الفصل التاسع

الأجندة الفيدرالية

من الانتقادات المتكررة التي تُوجَّه إلى اللاسلطوية القول بأنها أيديولوجية تناسب عالمًا من القرى المنعزلة، الصغيرة بما يكفي لكي تكون كيانات ذاتية الحكم، ولكنها لا تناسب المجتمع العالمي متعدد الجنسيات الذي نعيشه في الحياة الواقعية. ولكن في حقيقة الأمر كانت لدى المفكرين اللاسلطويين الرئيسيين القدامى — برودون وباكونين وكربوتكين — أجندة فيدرالية تعتبر بشيرًا للمناقشات الحديثة عن الوحدة الأوروبية.

تلك القلة من الأطفال في أي بلد أوروبي التي أتيحت لها فرصة دراسة تاريخ أوروبا إلى جانب تاريخ أمتها؛ تعلمت أن هناك حدثين كبيرين وقعا خلال القرن التاسع عشر: توحيد ألمانيا، بفضل بسمارك والإمبراطور فيلهلم الأول؛ وتوحيد إيطاليا، بفضل كافور ومازيني وجاريبالدي وفيتوريو إيمانويل الثاني. استقبل العالم هذه الإنجازات بحفاوة (وهو ما نقصد به في ذلك الوقت العالم الأوروبي)؛ لأن ألمانيا وإيطاليا قد تخلتا عن تلك الإمارات والجمهوريات والمقاطعات البابوية والمدن الصغيرة السخيفة لتصبحا دولتين قوميتين وإمبراطوريتين، وبالطبع قوتين غازيتين.

لقد أصبحتا مثل فرنسا، التي توحَّد صغار طغاتها المحليين أخيرًا بالقوة، أولًا عن طريق لويس الرابع عشر بشعاره الملكي «الأرض مِلكي»، ثم عن طريق نابليون، وريث «الثورة العظمى»، تمامًا مثل ستالين في القرن العشرين الذي أسس آلية الرعب الإداري ليضمن تحقق الشعار. أو أصبحتا مثل إنجلترا، التي انتصر ملوكها (وحاكمها الجمهوري الوحيد، أوليفر كرومويل) على الويلزيين والاسكتلنديين والأيرلنديين، وسعَوْا إلى السيطرة على باقي العالم خارج أوروبا. كان الأمر نفسه يحدث في الجانب الآخر من أوروبا؛ فقد غزا إيفان الرابع — الذي لُقِّب عن استحقاق باسم «الرهيب» — آسيا الوسطى وصولًا إلى المحيط الهادئ، كما سيطر بيتر الأول — المعروف باسم «العظيم» — على البلطيق ومعظم بولندا وغرب أوكرانيا، وذلك باستخدام التقنيات التي تعلمها في فرنسا وبريطانيا.

رحبت الآراء التقدمية في أرجاء أوروبا بألمانيا وإيطاليا داخل تكتل السادة للقوى الإمبريالية والقومية. تمثلت النتائج اللاحقة خلال القرن العشرين في مغامرات غزو مروعة، مع خسائر هائلة في الأرواح من الشباب الآتين من القرى الأوروبية في الحربين العالميتين، وظهور زعماء شعبويين مثل هتلر وموسوليني، بالإضافة إلى مقلديهم الذين لا حصر لهم حتى يومنا هذا، الذين يرفعون شعار «الأرض ملكي». وهكذا، رغم قلة رجال السياسة الذين يؤيدون تفتيت الأمم، سعت جمهرة منهم من كل طائفة إلى الوحدة الأوروبية: اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا أو إداريًّا أو، بطبيعة الحال، سياسيًّا.

ما من داعٍ إلى ذكر أنه في ظل محاولات التوحيد التي روَّج لها السياسيون، أصدر عدة إداريين في بروكسل أوامر عليا حول تشكيلة بذور الخضراوات أو مكونات برجر اللحم أو الآيس كريم التي يمكن بيعها في متاجر الدول الأعضاء. تتناول الصحف بابتهاج كل هذه السخافات. وقد أولى الإعلام اهتمامًا أقل باتجاه آخر خفي حول الرأي المنادي بتوحيد أوروبا، والذي نشأ من الآراء المعبَّر عنها في ستراسبورج لأشخاص ينتمون لمختلِف الألوان السياسية، والذين يزعمون وجود «أوروبا الأقاليم»، ويجرءون على المجادلة بأن الدولة القومية ظاهرة تنتمي للقرون ما بين السادس عشر وحتى التاسع عشر، وأنه لن يكون لها أي مستقبل مفيد في القرن الحادي والعشرين. إن النمط الإداري الوشيك في أوروبا المتحدة فيدراليًّا الذي يجاهدون لاكتشافه بمثابة حلقة وصل بين كالابريا أو ويلز أو أندلوسيا أو أكويتين أو جاليسيا أو ساكسوني، مثلًا، بصفتها «أقاليم»، لا بصفتها «أممًا»، تسعى إلى تشكيل هويتها الإقليمية اقتصاديًّا وثقافيًّا، والتي فُقدت باندماجها وسط دول قومية، حيث يوجد مركز الثقل في مكان آخر.

خلال المد العظيم للقومية في القرن التاسع عشر، ظهر عدد من الأصوات التنبُّئية والمنشقة التي تدعو إلى بديل غير الفيدرالية. إنه لمن المثير للاهتمام، على الأقل، أن أولئك الذين بقيَتْ أسماؤهم كانوا المفكرين اللاسلطويين الثلاثة الأكثر شهرة خلال هذا القرن. لكن اعتبر الجناح اليساري مع تطوره في القرن العشرين تراثهم باليًا. هذا من سوء حظ اليساريين، بما أن التيار اليميني يحتكر النقاش الآن، والذي له أهدافه الخاصة في معارضة كلٍّ من الفيدرالية والنزعة الإقليمية.

الأول بين هؤلاء الرواد اللاسلطويين كان برودون، الذي كرَّس اثنين من كتبه لفكرة الفيدرالية في مقابل الدولة القومية، وهما «الفيدرالية والوحدة في إيطاليا» في عام ١٨٦٢، ثم في العام التالي «المبدأ الفيدرالي». كان برودون فرنسيًّا؛ أي مواطنًا من دولة قومية مركزية متحدة؛ مما اضطره إلى أن يكون لاجئًا في بلجيكا. وقد كان خائفًا من الوحدة الإيطالية على مستويات عدة مختلفة. وفي كتابه «عن العدالة» الذي صدر عام ١٨٥٨، تنبأ أن بناء إمبراطورية ألمانية لن يجلب إلا المتاعب لكلٍّ من الألمان ولبقية أوروبا، وواصل تطبيق هذه الحجة على التاريخ السياسي لإيطاليا.

عند المستوى الأدنى كان هناك التاريخ، بينما العوامل الطبيعية مثل الجيولوجيا والمناخ شكلت العادات والسلوكيات المحلية. وقد ذهب إلى أن:

إيطاليا فيدرالية طبقًا لدستور أراضيها؛ بتنوع سكانها، بطبيعة عبقريتها، بنهيراتها، بتاريخها. هي فيدرالية بكل كيانها، وقد كانت كذلك منذ نشأتها … وبالفيدرالية ستجعلها حرة أكثر بكثير مما لو جعلتها دولة مستقلة.

لذلك كان من غير الطبيعي أن تصبح إيطاليا دولة قومية.

لقد فهم أن كافور ونابليون الثالث قد وافقا على تأسيس إيطاليا فيدرالية، ولكنه كان يعلم أنهما سيعتمدان على أمير مفعم بالغرور من آل سافوي، والذي لن يقبل بشيء أقل من دولة ملكية دستورية مركزية. فيما عدا ذلك، لم يثق إطلاقًا بمعارضة مازيني للإكليركية الليبرالية، ليس حبًّا في البابوية، ولكن لأنه أدرك أن شعار مازيني «الله هو الشعب» يمكن أن يستغله أي خطيب غوغائي مفوَّه يستطيع السيطرة على آلية دولة مركزية. وقد رأى أن وجود هذه الآلية الإدارية كان تهديدًا مطلقًا للحرية المحلية والشخصية. كان برودون وحده تقريبًا بين المنظِّرين السياسيين في القرن التاسع عشر الذي يعي هذا:

الليبرالية اليوم في ظل حكومة ليبرالية، ستصبح غدًا المحرك المرعب لطاغية مغتصب. إنها إغراء أبدي للقوى التنفيذية، وتهديد أزلي لحريات المواطنين. لا ضمان لمستقبل أي حقوق، فردية أو جماعية. قد تصبح المركزية، حينئذٍ، تجريدًا للأمة من أجل مصلحة حكومتها …

كل شيء نعرفه الآن عن تاريخ أوروبا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية أو أفريقيا في القرن العشرين يؤيد هذه الملاحظة. ولا حتى أسلوب أمريكا الشمالية في الفيدرالية، الذي تخيله توماس جيفرسون وأصدقاؤه بكل الحب، يضمن القضاء على هذا التهديد. يعلق إدوارد هيماس، أحد كُتاب سيرة برودون الإنجليز أنه:

أصبح من الواضح منذ الحرب العالمية الثانية أن رؤساء الولايات المتحدة يستطيعون، ويقومون بالفعل باستخدام الجهاز الإداري الفيدرالي بطريقة تستهزئ بالديمقراطية.

ويعيد مترجمه الكندي ريتشارد فيرنون صياغة استنتاج برودون:

اطلب آراء الناس عن الشعب وسيردون بإجابات عنيفة وغبية ومتقلبة، اطلب آراءهم بصفتهم أعضاءً في مجموعات محددة بينها تلاحم حقيقي وسمة مميزة وستأتي إجاباتهم مسئولة وحكيمة. عرِّضهم ﻟ «اللغة» السياسية الخاصة بالديمقراطية الجمعية، التي تمثل «الشعب» متحدًا وغير منقسم، بينما الأقليات خونة، وسيخلقون استبدادًا. عرضهم للُّغة السياسية للفيدرالية، التي يتكتل فيها الشعب كمجموعات متنوعة من الارتباطات الحقيقية، وسيقاومون الاستبداد حتى النهاية.

تكشف هذه الملاحظة عن فهم عميق لسيكولوجية السياسة. كان برودون يرسم استنتاجه من واقع تطور الكونفيدرالية السويسرية، ولكن كانت لأوروبا أمثلة أخرى في العديد من المجالات المتخصصة؛ فقد اشتُهرت هولندا بسياستها العقابية المتساهلة أو المعتدلة. ويعتبر التفسير الرسمي لهذا هو إحلالها في عام ١٨٨٦ قانون نابليون ﺑ «قانون جنائي هولندي أصيل» قائم على تقاليد ثقافية مثل ««التسامح» الهولندي المعروف والميل إلى قبول الأقليات المنحرفة». وسأقتبس من الباحث الجنائي الهولندي الدكتور فيليم دي هان، الذي يورد التفسير بأن المجتمع الهولندي:

كان قائمًا بشكل تقليدي على المسار الديني والسياسي والأيديولوجي أكثر من الطبقي. وقد أنشأت الجماعات الطائفية المهمة مؤسساتها الاجتماعية الخاصة في جميع المجالات العامة الرئيسية. هذه العملية … هي المسئولة عن تحويل سلوك براجماتي ومتساهل عام إلى ضرورة اجتماعية مطلقة.

بعبارة أخرى، «التنوع» وليس الوحدة هو الذي يخلق ذلك النوع من المجتمع الذي نستطيع أن نعيش فيه أنا وأنت بكل يسر. والمواقف الهولندية العصرية متجذرة في تنوع مدن القرون الوسطى في هولندا وزيلاند، والتي تبين، مثل النزعة الإقليمية لدى برودون، أن المستقبل المراد لكل أوروبا يكمن في استيعاب الاختلافات المحلية.

استحثَّت المناقشات حول الاندماج الأوروبي في ستينيات القرن التاسع عشر رد فعل ارتيابيًّا لدى برودون:

قامت وسط الديمقراطيين الفرنسيين محادثات كثيرة عن كونفيدرالية أوروبية، أو ولايات متحدة أوروبية. بهذا يبدو أنهم لا يفهمون شيئًا عنها سوى أنها اتحاد جميع الدول التي توجد حاليًّا في أوروبا، كبيرها وصغيرها، يترأسها كونجرس دائم، ولكنهم يتجاهلون أن كل دولة ستحتفظ بشكل الحكومة الذي يناسبها أكثر من غيره. لكن بما أن كل دولة ستكون لها تصويتات في الكونجرس على قدر عدد سكانها وحجم منطقتها، فسرعان ما ستندمج الدول الصغيرة الموجودة بهذا الاتحاد الكونفيدرالي المزعوم مع الدول الأكبر …

قد يكون ابتلاع دول مجاورة تصرفًا بائدًا اليوم، ولكننا نستطيع أن نلاحظ تحول شكوك برودون إلى واقع في طريقة سيطرة الولايات الأكبر على نقاشات وقرارات المجتمع الأوروبي على حساب الأمم الأعضاء الصغرى.

أما معلمي الثاني الذي ينتمي إلى القرن التاسع عشر، وهو ميخائيل باكونين، فيَلفت انتباهنا إلى عدد من الأسباب. لقد كان الوحيد تقريبًا من بين المفكرين السياسيين المنتمين إلى ذلك القرن، الذي تنبأ بويلات التصادم بين الدول القومية العصرية في الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى جانب تنبُّئه بنتائج تمركز الماركسية في الإمبراطورية الروسية. في عام ١٨٦٧ بدت بروسيا وفرنسا جاهزتين لحرب حول أيهما يجب أن يتحكم في لوكسمبورج، وهذا «هدد بابتلاع كل أوروبا»، من خلال شبكة المصالح والاتحادات. عقدت عصبة السلام والحرية اجتماعها في جنيف، برعاية أفراد بارزين من دول مختلفة، مثل: جوزيبي جاريبالدي وفيكتور هوجو وجون ستيوارت مِل. استغل باكونين الفرصة ليخاطب هذا الجمهور، ونشر آراءه بعنوان «الفيدرالية والاشتراكية ومعاداة اللاهوتية». وضَّحت هذه الوثيقة ١٣ نقطة والتي، حسب باكونين، اتفق عليها بالإجماع الحاضرون باجتماع جنيف.

نادت النقطة الأولى بالآتي:

لتحقيق انتصار للحرية والعدالة والسلام في العلاقات الدولية لأوروبا، ولمنع اندلاع الحرب الأهلية بين المواطنين المتنوعين الذين يشكلون العائلة الأوروبية، لا يوجد إلا طريق وحيد مفتوح: تأسيس «ولايات متحدة أوروبية».

أما النقطة الثانية فحاولت أن تثبت أن هذا الهدف يلمِّح إلى أن الدول يجب أن تحل محلها أقاليم، لأنه لوحظ أن:

تشكيل هذه الولايات الأوروبية لن يتحقق أبدًا بين الدول بشكلها الحالي، بسبب التفاوت الهائل الموجود بين قواها المتنوعة.

وزعمت نقطته الرابعة أنه:

لن تستطيع أية دولة بيروقراطية ومركزية وبالمثل عسكرية الدخول بجدية وبصدق في اتحاد فيدرالي دولي، حتى لو سمَّت نفسها جمهورية. فبمقتضى تركيبتها، التي ستظل دائمًا تنكر — صراحةً أو ضمنًا — الحرية المحلية، ستمثل بالضرورة إعلانًا بحرب دائمة وتهديدًا لوجود الدول المجاورة.

وبالتبعية طالبت نقطته الخامسة أن:

يكرس لذلك جميع مؤيدي العصبة مجهوداتهم كافةً لإعادة بناء بلادهم المتنوعة، بهدف إحلال التنظيم القديم المبني في أرجائها على العنف ومبدأ السلطة بتنظيم جديد مبني فقط على مصالح المواطنين واحتياجاتهم ورغباتهم، وعدم تبني أي مبدأ بخلاف مبدأ الفيدرالية الحرة للأفراد داخل كوميونات، والكوميونات داخل مقاطعات، والمقاطعات داخل أمم، ثم لاحقًا داخل ولايات متحدة؛ أولًا أوروبية، ثم لاحقًا عالمية.

أصبحت الرؤية بذلك أوضح فأوضح، ولكن باكونين حرص على تضمين قبول الانسحاب من الاتحاد؛ فأعلن في نقطته الثامنة أن:

مجرد قيام إقليم بتشكيل جزء من الدولة، حتى لو بالانضمام الطوعي، لا يستتبعه على الإطلاق أن يأخذ على عاتقه أي التزام بأن يبقى مرتبطًا بها إلى الأبد. أي التزام أبدي غير مقبول بالنسبة إلى العدالة الإنسانية … يأتي حق الاتحاد الحر وبالمثل الانسحاب الحر في المقام الأول وسط جميع الحقوق السياسية، ومن دونه لن تكون الكونفيدرالية شيئًا سوى مركزية متخفية.

يشير باكونين معجبًا إلى الكونفيدرالية السويسرية، «التي تمارس الفيدرالية بنجاح اليوم»، حسب قوله، كما يتخذ برودون بوضوح السيادة السويسرية ﻟ «الكوميونات» كنموذج لوحدة التنظيم الاجتماعي، متصلة ﺑ «الإقليم»، وبها «مجلس فيدرالي» إداري صرف. ولكن كليهما تذكَّر أحداث عام ١٨٤٨، عندما أُجبر «الاتحاد المنفصل» للأقاليم الانفصالية عن طريق الحرب على قبول الدستور الجديد للأغلبية. وافق برودون وباكونين على إدانة هذا التدمير للفيدرالية بالمبدأ الوحدوي؛ إذ يجب أن يتوفر الحق في الانفصال.

كانت سويسرا، تحديدًا بسبب هيكلها اللامركزي، ملجأً للعديد من اللاجئين السياسيين الهاربين من الإمبراطوريات النمساوية المجرية، والألمانية، والروسية. حتى إن أحد اللاسلطويين الروس قد طُرد من سويسرا نفسها؛ فقد كان مشاغبًا أكثر مما ينبغي، حتى بالنسبة إلى المجلس الفيدرالي السويسري. كان هذا هو بيتر كروبوتكين، الذي تربط أفكاره بين فيدرالية القرن التاسع عشر والجغرافية الإقليمية للقرن العشرين.

قضى كروبوتكين فترة شبابه ضابطًا في الجيش ضمن البعثات الجيولوجية في مقاطعات أقصى شرق الإمبراطورية الروسية. وتحكي سيرته الذاتية عن الغضب البالغ الذي شعر به عندما رأى كيف قضت مركزية الإدارة والتمويل على أي تحسن في الظروف المحلية، بسبب الجهل وغياب الكفاءة والفساد العام، وكذلك بسبب تدمير المؤسسات الشعبية القديمة التي ربما كانت لتمكن الناس من تغيير حياتهم بأنفسهم. زاد الأثرياء ثراءً، وزاد الفقراء فقرًا، واختنقت الآلية الإدارية بفعل الملل والاحتيال. وتوجد كتابات مماثلة في أية إمبراطورية أو دولة قومية أخرى.

في عام ١٨٧٢ قام كروبوتكين بزيارته الأولى لأوروبا الغربية، وسعد في سويسرا بجو الديمقراطية، حتى لو كان برجوازيًّا. وفي تلال جورا بقي مع صناع الساعات، وهم مجتمع من الحرفيين العاملين لحسابهم الخاص. يصف كاتب سيرته مارتن ميلر ردود أفعاله:

كشفت لقاءات كروبوتكين ومحادثاته مع العمال حول أعمالهم عن نوع الحرية العفوية التي بلا سلطة أو توجيه من أعلى والتي كان يحلم بها. بانعزالهم واكتفائهم ذاتيًّا، بهر صناع الساعات في جورا كروبوتكين بصفتهم مثالًا يمكن أن يغيِّر المجتمع الكبير لو أتيح لمثل هذا المجتمع الصغير أن ينموَ على نطاق أوسع. لم يشك في أن سبب نجاح هذا المجتمع الصغير هو أنه لم يقم على فرض «نظام» زائف كذلك الذي حاول مورافيف فرضه في سيبيريا، ولكنه قام على السماح للنشاط الطبيعي للعمال بالسير طبقًا لمصالحهم الخاصة.

كانت إقامة كروبوتكين في تلال جورا نقطة تحوُّل بالنسبة إليه. وقد كرَّس بقية حياته، بشكلٍ ما، لجمع الأدلة المؤيدة للاسلطوية والفيدرالية والنزعة الإقليمية.

لم يكن منهج كروبوتكين مجرد مسألة تاريخ أكاديمي؛ ففي دراسة عن «الفيدرالي الروسي، بيتر كروبوتكين» (١٩٢٢)، يستشهد اللاسلطوي الإيطالي كاميلو بيرنيري ﺑ «رسالة إلى عمال أوروبا الغربية» التي سلمها كروبوتكين للسياسية المنتمية إلى حزب العمال البريطاني مارجريت بوندفيلد في يونيو ١٩٢٠. وقد أعلن في الرسالة أن:

روسيا الإمبريالية ماتت ولن تعود إلى الحياة أبدًا. وسيتجه مستقبل المقاطعات المتعددة التي شكَّلت الإمبراطورية نحو فيدرالية أكبر. لا تختلف المناطق الطبيعية للأجزاء المختلفة من الفيدرالية بأي شكل من الأشكال عن تلك التي نعرفها في تاريخ روسيا، بجغرافيتها الإثنية وحياتها الاقتصادية. إن جميع محاولات تجميع الأجزاء المكونة للإمبراطورية الروسية، مثل فنلندا ومقاطعات البلطيق وليتوانيا وأوكرانيا وجورجيا وأرمينيا وسيبيريا وغيرها، تحت سلطة مركزية؛ محكوم عليها بالفشل. إن مستقبل ما كان يُسمَّى بالإمبراطورية الروسية يتجه نحو فيدرالية من الوحدات المستقلة.

اليوم نستطيع أن نرى مدى ملاءمة هذا الرأي الذي تجاهلناه لمدة ٧٠ عامًا. في المنفى الذي عاش فيه كروبوتكين في أوروبا الغربية استطاع أن يحتك مباشرةً بعدد من رواد التفكير الإقليمي. كان الجغرافي بيتر هول قد استطاع أن يصف بدقة العلاقة بين النزعة الإقليمية واللاسلطوية عندما كان مديرًا لمعهد التنمية الحضرية والإقليمية في بيركلي بكاليفورنيا، وذلك في كتابه «مدن الغد» (١٩٨٨). كما كان هناك الصديق اللاسلطوي لكروبوتكين، وهو الجغرافي إليزيه ريكلوس، الذي دافع عن المجتمعات الإنسانية صغيرة النطاق المبنية على البيئة الإقليمية. وكان هناك بول فيدال دي لا بلاش، وهو مؤسس آخر للجغرافيا الفرنسية، الذي جادل بأن: «الإقليم كان أكثر من مجرد موضوع دراسة، لقد كان الهدف منه هو توفير أساس لإعادة البناء الكلية للحياة السياسية والاجتماعية.» بالنسبة إلى فيدال، حسبما يشرح البروفيسور هول، كان الإقليم، لا الأمة، هو:

القوة المحركة للتنمية البشرية، والتبادلية شبه الحسية بين الرجال والنساء وبيئاتهم المحيطة، كان مركز الحرية المعقولة ومنشأ التطور الثقافي، اللذين يتعرضان للهجوم والاندثار بسبب الدول القومية المركزية وبسبب صناعة الآلات واسعة النطاق.

وأخيرًا، كان هناك عالم الأحياء الاسكتلندي الفذ باتريك جيديس، الذي حاول تغليف كل هذه الأفكار المؤيدة للنزعة الإقليمية — سواء أكانت جغرافية أم اجتماعية أم تاريخية أم سياسية أم اقتصادية — بأيديولوجية من الأسباب التي تبرر وجود الأقاليم، المعروفة لغالبيتنا من خلال عمل تلميذه لويس مامفورد.

يوضح البروفيسور هول أن:

العديد، وليس الكل رغم ذلك، من الرؤى المبكرة لحركة التخطيط نشأت من الحركة اللاسلطوية، التي انتعشت خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين … لم تكن رؤية هؤلاء الرواد اللاسلطويين مجرد رؤية لشكل بديل مبني، وإنما لمجتمع بديل، لا هو رأسمالي ولا هو اشتراكي بيروقراطي؛ مجتمع قائم على التعاون الطوعي بين الرجال والنساء، حيث يعملون ويعيشون في مجتمعات صغيرة ذاتية الحكم.

كان هؤلاء المفكرون اللاسلطويون المنتمون إلى القرن التاسع عشر يسبقون معاصريهم بقرن في تحذير مواطني أوروبا من تبعات عدم تبني المنهج الإقليمي والفيدرالي. وبعد كل تجربة مفجعة في القرن العشرين، وجَّه حكام الدول القومية الأوروبية السياسة نحو عدة كيانات دولية. والقضية الحيوية التي تواجههم هي إما أن ينتجوا أوروبا الدول أو أوروبا الأقاليم.

إحقاقًا للحق، طوَّر مؤيدو الوحدة الأوروبية مبدأ «التبعية»، والذي بموجبه يجب أن تُتخذ القرارات الحكومية البعيدة عن تدخل المؤسسات الدولية للمجتمع الأوروبي عن طريق مستويات إدارية إقليمية أو محلية، بدلًا من الحكومات الوطنية. اتخذ المجلس الأوروبي قرارًا يدعو الحكومات الوطنية إلى تبني «دستور الحكم الذاتي المحلي»، «لجعل الالتزام رسميًّا نحو مبدأ وجوب تنفيذ مهام الحكومة عند أدنى مستوًى ممكن ونقله إلى الحكومة العليا فقط باتفاق الآراء.»

يمثل هذا المبدأ إجلالًا استثنائيًّا لبرودون وباكونين وكروبوتكين والأفكار التي كانوا وحدهم يعبِّرون عنها (باستثناء بعض المفكرين الإسبانيين الملفتين مثل بي إي مارجل أو خواكين كوستا). بالطبع كان هذا أحد الجوانب الأولى في أيديولوجية الوحدة الأوروبية التي ستختار الحكومات الوطنية تجاهلها، رغم أن هناك اختلافات واضحة بين شتى الدول القومية فيما يتعلق بهذا الشأن. في العديد منها، كألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وحتى فرنسا، تعتبر آلية الحكومة أقل تطورًا إلى حدٍّ بعيد مقارنةً بما كانت عليه منذ ٥٠ عامًا. ينطبق ذلك أيضًا على الاتحاد السوفييتي سابقًا.

وضع أحد المفكرين اللاسلطويين من هولندا، وهو توم هولترمان، المعايير التي سيعتبرها اللاسلطويون متطلبات أساسية لأوروبا حرة متحدة. وقد حذر تحديدًا من أن العائق أمام ظهور أوروبا إقليمية هو وجود الدول القومية. أما العائق الآخر فهو أنه بسبب وقوع التفكير والتخطيط لمستقبل أوروبا بين يدي البيروقراطيات الحكومية، فإنها جميعًا تجهِّز لأوروبا يحكمها البيروقراطيون.

اعتاد كروبوتكين الاستشهاد بمؤسسة قارب النجاة كمثال لنوع التنظيم الطوعي وغير القهري الذي تخيله اللاسلطويون، والذي يمكن أن يقدم خدمة عالمية النطاق دون تدخل مبدأ السلطة. وهناك مثالان آخران للطريقة التي يمكن أن تتحد بها الجماعات والجمعيات المحلية لتقديم شبكة معقدة من المهام دون أية سلطة مركزية، وهما مكتب البريد والسكك الحديدية. يمكنك إرسال خطاب إلى تشيلي أو الصين، مطمئنًّا أنه سيصل إلى هناك بفضل اتفاقيات حرية الوصول بين مكاتب البريد الوطنية المختلفة، دون أن تكون هناك أية سلطة بريدية عالمية مركزية على الإطلاق. أو يمكنك السفر عبر أوروبا وآسيا بفضل خطوط مختلِف أنظمة السكة الحديد المتعددة، الحكومية والخاصة، دون أي نوع من السلطة المركزية على السكك الحديدية. فالتنسيق لا يتطلب وحدة ولا بيروقراطية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤