ذات يوم بارد

عاريًا كالبرق مُشهِرًا جسده في فوضوية جامحة أمام الله، عادي ومسالم كشجرة السيَّال، وهو ينتصب على سطح المبنى، الأمكنة حوله كسولةٌ فَتِرةٌ تَغِط في شيخوخة بليدة ونهائية، تجوَّل بنظره بين أَزِقَّة المدينة اللينة اللولبية، كانت مخدرة أو نائمة أو كما كانت.

الجوُّ بارد وجاف.

تحوم في الأفق الحدأة في حلقات مع نسور «الأبو خريطة» و«الكلنق أبو صلعة»، وبعض «السنبر» والغربان، تمطر الأمكنة زَرْقَها وهي تُوَقوِق.

تحت … قُرْب قدمه العارية عقربةٌ عجوز تحمل على ظهرها أحفادَها صغارًا صفرًا متعبة أذيالهم ذوات الشوكات الصغيرة الحادة.

يعلو صوته متفجرًا، ليبعثر مكر صمت الأمكنة وبرودتها، ويحرك عهر الزمن الساكن حوله …

سأقولها.

أحيا المكانَ نهيقُ الميكروفون، وكما لو نُفِخ في الصور، نهضوا من مراقدهم، تثاءبوا، ثم انفجروا بالحياة، شحنوا أنفسهم في فراغ المكان، وهم ينسلون من حنايا الأَزِقَّة الباردة، قال: سأقولها.

انفجر عُريه في أوجههم اليومية المستكينة.

صعقهم جسده فاضحًا تفاصيل ما يخبِّئونه تحت جلابيبهم، مستفزًّا المسافةَ ما بين خباثة النساء وخجلهن، فأخذن يخفين أوجههن بأكفهن الناعمة الرقيقة المزيَّنة بالختم والحناء، وما بين أصابعهن يتفحصن دفء عُريه، ومَن يستعذن بالله من الشيطان ومِن الشيطان بابن آدم.

ليس هناك ما أخاف عليه أو منه؛ لأنني سوف أسقط بعد ما أقولها من علوِّ هذا المبنى الشاهق وأموت، فَمَن بإمكانه محاسبة جسد ميت؟!

انتبهوا، اللغة كانت تخصهم، تتغلغل في لبِّ عظامهم وتوقظهم من العمق، وكأنها زُبُرٌ مُنَزَّلة لكل واحد منهم شخصيًّا. فجأةً، ما عادوا يرونه رجلًا عاريًا، بل شكلًا غامضًا واضحًا محترمًا وعظيمًا.

«أزاحَتِ النسوةُ أكفهن — المخضَّبَة بالحناء، المطرَّزة بالمناكير المدهونة بالكركار — عن أوجههن.»

أُلبس جلبابًا بلديًّا، طاقية، مركوبًا من جلد الأصلة، زَوَّجته النسوة بنياتهن المدلَّلات لينام على ضفائرهن من العطرة السوداء سكن أكواخهم الصغيرة، شارَبَ الشيوخ قوةَ الظهيرة تحت ظل الرواكيب وأشجار النيم والتبلدي في القرى والمدائن النائية وأسواق الجمعة، اختلَتْ به الداعرات المجدليات الحزينات أَنَمْنَه على صدورهن فضمَّد عُهْر أيامهن، باركهن، فما خلَتْ مضاجِعَهن من الزبائن، ما جُعنَ، ما أُصِبنَ بالسل والزهري، أودعنه أسرارهن، المراهقات الصغيرات بُحْنَ له كيف فاجَأَهن الحيضُ أولَ مرة وهن في فصل المدرسة، آنَسَه المرضى، تغنَّى به عمَّال المصانع، المزارع، الموظفون، الحدادون، البنَّاءون، والسماسرة المطففون، تسكَّعَ أمامه اللوطيون وغنَّوا.

صلَّى بالمتوصفة صلاةً واصلة أذابتهم بروح الرب، فهاموا عشقًا ثم تلاشَوا. قال: إليكم تفاصيل المسألة. أولًا …

صوته عميق مؤثِّر وقوي، وكان يضيف إلى عُرْيه بُعْدًا نبويًّا أو ملائكيًّا لدرجة أن «حليمة» همست لجارتها: «لو ما أخاف الكذب يمكن الزول تنزَّل من السماء.»

السلطويُّون يعدُّون الشباك لاصطياده، ينصبونها تحت المبنى، كانوا يريدونه حيًّا أو حيًّا.

النسوة، الأطفال، والأبناء يشيرون إليه من داخل منازلهم قائلين له عبر تشكيلات من أصابعهم إن هناك شِبَاكًا تشاك.

قال: قليلًا وسأحدثكم عن الشِّبَاك، دعوني أتمِّم حديثي عنهم. أشاروا إليه إنها المصيدة.

قال: لا، ليست الشِّبَاك هي المصيدة.

الكلمات القويات العميقات انتشرت في كل أمكنة البلاد، قرئتْ في المراحيض وتحت أدراج المدارس، في غرف النوم، بعيدًا في المغارات، همَسَ بها العاشقون للعاشقين.

تغنَّى بها السكارى في أقبية المواخير، مختبئين تحت كئوس الخمر، قالتها الأمهات الفقيرات في آذان أطفالهن وهن يَحُكْن جلابيبَهم الزيقة.

همس بها مسجون لمسجون في سجن المدينة.

قال عنها معتقل تمَّ اغتصابه في الليلة الماضية: إنها قاضمة.

أما الطَّلَبَة فخرجوا في ألف مسيرة يطالبون برغيفٍ لكلِّ طفل وكوبِ لبن.

قال رجل شريف لرجل شريف: أنا ضد الأسئلة التي …

قالت امرأة شريفة لرجل يقدِّر شرفَها: أنا ضد الكتابة عن الجنس، أما الجنس فلا غبار عليه.

قال، لم يبح صوته بعدُ: وعن عُرْيكم أيضًا أحدِّثكم.

هنا تزحلقت مفردات لغته طرية مخضرة بعمق الحقيقة، ونقية كخوفه المكبوت وأسئلته المرتدة إليه … إليه.

صفَّرت الريح وهي تراحل سحابات دكناء محمَّلة برعد مضمر حبلى بالبرق، وعن عُرْيهم قال، تكلم وتكلم …

فقال آذانهم بالصابون الأطفال وعجين الخبز.

سدت في وجهه خمارات المدينة وأعين صبياتها.

نبذته الداعرات المجدليات الجميلات الحزينات وقلن: طالما.

وعزله الأصدقاء، رموه بكأسه وقالوا: بيننا مسألة معلَّقة.

ضاقت الأَزِقَّة، التصقَتْ بجدرانها وأسيجتها، وانكمشَتِ البيوتُ العتيقة الحبُّوبة على ذواتها ونامت، عافته مبولة المدينة، جند الحراسة، المؤذنون، خَيل عربات الكارو، سحليتان بجحرٍ قُرْب النهر، القطط المشردة، عزلته أخيلة المراهقات الحالمات، امرأة كانت تهيِّئ نفسها للفراش، طفلان وقرد في معمل للتجارب …

قال: وأيضًا، أحدِّثكم …

كان وحيدًا جميلًا، عاريًا كالبرق، ومثل يسوع الناصري عذابه غير متناهٍ، وعيناه ذكيتان.

وعندما همَّ بالسقوط قال فيهم: الآن أكملت لكم عريكم.

وتركت فيكم ما لو تمسكتم به ضللتم.

وأشار لأشياء بعينها.

فظن السلطويون أنها الشعب.

وظنَّ الشعب أنها الأسئلة.

أما الطقس.

فكان باردًا وجافًّا، أو كما كان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤