الوجودية بين أنصارها وخصومها

ونحن نكتب هذا العنوان لنسرع إلى نقضه، أو تعديله، في السطر الأول من المقال!

إذ كانت الوجودية أقل المذاهب قبولًا للتنازع الشديد بين الأنصار والخصوم؛ لأنها تتسع للنقائض من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، وتضم تحت عنوانها الشامل أناسًا يؤمنون إيمان العجائز، وأناسًا يكفرون بكل معتقد ويتحللون من كل دين.

وحسبنا من عنوان الوجودية أنه يضم تحته فلاسفة من أمثال كيركجرد، وبرداييف، وجابرييل مارسل، وهيدجر، وسارتر، وكرشنامورتي … وآخرين!

فكيركجرد Kierkegaard دانمركي يميل إلى الكنيسة البروتستانتية.
وبرداييف Berdayaef روسي يميل إلى الكنيسة الأرثوذكسية.
ومارسل Marcel فرنسي يميل إلى الكنيسة الكاثوليكية.
وهيدجر Heidegger ألماني يهودي يميل إلى الإلحاد ويكاد أن ينكر كل موجود وراء الطبيعة.
وسارتر Sartere فرنسي «نصف يهودي» يفرط في الإلحاد والإنكار غاية الإفراط.
وكرشنا مورتي Krishna Murti هندي يتصوف تصوف النساك ويجعل لكل روح بشرية محرابًا مستقلًّا تتعبد فيه بمعزل عن جميع الديانات.

مذاهب الوجوديين

ويوجد بين «الوجوديين» مثل هذا الاختلاف في مسائل الأخلاق والواجبات الاجتماعية. فمنهم من يدين بالإباحة المطلقة، ومنهم من يروض نفسه على التقوى كأنه راهب في صومعة.

فهم متفرقون بين العقائد والمذاهب والآراء، وليس بينهم من جامعة تسوغ وضعهم تحت عنوان واحد إلا أنهم يؤمنون جميعًا بأن الوجود مقدم على الماهية.

وهذا اصطلاح فلسفي يمكن تبسيطه وتقريبه بلغة الكلام الشائع في كل يوم.

فهم يؤمنون بأن الوجود الحقيقي إنما هو وجود الأفراد، وإنما النوع كله اسم من الأسماء لا وجود له في الخارج.

زيد وعمرو وإبراهيم ويوسف وفلان وعلان — هؤلاء موجودون حقيقيون لا شك في وجودهم، ولكن «الإنسان» أو النوع الإنساني كلمة لا حقيقة لها في الخارج، ولا يراد بها إلا تقريب التصور والإدراك.

وما دام الأمر كذلك …

وما دام الفرد هو الحقيقة الموجودة فمن الظلم أن نضحي به في سبيل الكلمة الوهمية أو الصورة الخيالية التي تجري على اللسان ولا تظهر للعيان.

كيف يتقرر وجود الفرد؟

إن الفرد هو الموجود فمن حقه أن يقرر وجوده أو أن يثبت وجوده قبل كل شيء، وليدع كلمة «الإنسان» موزعة بين الجميع تصدق على هذا كما تصدق على ذاك، ولا أثر لها في تحقيق الوجود أو إبطال الوجود.

ومن هنا يبدأ الخلاف بين الوجوديين أنفسهم، وكلهم مع ذلك وجوديون.

فما هي الطريقة التي يقرر بها الفرد وجوده ويتحرر بها من الوهم والخيال؟

عند فريق من الوجوديين أن وجود الفرد يتقرر ويتحقق بإطلاق العنان لرغباته وشهواته يفعل ما يشاء ولا يبالي العرف أو الدين.

وعند فريق آخر من الوجوديين أن الفرد يتحقق وجوده إذا اتصل بالوجود الأعظم، وجود الإله أو وجود الكون، أو وجود «الكارما» في عرف البرهميين.

وعند فريق غير هؤلاء وهؤلاء أن وجود الفرد يتحقق بمواجهة المخاوف والأخطار والتعرض للقلق والمحنة واستخراج كل قوة في أعماق النفس بتجربة الخوف والتغلب عليه وقبول الأقدار قبول الاختيار.

وعند غيرهم جميعًا أن الاشتراك في العقيدة تكرار وتقليد، وأن التقليد تزييف وتلفيق، وأن الوجود الصحيح إنما يكون بالعقيدة التي لا تقبل التكرار.

مذهب قديم!

هل هذا المذهب حديث في مذاهب القرن التاسع عشر أو القرن العشرين؟

كلا، إن الخلاف بين القائلين بالوجود والقائلين بالماهية أقدم من أرسطو وأفلاطون.

والقول بالمثل، جمع مثال، في مذهب أفلاطون أو القول بالصور، جمع صورة، في مذهب أرسطو، إنما هما نسخة قديمة من الخلاف على وجود الفرد ووجود النوع، أو على الجنس والفصل كما يقولون في لغة المناطقة الأقدمين.

وقد تجدد هذا الخلاف على أشده وأعنفه في القرون الوسطى بين الواقعيين Realists والاسميين Nominalists.

فالواقعيون يقولون إن الوجود الحق للأفراد، والاسميون — في رأي خصومهم — يتعلقون باسم على اللسان لا وجود له في الحس والعيان، وكل ما فيه أنه عنوان.

فهذا خلاف قديم لم يخلقه الوجوديون المتأخرون، ولكن الوجودية الحديثة تعد مع ذلك — ظاهرة من ظواهر القرن العشرين لم يعرفها الأقدمون كما عرفها اليوم الفلاسفة المعاصرون.

الوجودية الحديثة

هذه الوجودية الحديثة في الواقع هي ظاهرة اجتماعية نشأت بعد نشوء الديمقراطية وتجسمت وتضخمت بعد نشوء الشيوعية.

ضاع الفرد في غمار المجموع.

أصبح الشأن كل الشأن للعدد لا للمزية والخصائص الفردية.

فالوجودية الحديثة هي ثورة احتجاج من الفرد على طغيان الجماعات، وهي إثبات لحق الفرد أمام الدعاوي الكثيرة التي تكاد أن تلغيه وتفنيه في غمار السواد.

ومما لا جدال فيه أن الوجودية بهذا المعنى ظاهرة طبيعية معقولة، وأن الحاجة ماسة في العصر الحاضر إلى إقامة الحد الفاصل بين طغيان الكثرة العددية وحقوق المزايا الفردية، وأن كل وجودي متدين أو غير متدين في زماننا هذا يريد أن يثبت حقه أمام السلطة الدينية أو السلطة العرفية أو السلطة السياسية.

شرط الاعتدال

إلا أن المغالاة محذورة من الطرفين، لأن المغالاة من هنا أو هناك تضر بالفرد كما تضر بالمجموع.

فمن المغالاة أن يَمَّحي الفرد محوًا في سبيل الجماعة، لأن في هذا المحو تضييعًا للمزايا والكفايات.

ومن المغالاة إنكار النوع وإثبات الفرد وحده، لأن النوع موجود في جسم الفرد متمثل في غرائزه النوعية التي هي أقوى دوافعه النفسية، سواء تمثلت في الحب بين الرجل والمرأة، أو في الحنان الأبوي على الأبناء أو في غريزة الاجتماع.

وقوام الأمرين أن الفرد موجود وأن النوع موجود، وأن صلاح النوع في الانتفاع بمزايا الأفراد، وأن صلاح الفرد في الاعتراف بغرائزه النوعية وعلاقاته الإنسانية التي لا فكاك منها.

هذا هو الجانب الاجتماعي النفساني من المذاهب الوجودية على تعددها وافتراقها.

وأما الجانب الفلسفي فمداره على البحث القديم في مبلغ إدراكنا للحقيقة بحواسنا وعقولنا.

هل نحن نعرف الوجود بالحواس والعقول، أو وراء ذلك حقائق الأشياء في ذواتها لا تدركها الحواس ولا تنفذ إليها العقول؟

وسيظل الخلاف على ذلك قائمًا ما دام في الدنيا موجودون يبحثون عن الوجود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤