ميلاده

أَنِينُها جذبني إلى المكان، كنت مرهقًا، نظام العمل الجديد كان يمتصنا إلى آخِر قطرة حياة في شراييننا، ولكنَّ سوء الظن بما يكون عليه الموقف، سبب الصرخات والأنين والتوجع المكتوم، هو الذي أعاد لي شيئًا من الحياة وجعلني أندفع نحوها كالسهم.

كانت وحدها تحت نخلة أمام دكان مهجور، حولها قاذوراتها، ولو أن الظلمة حالكة في الزقاق إلا أنها كانت تحت شعاع متسلل من لمبة طريق بالشارع العام، مضاءة بالقدر الذي يجعلني أرى وجهها الأغبر وتقلُّص عضلاته الصغيرة، واحمرار عينيها وهما تضيقان وتتسعان في آلية مؤلمة مثيرة للإشفاق، وكأنها في وحدتها وظلمها تستشفق شياطين الظلمات، انزلقتْ نظرتي إلى موضع كفَّتيها، وكانت تضغط بهما بطنًا منتفخًا تحت أسمال بالية، وعندما رأتني صمتت فجأةً وهي تحملق في وجهي بعينين ثابتتين، ووجه بارد خالٍ من أي تعبير كوجه مومياء فرعونية، ثم قالت بكل براءة: هل تستطيع أن تولِّدني؟ الطفل سيشقني، سأموت إذا لم تفعل!

قلت لها دون تفكير: لماذا لا تذهبي إلى المستشفى؟!

ابتسمت ابتسامة زيتية داكنة ثقيلة: لا أستطيع المشي، ولا أجرة التاكسي، أيضًا لا يمكنني أن أدفع للمستشفى، لا يوجد في الكون شيء من غير «قروش». أصدرت مواء باهتًا ثم غابت عن الوعي وهي تهذي كالسَّكرى، واحترتُ فيما أفعل وأنا لا أمتلك غير خمسة جنيهات «للباص» العام للبيت، والساعة تشير إلى العاشرة والنصف، بعد نصف ساعة فقط ميعاد حظر التجوال، ولأنني مرهق من جرَّاء كنس السينما وغسلها؛ لا أستطيع حملها على ظهري، ولو حملتها فلا يمكن أن يقبلها المستشفى، ولا يوجد مستشفًى لله في هذا البلد.

همَّ في نفسي صوت لم أستطع أن أتبيَّنه؛ أَصَوتُ ملاكٍ هو أم صوت شيطان رجيم.

– ما لك أنت؟ ربها اللِّي خلقها قادر على أن يجد لها مخرجًا، اقدر على نفسك أنت. نصف ساعة وحظر التجوال، الحق آخِر باص، وغدًا الصباح تعال لتجدها قد أنجبَتْ صرصورًا كبيرًا قابعًا قربها يستكشف العالم من حوله بقرنَي استشعار وعينَيْه اللامعتين.

خطرت لي فكرة، وهي أن أحاول حملها إلى رصيف الشارع العام، ربما وجدَتْها الدورية، أَخَذَتْها إلى الحبس وأحضرت لها قابلة أو طبيبًا على نفقة الحكومة.

أخذنا جند «الحظر» معًا.

ربما كان الطبيب على شيء من الحق.

فلقد كانت متسخة وقذرة، رائحة إفرازات المرض الجنسي المصابة به قوية نافذة ولا تُحتمَل إطلاقًا؛ لذا طلب الطبيب من «الفرَّاشة» أن تقوم بإزالة شعر عانتها، بقمله، صُنَانه، وإفرازاته النتنة.

وأن تغسل هذا الجزءَ جيدًا بالمياه الدافئة وصابون «الفنيك»، وتضع عليه مادة «الديتول» المطهرة مركَّزةً.

ثم مضى يستفرغ أمعاءه عند المغسلة، لاعنًا اليوم الذي درس فيه الطب وعلم النساء والولادة.

قالت لي الفرَّاشة: ساعدني، أرجوك.

قالت هي: أنا أموت.

انتهرتها الفراشة مغتاظةً: موتي، موتي، أريحينا واستريحي.

عندما باعدَتْ بين ساقَيْها المتسختين البنيتين المنقطتين بآثار الدمامل، وغابت في شبه إغماءةٍ مستسلمةً لآلام المخاض ولذة وجع الطلق، حينما ظهرت مخالبه الأمامية، صغيرة، بيضاء، طرية وناعمة، كنَّا أنا والفرَّاشة مندهشين وغارقين في غيبوبة فنطازية لَزِجة موقعة في وعينا بموسيقى اﻟ “Ragae” المتسربة إلينا من مكتب الصحة المجاور، صرير الجرذان، هدير البحر، نعيق الغربان السوداء، هفهفة شجرة النخيل الباسقة المتشامخة خلف شبَّاك المكان، رعد مفاجئ، ثرثرة هلامية تنبعث من مسام الجدران وفراغات الأَسِرَّة، قطع الأقمشة الثقيلة البيضاء، القطن الدامي المتناثر هنا وهناك. فجأةً أحسسنا بالبرد ونحن نرى رأسه المستطيلة تعانِق فراغ الحجرة، عليها شواربه السوداء الدقيقة غارقة في مخاط لَزِج شفيف وهلامي. قالت لي الفرَّاشة فيما بعدُ: كنتُ أحس بالأشياء تتوهَّج وكأنما ركِّبت عليها أقمار مضيئة صغيرة.
قلتُ: امتلأت حينها بكلام غريب ثقيل غير مفهوم، كان يخنقني، بطلقٍ أخير قفَزَ خارجًا رشيقًا، نَشِطًا، وكأنما نغمات «موسيقى اﻟ Ragae» كانت توقع جريان الدم في شرايينه البكر، أَثْبَتُّ في أقوالي لإدارة المباحث الجنائية أن التراتيل القرآنية، هديل الحمائم، أناشيد المحبة؛ ما كانت تأتي من مصدر محدَّد، ولا يمكن أن ندَّعي في إمكان واحد منَّا أن يموسق جمود الزمن في تلك اللحظة، تساقط رطب النخلة، غرد عندليب، هوت نجمة أضاءت مشارق الدنيا، عندها فتح عينين سوداوين متفائلين، نفض عن نفسه المخاط بهزات عنيفة متتالية (نبح)، وذلك أمر مؤكَّد قبل أن يقفز عبر النافذة إلى الرصيف.
١٠ / ١١ / ١٩٩٣م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤