قلبه

ينظر صابر إلى ساعته للمرة الثالثة، يتثاءب.

السابعة، سأنتظرها دقائق أخرى، لا بدَّ أن سببًا قاهرًا قد عاقها، ثم واصَلَ تسلية نفسه بهما، في هذه اللحظة كانت الفتاة الصغيرة تعبث بأناملها الرقيقة في بنطاله متتبِّعةً — بشبه إغماءةٍ — خيوطَ النسيج الخشن، وعلى كفها في رِقَّةٍ وضع يده اليسرى، وبالأخرى ظلَّ يحرِّك الكوب — بعصبية — على المنضدة ظانًّا أنه بذلك لا يُثير الشبهة وشكوك الجرسونات أو حفيظة المتحفظين، وبين الحين والآخَر يمشق «صابر» بنظرة حادَّةٍ متسائلة: اذهب بوحدتك بعيدًا عنَّا أرجوك. دعنا وحالنا … ماذا تفعل هنا؟

خلق بارد!

لم يكن بالمكان في ذلك الصباح غيرهما و«صابر».

يده تنزلق من على كفها الملساء الناعمة، وتحلق لحظة قلقة وتنزلق على موضع حسَّاس من جسدها، فترتجف الصغيرة، وبحركة لا إرادية متبوعة بتغضينة جبين حلوةٍ، يبتسم خجلًا، ولا يشك لحظة أن رجلًا متعطلًا مثل «صابر» قد رأى تفاهةَ عشقه.

سلمى لا تخلف له ميعادًا، مطلقًا، ستركب النقل الطارئ، ستجري على قدمَيْها الدقيقتين عابرةً الكُبري، تستأجر تاكسي، تنحشر في باص مكتظٍّ بالخلق، يخالط صنان إبطهم المقرف عطرَها الفلير دامور.

وأنفاسها العطرة تخالط تجشؤهم المشحون برائحة الفجل والبصل الأخضر، ولا تهتم بفسائهم، ستحلق في سماء المدينة بأجنحة يمامة أو تسرق عربة «بابا»، ولكنها لن تخلف ميعادها.

قالت له: الجرسون!

سلمى تحب أن تُحمِّل حقيبتها بسكويت «ماكنتوش» ومناديل ورق فلورا بيضاء معطرة لطوارئ الأمور؛ مَسْحِ حذائها بعد عاصفة غبارية أو عبور طريق ترابي، أو عندما تمسح دموعها الشفافة الرقيقة نتيجة لمعركة كلامية تافهة بينهما بشأن تسمية أطفالهما القادمين.

– سأسميه «اسبارتاكوس».

– لا، سأسميها «رؤية».

ولسلمى في المناديل مآرب أخرى.

أخرجت مناديلها، أحاطت بواحد منها زجاجة «البيبسي كولا»، وكادت أن تجترع منها شيئًا لولا أَنْ مارس دعارة ظفرية مباغتة قامت، قام، خرجت، بعد لحظات خلفها خرج.

لونها أسود كقلب الأبنوس، ناعمة بشرتها لها لمعة «كريمية» أخاذة، وأعلى شفتها العليا زَغب ناعم كشعيرات من الحرير باهتة لا يذكر أين رآها من قبلُ، إلا أنه يتذكر أنها لَفَتَتِ انتباهه بجمالها الأخَّاذ وبراءة وجهها، وأيضًا لجموح تفاصيل جسدها الأنثوي الشبق، بالتأكيد ليست موظفة بالشركة، ولكنها قد تكون عميلة أو إحدى الطالبات اللائي يتدرَّبن في الصيف بالشركة، ولم تمهله ليذهب لأبعد من ذلك، سألته: هل رأيت ولدًا يرتدي «بنطلون جينز بلو»، «وفانلة تي شيرت جري»، طويلة قامته … وقال مقاطعًا مقلدًا لهجتها الحلوة وهدوءها: معه بنت صغيرة ترتدي الزي المدرسي للثانويات! لقد كانَا هنا قبل لحظات وخرجَا.

سقطت منهارةً على كرسيٍّ قُرْبه دافنة وجهها بكفيها، وبعد لحظات قضتها في نحيب مكتوم انتزعت منديلًا وأخذت تمسح أدمعها.

ماذا لو جاءت سلمى ووجدتكما معًا؟! ماذا تقولان؟!

لم يستطع أن يتخيَّل وجه «سلمى» وقد فُوجِئت بهما.

نظر إلى ساعته.

لا بدَّ أن تحضر حالًا، كيف تتأخَّر إلى هذا الوقت، هذه القردة الصغيرة؟!

قالت وهي تمسح بقايا أدمعٍ بظهر كفها: هل تتحدث معي؟!

قال مندهشًا: هل أنا تكلمت؟! آسف، فأنا، لا أدري.

قالت مقاطعة ودون مقدمات: أنا خطيبته!

ومدَّتْ له كفًّا صغيرة لامعة — بفعل الكريمات أو زيت السمسم — وعلى سَبَّابَتِهَا الوسطى خاتم من الذهب أصفر، عليه نقوش دقيقة لما يشبه الورد أو العصافير، لا يدري.

– خطيبته؟ هذا الشخص؟ أنا آسف مرة أخرى ما كنتُ أظن …

قالت مقاطِعة بلغة باردة: إنه شخص داعِر، أنا أعلم ذلك، خائن وكذَّاب، ولكني أحبه، ثم صمتت لزمن لا يعلم مقداره؛ لأنه كان يحسه دهرًا طويلًا مملًّا ولا نهاية له، أما هي فلم تحس بأن — هنالك — زمنًا مضى، إنها لحظات أقل من أقل جزءٍ من الثانية بساعة الجرسون.

قالت فجأة: هل تنتظر أحدًا؟!

– نعم.

قالت وهي تحملق في عينيه: أهي بنت؟!

قال بصوت منخفض كأنَّ على رأسه عصفورة: نعم.

قالت: أهي خطيبتك؟!

قال متضايقًا: لا، ولكنها …

قالت مقاطِعة وعلى عينَيْها بريق غريب وسحر أنثوي غامض: أنا سأخرج معك، هل توافق، ألستُ أنا أجمل منها، لقد كنتُ أجمل طالبة «بالكامبوني». ألديك مكان قريب من هنا؟!

سلمى لا يمكن أن تقول ذلك، مهما انحطَّ سلوكُها واحتقرت نفسَها، وعندما تأتي سيحكي لها ويقول: إنكنَّ — صنف النساء — منحطَّات.

– اخرجي وحدكِ.

حملت مناديلها واندفعت خارجةً، ومن فمها تُسقِط ألفاظًا «شديدةَ العفونة».

نظر إلى ساعته، عشرين مرة في نفس اللحظة، وفجأةً تذكَّرَ شيئًا مفجعًا، إنها لن تأتي؛ لأنه لم يَعِدْها على أن يلتقيَا هنا عند السادسة أو غيرها، بل لم يَلْقَها منذ أسبوع مضى، فقط استيقظ عند الخامسة وبه إحساس قوي بأنه على وعد مع «سلمى» في المكان المعتاد عند السادسة، ولكنه الآن اكتشف أن الأمر ليس إلا خدعة أحاسيس حاكها عقله الباطني بخبثٍ ومكرٍ. لعنَ عقلَه ونفسه وأسماءَ أخرى وخرج.

في المدخل للميدان العام المواجِه للمكان كانت تقف «سلمى» وخلفها صفٌّ من أشجار الجميز الضخمة القديمة، مرسلة جذورَها المعلقة كأشطان المشانق، عندما رأته ابتسمت، تورَّدت أسنانها البيضاء، ومثل فلَّةٍ تفتقت محاجرُ مقلتَيْها عن عينين عسليتين مَرِحتين، منفعلتين كفراشتين في موسم التزاوج.

لقد انتظرَتْه كثيرًا قبل أن يأتي.

ولكنه مشقها بنظرة عابرة وجَدَّ في سيره قائلًا لذاته وهو يهرب: لن يخدعني إحساسي مرة ثانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤