جنونه

أخيرًا انتصرت.

هتفتُ وأنا أحتضن خطابَ نقلي إلى قسم المهملات بهيئة البريد والبرق، نضالٌ شَرِس خضتُه، كلَّفني من الرشاوَى والوساطات، الزمن والمشاوير — ما بين رئاسة الوحدة في العاصمة والفرع، ما بين واسطة وأخرى — الكثيرَ.

انتصرتُ لأُشبِع رغبتي الحقة، التي في اعتقادي الخاص خُلِقتُ لأجلها، كما أنها هي التي خَلقت من الحكماء بوذا وفلاسفة، من الأشخاص العاديين اليوميين أدباء، شعراء، فنانين، علماء ومبدعين. حقًّا هي الرغبة المقدَّسة التي تُعرَف بحب الاستطلاع، يسميها بعض المتشائمين الفضول. كانت أسعد أيام حياتي، تساقطت الخطابات المهملة على مكتبي كالغيث المبارك، بردًا وسلامًا، هذا نسي أن يضع الطابع، أو وضع طابعًا بقيمة أقل مما يجب، خطابات خالية من العناوين، خطابات ثقيلة الوزن، يجب أن تُسجَّل لكن لبخل أصحابها أو عوزهم انتهى بها المطاف إلى مكتبي، طلاب وعجائز يكتبون إلى أنفسهم، فيرتبكون في كتابة العنوان المرسَل إليه أو ينسونه، كلها أرزاق تخصني، أصنِّف الرسائل المهملة — بعد قراءتها — إلى فصيلتين؛ «المثيرات» و«العاديات»، فأحتفظ برسائل الحب والعلاقات المشبوهة والأسرار الأُسَرِيَّة، رسائل المستوحدين إلى أنفسهم؛ لأنها دائمًا ما تكون صادقةً ملتهبةً بغموض أصحابها ومأزق وحدتهم، قد أَرُدُّ على بعضها، معنِّفًا هذا، لَائِمًا ذاك، مُعِيبًا، واصفًا حلولًا نهائيةً وعمليةً لمشكلة «س»؛ لأنني رجل فاضل فكنتُ أفعل ذلك بكامل النقاء، الشرف والطهر، فلا أتدخل إلا عند الضرورة القصوى؛ حيث لا مفرَّ من إرضاء ضجيج الرغبة فيَّ إلا بالتدخل الشخصي السريع، رغم ذلك وقعت في فخٍّ شيطاني لم أستطع حتى الآن حلَّ لغزه أو فكَّ طلاسمه المحيرة؛ كان النص الكامل لرسالتها لا يتعدَّى سبعة أسطر، كتبَتْ بخطٍّ لينٍ رديءٍ لغةً ركيكة، الرسالة معنونة إلى مكان مبهم لم يستوعبه ساعي البريد … دائمًا، فكأنها أُرسلت إليَّ شخصيًّا في مكتب إدارة المهملات:

مقابر المدينة – قبر أمي

أمي العزيزة، أنا تعبت وزهقت وكرهت حياتي، هذه المرأة اللعينة الشريرة التي جاء والدي بها إلى المنزل بعد وفاتك، هو الآن في السجن أو في موته لا أدري، تعاملني معاملة وسخة وغير أخلاقية، فما إن ذهبت إلى هناك حتى «…»١

تزوَّجتني، أنا … خَجِلة أكتب ذلك … لكن أرجوك يا أمي أن تنقذيني منها، أرجوك، لا أظنك نسيتي عنواننا، لكنِّي أُذَكِّرُكِ إياه، إننا ما زلنا في نفس المكان، العنوان هو شارع «ج١٣، ٣١».

ابنتك المعذبة آستير
يوميًّا كان يصلني خطاب مستنسخ من هذا النص، فيشحنني برغبة هي جوع النار للريح، ولا بدَّ من القول أيضًا إنني أعرف هذا المكان جيدًا وأسكنه.

الطابق الأخير يبدو جديدًا، طرقتُ الباب، في أسرع مما أتوقَّع فُتِح، أطلَّتْ من خلفه فتاةٌ بيضاءُ عميقة النظرات، لأول وهلة أحسستُ بِأُلْفَةٍ طاغية وعاطفة جيَّاشة نحوها، كأنني أعرفها من قبلُ، إنها هي بلا شك.

– تفضَّلْ.

بصوتها نعومة حلمية مثيرة، لحن من الجنون الغامض، قاعة الاستقبال المتسعة، الشمعدان، النجف الأجنبي يَتدلَّى كالثُّريَّا من السقف، لمبات الزئبق، ورق الحائط الفاخر، تليفزيون ذو شاشة مسطَّحة ماركة Hitachi، تحته على الحامل ذي الأدراج يقبع فيديو من نفس الماركة، قد بَدَا لي أنه كان يعرض فِيلمًا أُوقِف حين دخولي؛ نسبةً للشيء الضئيل من الانزعاج الذي بَدَا على وجه المرأة الصفراء ذات العنق الطويل والضفائر المرسلة … كراسي الجلوس الفخمة الناعمة التي ما إن جلستُ عليها حتى أودعتني أعماقها الدافئة، ابتلعتني تمامًا … السجاد الإيراني، عبق المكان، كل شيء يوحي بالحياة، بالثراء الفاحش، لا أنكر أنني تآلفت أيضًا مع المكان، تغلغل في عمقي، احتواني مثلما تحتوي التفاحة بذرتها.

– أهلًا.

المرأة الكبيرة الصفراء ذات العنق الطويل والضفائر المرسلة أجمل من الفتاة التي التقتْني عند الباب، بعد قراءةٍ سريعةٍ لتقاطيع وجهها وفي مخيلتي نص الخطاب الذي كان، توصَّلتُ إلى أشياء كثيرة عن شخصيتها، أهمها «أنها شَرِسة، شبقة».

– أنتَ من هذه المدينة؟

بادرَتْني المرأة الجميلة ذات العنق الطويل والضفائر المرسلة: نعم، من ذات المدينة.

– لستَ من هذا الحي؟

– بل من ذات الحي.

– لستَ من هذه الحارة؟

– بل من ذات الحارة.

– لستَ من هذه العمارة؟

– بل من ذات العمارة.

– لستَ من هذه الشقة، بالتأكيد؟

قالتها وهي تبتسم ابتسامة غامضة، لكنها مريحة ودِّية: بل من ذات الشقة.

تنهَّدَتْ وهي تمسح كفَّيْها بمريلتها النقية البيضاء، لم يَبْدُ على وجهها أيُّ تأثير أو انفعال، كانت عادية كبرتقالة، في ذاتها ينام البحر.

– لا بد من القول: كنتُ أقيم في الطابق الأرضي بعد رحيلنا من شقة ١٣، ذلك منذ زمن بعيد لا أستحضره الآن.

همسَتِ المرأةُ الجميلة في أذن الفتاة البيضاء، ثم تحدَّثتا كثيرًا بسرعةٍ لم أعهد مثلها؛ بحيث إنني لم أفهم شيئًا مما دار بينهما من قولٍ إطلاقًا، غير أن أذني المدرَّبة جيدًا على الاستطلاع استطاعت أن تلتقط مرارًا كلمة «الدائرة»، ثم اختفت المرأتان في إحدى حجرات الشقة، لفَّهما الصمت. شربتُ عصير المانجو، لم تعودا، قرأتُ مجموعةً من الرسائل «المثيرات» كانت بجيب سترتي. زمنٌ لا أدري مقداره تزحلق وأنا غارق في الكرسي الوثير، أبارز ظنوني محملقًا في التليفزيون المطفأ، الثراء الذي يطوقني، أتفحص الأشياء بدقة، امرأة مجربة، أقدِّر أثمانها، أتخيَّلها انتقلَتْ إليَّ، فَلْأدير جهاز التليفزيون، لِمَ لا؟! ما لم أتوقَّع كان شريطًا قَذِرًا ومثيرًا، المرأة الجميلة تتزوَّج الفتاةَ البيضاء، سابحتين في عُرْي لا نهائي، وعناق محموم، حالة حب مدهشة، كما تتوحَّدُ الحنظلةُ مع مرِّها، توحَّدَتَا، وأحسستُ فعلًا بحرارة أنفاسهما، شعرت بدوار طفيف، ودونما تفكير انتزعتُني من الكرسي الوثير وأخذتُ أبحث عن المرأتين، طرقت كلَّ الأبواب، في ثورةِ جنونٍ وحمق، «أَلَمْ تكتب أنها تكره ذلك، ﻟ …»

لا أثر للمرأتين، كانت الغُرَف خاويةً فارغة من الأثاث، خلاء كانت، مسكونة بالوطاويط السوداء وعفونتها، ولكنني أُصِبتُ بدهشة أكبر وخوف حقيقي عندما عدتُ إلى قاعة الاستقبال ووجدتُها تنام في عُرْي قديم ولا نهائي، لا أثر للفيديو، الموكيت، ورق الحائط، لا شيء غير العُري، الفراغ والعنكبوت.

حاولتُ فتحَ الباب المفضي للخارج، ولكنه كان مغلقًا جيدًا، فأخذتُ أركله بهستيرية وجنون إلى أن فُتِح، فتحه الجيران، وكانوا قد تجمهروا أمام الباب عند سماعهم للضوضاء والجلبة التي أحدَثْتُها.

وأخذوا يسألونني ويتفرَّسون فيَّ باستغراب وبرود أملسين: أنت لستَ من هذه المدينة؟

– بل من ذات المدينة.

– لستَ من هذا الحي؟

– بل من ذات الحي.

– «… – …»

– «… – …»

– «… – …»

استطعتُ أن أتأكد وبما لا يدع مجالًا للظنون أو الشك أن من بين الجيران المرأةَ الجميلة الصفراء ذات العنق الطويل والضفائر المرسلة … والفتاةَ البيضاء … وكانتا مندهشتين كالجميع وباردتين.

١  وصف فج لسلوك بارد غير مسئول على الإطلاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤