في ذكرى مرور أعوام كثيرة على مغادرة بوذا لمدينة أسيوط

بُغُم أسيوط

أسيوط في أسيوط، أما الصادق حسين عند دوران روكسي يرقب المارة، في شارع النميس، ثلاث فتيات، ولد واحد، جلال الجميل، النفق الصغير، شارع الجامعة، عند كلية التجارة تقف عربة التاكسي، تنزل فتاة واحدة، تمضي العربة بالبنتين، كل ما في جيب محمد الناصر ثمن سيجارة واحدة، سوف يستخدم علبة الكبريت الفارغة كرَّاسةً لكتابة ملاحظاته عن محاضرة الدمشاوي الأخيرة، يغني الدمشاوي لسيد درويش، ثم يموت.

أنا لا أحب الفلافل، ولكن الجوع الكافر هو الذي جعل الفتاتين توقفان سائق التاكسي وتطلبان منه أن يشتري لهما جريدة المساء، ستقرآن لأول مرة لعاطف خيري وحسين تيه باجور وشكيري توتو كوه ووِداد مرجان والشاعر الرقيق حمدي عابدين. هل نذهب إلى قصر الثقافة، اليوم هو الثلاثاء، البنت الكبيرة حميدة والبنت الصغرى فوزية أبو النجا، سمر هي أيضًا طفلة جميلة ستصير أكبر من المروحة وأكبر من حديقة الفردوس، أنا أعرف ذلك وأيضًا سعد عبد الرحمن، تتحرك عربة التاكسي نحو الفرح والجوع والآمال العريضة، دار الاتحاد، أمين حمدنا الله، جفون، أمل الخاتم، بهاء غير موجود الليلة يسهر مع أسامة الكاشف في الإسكندرية، فالموسم مطير، أشجار المسكيت تنمو في كل مكان مجانًا، لا ثمنَ لشيء، تقف عربة التاكسي عند مدخل بيت الطالبات، درويش الأسيوطي، محمد درويش، إبليس الشعراء أحمد الجعفري يغني هو وجمال عبد الناصر على ترعة الإبراهيمية. يدخل، كانت بذاكرتي تعبث الجرذان، ذاكرة جرذ كبير، كبيرة ذاكرة الجرذ الكبير، بوذا يعشق الليل والنهار والسفر، وكُتب عم سيد الشهية المتبلة والدوريات الكويتية، عالم المسرح وأقلام صدام حسين، العالم هنالك أقرب، أقرب أكثر من السماء، السماء هنالك تُمطِر قِططًا وكلابًا، بوذا يُرضع أغنامَ المهاتما غاندي ويهرب نحو قمة لاسا، معاوية الزاكي، انتصار، انتصار، انتصار الشايقي، دبي، الفاشر، انتصار الأخرى، أبو ذر وداليا وآمال في جمالها المرعب، جمال كبير البصَّاصين، تنزل بنت جميلة ولكنها تقول لجلال الجميل: نتلاقى في جامعة بحر الغزال.

عاطف خيري، اخرج، اخرج، عاطف خيري، عاطف الحاج، عاطف الفوكس، عاطف البحر، عاطف، نادر، عبده، سوسن، سوسن عبد العزيز، عبده نادر، اخرج يا عاطف، أنت لستَ في المنزل، لستَ في الحسبان.

معروف عني،
أنك فيَّ كأني،
معروف عنك،
أني منك إليك،
أحبك شئت،
أبيت،
بكيت،
ضحكت، أرضت،
سموت،
لأنك أني،
وأني،
ذاتك أنت.

معروف عني، أنك فيَّ كأني، معروف عنك، أني منك إليك، أحبك شئت أبيت، ضحكت بكيت، أرضت، سموت؛ لأنك أني، وإني ذاتك أنت، سلام لطيف لا يوق، سلام لأشجار دفلي، سلام لسيَّاب روحي، سلام لأسيوط قلبي، سلامي لقلبي، صديقي محمد فتحي، زكريا عبد الغني، صديقتي البتزا بنادي الحقوقيين، صديقتي جدًّا اليوم يمضي، والتكاسي تلفظ البنات في الشوارع الجانبية، بوذا وحيدًا يواجه بوذا، والناس مشغولون عنه بالناس، والقصص القصيرة والأشعار والروايات تنتظر في دواته، أكره هذا العالم الجميل، أحبه أكثر، ما بين ١٩٦٣ يوم الثلاثاء وبين ١٩٩٣، ثلاثون عامًا في الحمراء، عزبة السجن، محمد عيسى، عادل خليل شايب، عبد الله إبراهيم عبد الله، عبد الله المبصر، نحن العميان، رياض تبن، منى، نازك، الحاج حمد الحاج، جوهر، نادر، هجو، هجو اللعين، هجو اللعين جدًّا، هجو، عصمت، معاوية الآخر، معاوية الأول، أدخل مهجرًا أخرج من آخَر، الولد الكبير يغني.

بلادي وإن حنَّت عليَّ كريهة، قومي وإن حتموا عليَّ لئام، بوذا يتبول عند حائط المبكى فيلعن، أولئك أصحابي فجئني بمثلهم، كتاب، لسان سليط، مناهل سعيد، زينب، لا أعرف بحرًا للمحس غير النيل، زينب حلمي، أطول عنق، عنق النخلة، وأجمل عنق، عنق النهر، وبوذا يستفرغ ذاكرته في قاع النهر، بوذا يحلم، تنزل حبيبة من عربة التاكسي، تصعد حبيبتان، جلال الجميل يتأمل وجه ياسر، ينقسم وجه ياسر لوجهين، وجه يخشى الأسفلت، ووجه يشع كالنجم، يذهب الوجهان لحضور البروفة النهائية لفرقة ساورا، الزين بحاري، أمل الخاتم، ابتهاج، موناز، السماني لوال، الصادق الرضي، أخيرًا يفشل فيصنع فتاة من دمه، ولكن ينجح في أن يسميها نضال، مَن ينتصر عليَّ مَن؟ كلتوم فضل الله، الدار صباحي، ٠١٢٢٣٣٣٠٥، الطريق إلى الله يبدأ من الله، في سنة ١٩٩٢.

أحبك حبًّا شديدًا.

فيروز، شادي، اللوسينا، حبيبة الصادق، أطيار الكلج كلج، قطية الروح، سلام بلادي في عيد السمك، خشم القربة، بنت النوبة، أحمد سعودية، حماد، كفاح، حسن علي، كوثر حسين، سيحزن الليل أنه وحيد، يريد ليلًا يؤانسه، في شارع روكسي، عند الدوران يقف الصادق حسين، لا ينتظر أحدًا، ولكنه أيضًا لا يريد الذهاب؛ لأن كل الأتوبيسات، والميني باص وعربات التاكسي والمترو والقطارات السريعة لا يمكنها أن توصله إلى كمبو كديس، ولا خميسة ولا عايدة ولا نعمة ولا علوية، ولا أحد باستطاعته أن يأخذه إلى ديوانه بالحي الجنوبي، قرب الزاوية شمال الغسال تسفاي، الصادق يحملق في المارة، الصادق حسين في جيبه علبة كليوباترا ومائة دولار أرسلها له أخوه داود من الولايات المتحدة، له حذاء جديد، وهو لا يهتم بالموضة، يكتفي بالجينز في جميع الفصول، تمامًا كما كان يفعل في خشم القربة وفي أسمرا أيضًا، الآن لا ينتمي إلى أي حزب كان، فقط حزب المغربين والمُبعَدين عن كمبو كديس، الذين ليس بإمكانهم حضور يوم السمك في ١٨ / ٨ / ٢٠٠٨، كل سنة وأنت بخير، أحمد زكي، كمبو أحمد زكي، معروف عني، أنك فيَّ كأني، كتبت حبيبةٌ ذات يوم لحبيبها واسمه السمندل، أمه سوزان وأبوه المتنبي، قالت له: عُدْ.

قال: مِن أين؟

قالت: عُدْ وحينها انظر خلفك لتعرف أين كنتَ.

وكانت البلاد شاسعة، والنيل يمتد إلى ما لا نهاية، السمندل لا يعرف أحدًا في أستراليا ولم يَرَ حبوباته من قبلُ، لا يعرف وجه صالحة، فات منها فوتًا، والصبر والكدح أبدًا لا يعيدان غريبًا لوطنه، عبثًا الصادق حسين يقف عند الدوران، تقف عربة التاكسي، تُنزِل صبية، تلقي التحية كيفما اتفق، ثم تنتبه لوجود شخص تعرفه يقف عند الدوار، وجلال الجميل لا يعرف أحدٌ أنه يحب الجميع، قالت: الصادق.

قال إنه سوف لا يذهب لأي مكان كان وبأي طريق كانت طالما لم تَقُدْه هذه الليلة إلى كمبو كديس.

قال لها: لا يوجد يا أختي ملجأ أفضل من الوطن.

«قلنا لن يوصلك البحر.»

قلنا.

لن.

يوصلك البحر.

عاد أبكر آدم إسماعيل، وفرحت أمه بعودته وزغردت، ولكنه نسي في المهجر كراسة أشعاره الأخيرة، عاد مرة أخرى، سوف لا يشتاق إليه أحد.

«لسنا في البيت

لسنا في الحسبان.»

نعم، سوف لا يشتاق إليه أحد، قلنا لن نشتاق لأحد، نحن هنا في البيت لا نضع أحدًا في الحسبان، لن نشتاق إلى أحد، منذ أن غادر أحباؤنا البيت لم يَعُدِ البيت للبيت، والبنيات الصغيرات أطلقن ضفائرهن للريح.

أعدنا نحن الضفائر للنهر.

أطلقن ضفائرهن مرة أخرى للمطر.

أعدنا نحن الضفائر للرمل.

أطلقنها للنخيل.

أعدنا نحن الضفائر للودع.

أطلقنها للسوميت.

أعدنا نحن الضفائر للبنات.

فنعسنا ونمنا على أكفنا، وكنا كما تركتمونا أمينين على الصبيات، فتغازلنا الليل كله، ثم عندما أشرقت الشمس حملن أطفالنا وذهبن لآبائهن بالبشارة، بوذا يرسم في كهف العذراء مريم ليل دير المحرق، الأب ناشد بشارة، البابا كيرلس، لا أحد في المغارة، لا وجه يبكي، حبيبتي تقلِّم أظافرها عند المزلقان، تنبهها خديجة لأمر أهم، كريمة ثابت، آمنة الصعيدية الشاعرة، دكتور مصطفى، عم سعيد صاحب الكتب الشهية، نادي الأدب، الريح تأخذ حبيبتك للريح، والله يأخذ الريح بالريح، لا بأس، سلام من أجل وردة الطين، سلام من أجل كتاب لم نقرَأْه، سلام لأطفال الشوارع، أولاد الحرام، الذين ليست لهم ريح يستحمون بشظاياها، وأنت بارد كجرادة تبيض، بوذا سوف يغادر الآن أسيوط، نعم سوف يغادر أسيوط إلى محاسن، رحلة لم تنتهِ وسيظل طبق الكسرة على عطر الطايوق ودخان الكتر، كان بول كلب طريد، أغسلته محاسن، ما زالت رائحة شوائه تزكم أنوفنا، عاد بوذا يحمل أسفاره الخمس: كتاب اللبن، كتاب السماء، كتاب الصبيان، وكتاب كمبو كديس، أنت لا تسوي شيئًا في المنفى، حسن البكري، هنا سوف يراك الناس عندما تستحم في الخور، سوف يراك الجميع ويصفقون، ويرميك الأصدقاء بالسفاريك والدراب كما رُمي الشنقر والرضي، كما رُمي شكيري توتو كوة، يرمونك بالكلج كلج وأم بقبق وصلاح أحمد إبراهيم، بصديق الحلو، سيرمونك بي وبك وقُبلة سريعة من صبية تشهيتها كثيرًا وطويلًا وقصيرًا، ومثل عبد الله زيدان عندما انفردتَ بها في زقاق ضيق وهي عائدة من الدكان، ضممتَها لصدرك بشدة وقلتَ في ذات روحك: ديني أنا.

الصبية الآن في البيت، ولكنها لا تنتظر أحدًا، لا تشتاق إلى أحد، لستم في البيت، لستم في الحسبان، عند المساء، عندما يتهيَّأ لنا أن العسس في سِنة عنَّا، آخذ صديقي الصادق وبابكر الوسيلة، عبد الله زيدان يقف عند الماسورة يشيِّل نسوان الكرنقو باقات المياه، وبين مسكيتتين كبيرتين ندخل إلى خميسة، تغمرنا رائحة البيت العطرة، رائحة البلح المعتق، تحتفي بنا، تدير موجة الراديو إلى أم درمان، ويا سعادتها إذا صادفت أغنية، كأنما هيَّأت ذلك هي بنفسها شخصيًّا.

– ديل أنتو.

– يا بنت … يا بنت أديهم البنابر.

وتأتي سلوى بالبنابر، ومنذ أن فعل عبد الله زيدان فعلته تعاهدنا بأن سلوى زيها زي انتصار، زيها زي صباح، زيها زي عزيزة، جلسنا، لم نتذكر أحدًا، لم نشتق إلى أحد، ولو أن خيال الذي يصحي التمرة نصف الليل لم يبرحنا، إلا أن بابكر دفق كأسًا مليئة في وجهه قائلًا له: لست في البيت.

أسيوط روحي، البيه مهران، حمدي عابدين: لسنا دائمًا على ما يرام.

في العراق عند الباب الشرقي صنع السودانيون المغرَّبون تمثالًا لِأبادماك من التمباك، واحتجَّ نفرٌ من الساسة، أُعجِب بذلك نفرٌ من الساسة، تخاصَمَ عليه نفرٌ من الساسة، انشقوا على أنفسهم عندما باعه أحدهم وقبض الثمن، حدث ذلك في العتبة، وفي ركن السودان بأسيوط، لكن مَن يوصل الصادق حسين إلى كمبو كديس، إنه ما زال عند دوران روكسي، يرقب المارة، السنوات الأخيرة، هكذا نغني، السنوات الأخيرة، كتب بوذا في سِفر اللبن، عندما عدت من لاسا عدت إلى نفسي، كنت موزعًا بين الصخور، اللالوبات، المسكيتات، الدراب، الخيار، أزهار الليمون، خجل الصبيَّات، ألعاب الأطفال وشليل، بنات بنات، كنت الدكتور في لعبة المستشفى، اللص في الحرامي والشرطة، والكديس في من نطاك، الرمة في الحراس، التمساح في لعبة النهر، كنت الطيش في الفصل، الغَيَّاب والمشاغب، كنت ود أمه وصديق أبيه وحبيب أمل، صديق عبد الرحمن، الولد اللِّي عضه الكلب، اللِّي قطع البحر، اللِّي جري من الثور، اللِّي رفسه الحمار، اللِّي شرب المريسة، اللِّي سأل الأستاذ سؤالًا عُوقِب عليه الفصل كله، كنت موزَّعًا في المكان؛ لذا لم أجدني في لاسا، لا في أعلى قمم التبت، لا عند معبد القردة أو في شوارع روكسي، كان قلبي في صدر هاشيما بنت الكرنفو، ورأسي عند الشنخابي صاحب صاروخ الكيف، يداي في جيب صديريتي، ووجهي في راكوبة مريم يستنشق عطر البن المقلي، لا أتذكر أحدًا، لا أشتاق إلى أحد، في الانتنيه جلس شيخان، كانا يتوكآن على عصًا واحدة، شيخان طويلان لهما وجهان جميلان، لكن لم يتعرَّف عليهما أحد، كانا يعرفان المكان، تحدَّثَ أحدهما إلى الآخر: إن في المكان لحمة تخصنا.

لم يتعرَّف عليهما أجمل الجالسين عندما يدخن سيجارة برنجي؛ ماو، لم يتعرف عليهما، شخص ليس في المكان، من هو أبرع منه في اختراع الشجار الممتع وأروع الألفاظ السوقية ذات العفن البهيج العفن الشهي، وليد إسماعيل حسن، لم يتعرَّف عليهما المراسي محمد إسماعيل في عنقريبه، المقدود وقربة قرعة البقو تحفل في حضرتها الذبابات الكبيرات الخضراوات، التي يجيد رسمها صلاح إبراهيم. كان الشيخان شيخين يتوكآن على عصًا واحدة، ولهما وجهان جميلان.

قال شيخ جميل لصبيَّة تلعب بجملة قصصية: أنا إدجار ألان بو.

قال شيخ جميل لصبيَّة تلعب بجملة شعرية: أنا أوفيد.

ولكنا قتلنا العمر خارج البيت، فلم نكن في الحسبان، الآن ليست سوى عصًا واحدة نتوكَّأ عليها ونهش بها على الكلمات، وجهان جميلان، لدينا ظلٌّ لا يقي يومَ لا ظل إلا ظل الله، بكت الصبيتان قبل أن تمضيا مع محمد خلف إلى مكان قريب، يصنع الأمدرمانيون دائمًا نصوصهم في مكان قريب، الصادق حسين يلتفت يمينًا، يسارًا، لا باص، لا حافلة، لا قاطرة، لا نفق، لا تاكسي، لا قدمان، لا حمار أو ناقة، تستطيع أن تلقيه في خور قريب من كمبو كديس، أو عند مشرع السقايين، حيث اعتاد في الماضي الالتقاء بالصبيات على الرمل بعيدًا عن القِيل والقال، لا عند الصفصافات، آسِف أنت لا تعرف الصفصافات، لقد نَمَتْ بعد رحيلك تأكيدًا على غيابك ونكاية بك، نَبَتَتْ غابة الصفصاف العشوائية على شاطئ النهر، شرق معسكر اللاجئين عند الشلال، لا نجوى، لا زهور، لا نعمة، لا نزهة، لا جهاد، حماد، لا الحلب المزعجين، لا شجارهم في المغرب، سوف لن تحضر زواج موسى السمح، لن تشاهد صراع النوبة غرب مكتب الأمن، أمام المستشفى، في ١٨ / ٨ / ٢٠٠٣ يوم دق السمك السنوي، ٠١٢٢٠٥٩٢٦، ٢٣ / ٢ / ٢٠٠٣ حفلة ختان ولد نعمة أختك، أعرف أنك نسيت اسمه؛ لذا لن أخبرك باسمه، ١٦ / ٣ / ٢٠٠٣ عرس سعاد، نعم للمرة الثالثة، سيتزوجها صلاح، وهو ضابط إداري جديد، أنت لا تعرفه، لكنه سمع عنك، سعاد أخبرته عن كثير من عشَّاقها، تشاجر معي، تعرفني جيدًا أنا لا أفتعل حربًا في النساء، لكنه دفعني إلى ذلك دفعًا؛ فهو شخص جديد في النساء، سوف يتزوجها على أساس أنها عذراء، ما زلنا نذهب لكبري ستة لتناول الإفطار في مطعم حسين كلَّ يوم جمعة على عربة إبراهيم الديدي، في صحبة عتوت أو خروف أو ما تيسر من خيرات الله، نذهب للرميلة، يغني الدرديري لأبي داود، الكاشف أغنيات الحقيبة التي تعجبك كثيرًا، لا أحد يتذكرك، لا يشتاق إليك أحد، نغني، نسكر، نرقص، نهيص ونبيص، تحت أشجار السنط، على رمل الشاطئ، عمر، التاج، حمادة، مساعد الديدي، عادل موسى، جني، عصام، الأعراب، الأسماك، الحدأة، ياسر، وأنا.

نسيك الجميع، والأنكأ والأمَرُّ أننا تقاسمنا حبيباتك جميعهن، غازلناهن، قبَّلناهن، ثم بذرنا في أرحامهن أطفالًا، أسمينا الأطفال بأسماء نعرف أنك تكرهها، مثل عايدة، غايدة، رايدة، مثل الكاسح والماحق والبلى المتلاحق، أسمينا كبيرهم باسمِ قاتلِ محمود محمد طه، منذ أن قُتِل محمود لم يُسَمِّ أحدٌ طفله بذلك الاسم البغيض، نكاية بك أسمينا أول الأطفال باسم القاتل، لا أحد يتذكرك، لستَ في البيت كما يؤكد عاطف خيري، لستَ في الحسبان، هنا أنا في البيت أنا وحدي في الحسبان، بوذا يرسم خارطة لمَن يريد العودة للبيت:
  • (١)

    للذين في السعودية: تمشوا في الشوارع بحرية، غنوا للكاشف ومحمود عبد العزيز، هي أقرب الطرق إلى البيت.

  • (٢)

    للمغرَّبين في مصر: اضربوا بعصيكم البحر.

  • (٣)

    للذين في بلاد الفرنجة: حطموا سور الملجأ الذي فيكم، ثم الذي يحيط بكم، والعَنُوا اليورو والدولار وكلَّ العملات التي يستحيل الاحتفاظ بها في الجيب، قولوا لبعضكم البعض: لا يوجد منفًى أحلى من الوطن.

  • (٤)

    دكتور السماني في ماليزيا: لا أحد سوف يتصل بك، نسي الجميع رقم هاتفك الجوال وعنوانك وصورتك الشخصية، وحبيبتك سوف تتزوج من صديقك في ٣٠ / ٣ / ٢٠٠٣.

  • (٥)

    عاطف خيري: من يوقظ التمرة.

جلس شيخان في مقعد واحد، كانا يتوكَّآن على عصًا واحدة ولهما ثلاث أرجل، قال الشيخ للشيخ: ما اسم هذا المكان الفسيح؟

قال الشيخ: أظنها روما.

بوذا عاد، عندما عاد من أسيوط عرف الفرق ما بين روما وكمبو أحمد ذكي، ما بين روما وكمبو الليمون، وعرف الفرق ما بين السمؤال محمد الحسن ورجل تبول على واجهة المحال التجارية في التحرير، شوقًا لشوق ونادية.

سلام مصر روحي، سلام منفاي الجميل، سلام بنت جوعي، سلام لطائر الكلج كلج على شجرة اللوسينا، لحدأتين على قمة قطيتي، لعبد الله زيدان وهو يحملق بعينين خبيثتين تافهتين في حشو شجرة طندب تسكنها بومة، سيدة الشاي، متلة بنات الجامعات الصغيرات يبحثن عن معرفة لا تفيد، كلام قاله الجامعة في الكتاب المقدس، يكرِّره عبد الله في جمال هذا المساء، لا يتذكَّر أحدًا، ولا يشتاق إلى أحد، ودكتور علي شرفي يزداد طولًا وبؤسًا، ويزداد بيته صغرًا وضيقًا ولا يمتد ناصر، ولكنه هنا أكثر جمالًا، الصادق حسين.

أم صلمبويتي.

ولا.

كدقاية زول.

لا تَعُدْ، ابقَ في دوران روكسي، هنالك النساء في الميني جيب والميني ميني جيب، الرجال على عجل، الدراجات للسباق والفيلم الهندي، تحياتي لمكتبة مدبولي، أسيوط في أسيوط وبوذا يُحيي ذكرى سنوات كثيرة مرَّت، منذ أن ودَّع درويش الأسيوطي يوم السبت في نادي الأدب، أستفرغ الذاكرة.

أرمي بكم بعيدًا عني، اخرجوا مني كي أراكم أكثر حلكة، كي أدفق عليكم ماء النسيان، لكي أحبكم أكثر ألعنكم، عوض شكسبير في صلعته الجميلة، عبيد، أنس الشرير، اخرجوا، اخرجوا، تدور عربة التاكسي دورتين سريعتين ليضغط السائق على زرار المنبه، يفتح الحارس الباب، تدخل السيارة حرم الجامعة، في كلية البيطرة تنزل بنت جميلة اسمها ياسمين، تعود سيارة التاكسي فارغة لتختفي في شوارع الوليدية الضيقة، تزحف بين عربات الكارو والباعة المتجولين، من على البلكونة يطل وجه عبد الرحمن جربو، ثم يختفي مرة أخرى، باتريشيا الآن وحيدة، كتنق، تمتطي طول قامتها، ترسل أظافرها في الهواء الندي، هواء الصباحات القادمة، سوف يحاول الأطفال تأجيل عيد الفصح من أجل باتريشيا؛ فالحائك لم يجد منديلًا بطول باتريشيا، ولا نخلة يطيل صبرها بها، ولم يجد مرسًى لسفن الباشوات والقرصان حتى يستريح عندها العبيد، والرحلة طويلة سواء أكانت إلى مصر أو جورجيا.

الرحلة طويلة.

والأغلال تحز معصمي وتأكل ساقي، وكلما أدمي لي جرح بصقتُ عليه، وكلما رآني السيد أفعل مشقني بالسوط على ظهري، وسبَّ أمي وأبي والمستنقع الذي خلقني منه الله.

– أنتم وصمة العار الوحيدة في جبين الإنسانية.

قالت لي كتنق بلغتنا: إنه كلب حقير.

كدتُ أبتسم لولا الحزن الذي يغمر قلبي. لا، لا، لن أبتسم للسيد، ولكن من أجل كتنق وحدها، الصادق حسين تؤلمه الجغرافيا، وبذاكرته مجزرة تُعمي دماؤها المسفوكة قلبَه، لا أحد، لا درب، لا شجرة، لا سنبرية، لا بنت لا ولد يقوده اليوم إلى كمبو كديس.

كل البدائل ظلام، والنجم.

أين النجم؟

هنا في الحي الجنوبي، تحت ظل النجم جلسنا، الطيب، إبراهيم، التاج، سليمان والسلطان، حولنا أشجار المسكيت التي سوف نستخدمها سواتر طبيعية إذا هاجَمَ العسكر الكمبو، سلوى تغني بلغة الباريا، أنا بصوتي الأشتر أغني خلف سليمان:

ساقني بعجلة وداني كمبو،
وين يا ناس؟
ساكن جنبو.

عندما يؤذن للصلاة، يوم العيد، نرتدي ما تيسَّرَ ونصلِّي مع المصلين في ميدان المدارس.

مَن يجرؤ على سرقة عتوت سيدة، غير كبسون نفسه، مَن يجرؤ على شيِّه كاملًا غير منقوص، تحت السنطات الشاهدات على المسرقة، غير إبليس ذاته.

بغم الأسماء

عبد الله الحارث، صلاح، حلفا الجديدة، علي الكوتش، محمد، الأستاذ محمد، عبد المعطي حجازي، أبو حديدة، سيرة العرق والطين، عرق الحصي، حبيبته الجميلة، طلال، ظلال، دلدوم، حسن كوكو، عبد العزيز كافي، الشريف موسى، مملكة سنار، الطواوشة، التنابلة، الماسليت، الصابونابي، حكومة، جيرمني، سيدة وعائشة وموريس، حي صدام، حلة عم محمد زين صاحب النيفة، حسن مرسال، حسن الكونج، حسن حسن حسن، علي جعفر، ابتهاج، فرحة، زهور عبد الله، عبد الله، صورة، عصافير، ود أبرق، عشوشاي، سمر عبد الله، لتجاني عثمان حسين الحاج، شيخ السمانية الصالح العاقل الكريم، طائران، شجرة واحدة، قال إبليس:
إن دخلت الدائرة الأولى ابتليت بالثانية.
وإن حصلت في الثانية ابتليت بالثالثة.
وإن منعت من الثلاثة ابتليت بالرابعة.
قال إبليس: لو علمتُ أن السجود لآدم ينجيني لسجدتُ، ولكن قد علمت أن وراء تلك الدائرة دوائر، فقلت في حالي: هَبْ أني نجوت من هذه الدائرة، كيف أنجو من الثانية والثالثة والرابعة.١

فدخل الصادق الدائرة الأولى، وهي السفر، هَبْ أنه نجا من هذه الدائرة، فمَن ينجيك من الغربة؟

مَن ينجيك من الأمريكيين والكنديين والاشتراكيين وشامل كامل أوروبا؟ مَن ينجيك من روكسي وعاطف خيري؟ مَن ينجيك من انهيار الاتحاد السوفييتي ومجازر القاعدة؟ إنهم في كل مكان، الذين صنعوا القاعدة هم ذاتهم الذين صنعوا انهيار الاتحاد السوفييتي، وهم الذين جَنَّدوا شيكيري توتو كوة في الحزب الشيوعي، جنبًا لجنب مع روزا لكسمبورغ ١٩١٨ بألمانيا، وهم الذين أوحوا لإبليس ألَّا يسجد لآدم ولا لمخلوق بعده، رَبَابَة، إيقاعات كنيسة مجاورة تتسلل إلى حوش بيتنا، أفراح الحي الجنوبي بعيد السمك لا تحدها كراهية الطارقيلة للقرقور أو البلطي، الدنيا بخير ولكنها بشر أجمل، والشر جميل وبهيج ورائع، الخير بارد ماسخ ولا طعم له، إن الدم الذي يلوِّن الشر هو الذي أعطاه حرارة الوردة وأزلية التراب، انظر جمال وليد إسماعيل حسن، انظر لروعة بابايات استيلا قيتانو، أميمة حسب الرسول، صلاح إبراهيم، بابا بلوم واشتياق، مَن الذي أكَّدَ جمال هؤلاء؟ مَن الذي شقَّ نهر عطبرة على صخرتين كبيرتين وأنشأ على شطه كمبو كديس، الأنادي والرميلة؟ يد خبيثة، يد خيرة، الجامع الكبير، زاوية محمد عثمان، العرديبات، بنات البني عامر، والباريا والعنسبة، البجوك، فلاتيات الشوارع الغربية، مسكيت مدرسة البنات، يد شريرة هي اليد الخيرة ذاتها، دم الحلاج أضاءه أكثر، قتلة محمود محمد طه، طبخة دمه، الذين صنعوا البهار، الذين ولغوا الدم، الذين رقصوا على القبر، الذين عندما سمعوا نشيده تبوَّلوا في أرديتهم، هم الآن الحجر الذي يدل على الرمس، كلما عرقوا تفصدت مسامهم دمًا نعرفه، دمًا يدل عليهم، دمًا ناره هنا لا تنطفئ، على إيقاع الصيد ومراكب الكرنقو، على طس الأسماء، على بغم الكلام، على ناصية روكسي تسأل روحه روحه، الصادق.

كلما ولج دائرة طائعًا أُولج مليون دائرة قسرًا، طالما كفر بإبليس، دعه، فالله يؤجله لصاحبه في الحياة الدنيا قبل الممات.

بغم الخطيئة

أعطيناك كلَّ ما تقوى على أخذه، أعطيناك شوارعَ الطين والأطفال المشردين وبقايا أحشاء الذبائح بسوق النوبة، أعطيناك بنياتنا السوداوات الجميلات، وهبنا لك عطرَ إبطهن الممهور بالمكافحة والمنافحة والسعي اليومي وراء الخبز، أعطيناك أَزِقَّتنا وقطاطينا وأزيار المياه والطحلب الذي في باطنها وخارجها، أقسمنا على رأس حرابنا والتراب، على أن نعطيك الخوف، بذا تكون قد سلبتنا الحياة، أبقيتنا عراة يضحك علينا الرهو والسمبر وطيور الكلج كلج الساخرة، وسوف لا يرى عُرْي بعضنا البعض، فالعُري يا حبيبنا حجاب، وحجاب العاري بصيرته، بغم الخطيئة، بغم كلامي إليك، بغم الغياب الطويل، أعطيناك كلَّ ما تقوى على أخذه، صلاتنا، صيامنا، قيام الليل، عهر العاهرات، مياه الواردين، بلح الفقراء، لالوب الناسكين، لعب أطفالنا، بول البائلين، السلام الودع، السفر، موت الأصدقاء، قبر الذي لا قبرَ له إلا في أحشاء قاتليه، كلَّ ما تقدر على حمله، حمَّلْناكه، سوسن الجميلة، حفرة يقف عندها عبده ويعتذر عن مواصلة السير، طلقتان منتصف الليل، جندي يسأل عن الطريق إلى الحامية، الحامية، وهبناك السكة والتكة والفكة والكحة والحكة وقول القائلين وقلناك في الشعر ومقام الشعر وخالد بخيت وكل ورقة شجرة وكُتب الجغرافيا وتاريخ الوردة.

أعطيناك أشعار بابكر الوسيلة وبنته والجبال التي في بيته وقلبه كله، كله، كله، ثم لم نقصِّر، أعطنا فقط، أعطنا الرجوع.

بغم ويلتاه

أزهرت برتقالتا حبيبتي وركَّ عليهما الطير الطنان الصغير يمتص رحيق الوردة الصغيرة، يسكن في التُّوَيج، يطرق رجل الباب المرحوق، تنق ضفدعة، تبوم بومة عجوز، على شجرة تمر هندي جوار البرتقالتين، تستيقظ البنت، تفتح وردتيها في كسل، وردتَا غاردينا بيضاوان، يسمع نوسهما الطنان، يطرق على تويج الزهرة، تعرف الوردة الطنان وتراه عندما يراها وعندما يغفل عنها أيضًا، وعندما يقبل وردة مجاورة، تنهض الصبية، تقف على غصنيها، ثعبان يلتف بأحد الغصنين، يصعد نحو الوردة، يدب حزينًا حذرًا سوف لا يزعج الطنان، يريد أن يقتنصه وهو في مزاج رايق، تتمطى الصبيَّة، تمد أفرعها في جهات الله الكثيرة، يرك سرب من عصافير الجنة جنة، ينشد السرب أناشيد الصباح البهيج، يبتسم الثعبان وهو يرتقي الغصن، عصفور الجنة جنة ألحم من الطنان، سوف أصطاد عصفور جنة جنة، تتثاءب الصَّبيَّة، يصعد بخار الماء إلى السماء، تمتص وريقاتها الضوء والأكسجين، الجذور البعيدة المتوغلة بين الطين والرمل والحصى، تشرب شاي الصباح، أمها سيدة جميلة يعرفها الناس، ويعرفها كلبها وقطتها العجوز هنا في الهامش لا أحد يرى جمالك، يرون عَوزَك وفقرك ويدَيْك الممدودتين، ترك عليهما حدأتان حُرَّتان تطيران عندما تحاول قفل أصابعك على مخالبهن، تشرق هذه الشمس علينا جميعًا ويخصنا الله معًا بالصحيان، الذين في البيت والذين خارجه، عندما تلبس البنت طرحتها، كل شيء يكون قد تمَّ، أتمه الله بقدرته، نحن يا حبيبتي الصغيرة لا نستطيع أن نعيق الحياة مهما تجملنا بالشر والقبح وعفونة الريح وتغربنا.

بغم الشجرة

يقف الآن الأحباء والأصدقاء والأعداء على حافة المقام، ويسع المقام الشِّعر وبسم الله الرحمن الرحيم، يكفيك من القول القائل من المطر العشب، ومن الرمل البيت، يكفيك من الثمر الشجرة، تمد يدك، إن مددتها مهبطًا للنسور، ويدك هشة وقلبك كسير، دربك معوج وبصرك اليوم حديد، ماذا تفيد الرؤية والقلب محجوب؟

ويلك.

إذا عرفت كلَّ لغات البشر وعجزت عن مخاطبة شجرة.

خشم القربة
٢٤ / ١ / ٢٠٠٣
١  الحلاج، كتاب الطواسين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤