — وهو يختلف عن عمر والمأمون من حيث إن التاريخ يصفه بالهوس والسخافة بمقدار ما يصفهما بالعقل والحكمة، واضطهاده للأقباط في مصر أكثرُه هوسٌ؛ فإنه أمرهم بلبس ثياب الغيار، وشد الزنار في أوساطهم، ومنعهم من عمل الشعانين، وقبض على ما في الكنائس وأدخله على الإسلام، وعاملهم بغير ذلك من ضروب التشديد والعنف بما لم يقاس النصارى مثله من قبل في مصر.

فمن هوسه أنه أجبرهم على أن يعلِّقوا الصلبان من أعناقهم، طول الصليب ذراع ووزنه خمسة أرطال، وأجبر اليهود على أن يعلقوا من أعناقهم قرامي الخشب بوزن صلبان النصارى، وألا يركبوا شيئًا من المراكب المحلاة، وأن تكون ركبهم من الخشب، وألا يستخدموا أحدًا من المسلمين، ولا يركبوا حمارًا لمُكارٍ مسلم، ولعل معاملته لهم أعظم ما أصابهم من الاضطهاد مدة الحكم الإسلامي.

على أن معاملته للمسلمين لم تكن عادلة — وإن كانت دون الاضطهاد — فقد منعهم من أكل الملوخية والجرجير، ومنع النساء من التبرُّج، وأمر الخطباء بلعن السلف، ويقال إنه هو نفسه كَفَرَ بالإسلام، وحاول إقامة دينٍ جديد، وهو مؤسِّس دار الحكمة التي كانت تنشر الكفر والزندقة.

ولَمَّا اشتد اضطهاده للأقباط أسلم معظمُهم، فلما رجع عن اضطهاده أَذِنَ لهم في الارتداد فارتدوا.

ففي هذه الأمثلة الثلاثة نرى اضطهادًا صريحًا، ولكن لا يمكننا — مع الإنصاف — أن ننسب هذا الاضطهاد للإسلام، فإن معاملة عمر والمأمون للنصارى واليهود إنما كان تدفعهما إليها المصلحة القومية وسياسة الدولة، أما معاملة الحاكم فهوس لا غش فيه.

ويحسن بنا أن نختم هذا الفصل بهذه القطعة الآتية، التي نقلناها من تاريخ الأتراك لمحمد فريد بك عن محمد الفاتح ومعاملته للنصارى حين فتح القسطنطينية سنة ١٤٥٣؛ قال:

ثم دخل السلطان المدينةَ عند الظهر، فوجد الجنود مشتغلة بالسلب والنهب، فأصدر أوامره بمنع كل اعتداء، فسادَ الأمنُ، ثم زار كنيسة أيا صوفيا، وأمر بأن يؤذَّن فيها بالصلاة؛ إعلانًا بجعلها مسجدًا جامعًا للمسلمين، وبعد تمام الفتح على هذه الصورة أعلن في كافة الجهات أنه لا يُعارض في إقامة شعائر ديانة المسيحيين، بل إنه يضمن لهم حرية دينهم وحفظ أملاكهم، فرجع من هاجر من المسيحيين، وأعطاهم نصف الكنائس، وجعل النصف الآخر جوامعَ للمسلمين، ثم جمع أئمة دينهم؛ لينتخبوا بطريقًا لهم، فاختاروا جورج سكولايوس.

واعتمد السلطان هذا الانتخاب، وجعله رئيسًا لطائفة الأروام، واحتفل بتثبيته بنفس الأبهة والنظام، اللذين كان يُعمل بهما للبطارقة في أيام ملوك الروم المسيحيين، وأعطاه حرسًا من عساكر الإنكشارية، ومنحه حق الحكم في القضايا المدنية والجنائية بكافة أنواعها المختصة بالأروام، وعَيَّنَ معه في ذلك مجلسًا مشكَّلًا من أكبر موظفي الكنيسة، وأعطى هذا الحق في الولايات للمطارنة والقسوس، وفي مقابلة هذه فرض عليهم دفع الخراج، مستثنيًا من ذلك أئمة الدين فقط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤