بارود لم ينفجر وطباعة لم تطبع

تواتر القول بأن اختراع المطبعة واختراع البارود قد كانا فاتحة عهد، أو نقطة تحول في تاريخ الحضارة الحديثة. وبين المطبعة والبارود مناسبة، أو مشابهة قريبة، وهي مشابهة «التعميم».

فقد أصبح الكتاب ميسورًا لكل من يطلبه بعد نشر الطباعة، وقد كان قبل ذلك موقوفًا على رجال الدين أو على الذين يتفرغون لنسخ الكتب ودرسها، وكلاهما يلجئ الطالب إلى تفرغ وانتظار.

وقد أصبح حمل السلاح ميسورًا لمئات الألوف وألوف الألوف بعد صنع الرامية البارودية، وقد كان السلاح الفعال حكرًا قبل ذلك لفرسان القلاع.

ولهذا ارتبطت العلاقة بين المطبعة والبارود وبين الديمقراطية وحرية الشعوب، وصور المؤرخون هذه العلاقة على صور شتى يصح بعضها، ويحيط الخطأ الكثير ببعضها الآخر. وهو الذي نتناوله هنا بالتصحيح.

فالخطأ الكبير أن يقال إن المطبعة والبارود هما سبب التحول، أو سبب القضاء على دولة الكهانة، ودولة الفرسان.

والصواب أن يقال: إنهما أداة التحول أو علامة التحول، وإن الفكرة الإنسانية هي السبب الفعال وراء كل أداة.

فالقلعة قد انهدمت في اليوم الذي أنكر فيه الناس سلطانها، وطلبوا السلاح الذي يقاومها ويغني عنها، ومسألة السلاح واختراعه بعد ذلك، هي مسألة زمن، أو مسألة تجويد لصناعة من الصناعات المستحدثة، كما تحتاج كل صناعة إلى زمن للتجويد.

والكهانة قد انهدمت يوم أنكر الناس علمها بكل شيء، واطلاعها على كل سر، وحاجة الإنسان إليها في خلاص روحه من الهلاك، وخلاص عقله من الجهالة. ومسألة الكتب وانتشارها بعد ذلك هي مسألة الوسيلة التي ارتسمت غايتها قبل اختراع آلاتها.

•••

حذار في هذه القضايا التاريخية من اثنين: أحدهما القائل الذي يحب تسيير الأقوال، وإبرام الأحكام، فهو يتخير الأعاجيب لتسير، ويفضل من الأحكام أسرعها إلى الإبرام.

وثانيهما: الخليق بأن نحذره، هو المفسر المادي للتاريخ، فإنه يرفض كل سبب يرجع إلى النفس والوجدان، حتى إذا عثر على سبب يرجع إلى مادة جامدة هلل له وكبر، وكانت صحة السبب عنده على قدر جموده وخلوه من الفكر والضمير.

أما حقيقة الأسباب التي لا شك فيها، فهي أن الفكرة الإنسانية هي الأداة وراء كل أداة، وأن الأدوات والمكنات، ما لم تكن وسيلة لفكرة إنسانية هي والحجارة المنبوذة بالعراء سواء.

•••

قالوا: إن البارود هو الذي هدم القلعة، وإنه هو الذي نقل السلطان من أبطال الحصون إلى أبطال المدن التجارية.

وهذه حركة قوامها عند المفسرين الماديين للتاريخ، هو براميل البارود والنبلاء وتجار المدن، ولا سيما المدن التي على البحار.

هذه هي عناصر الحركة التي نقلت الدنيا من عهد الإقطاع إلى عهد «البورجوازية»، إلى ما وراءه من العهود.

وهذه العناصر كلها كانت في الصين من عشرات القرون، البارود والنبلاء والمدن التجارية، فلم تنتقل خطوة واحدة من تلك الخطوات التي حركت الحضارة الأوروبية من أطوار القرون الوسطى إلى أطوارها في القرن العشرين.

إن بعض المؤرخين يشك في سبق أهل الصين إلى اختراع البارود؛ لأنه يربط اختراعه بالكشف الذي سجله «روجرز باكون» في معمله عند منتصف القرن الثالث عشر، ويرى أن وجود البارود يتوقف على وجود ملحه Saltpetre، وهو لم يكن معروفًا — في زعمه — قبل روجرز باكون.

إلا أن الراجح، أن روجرز باكون نفسه قد عثر على الصيغة الكيمية في المرجع العربي، الذي أشار إليه «أومان» في تاريخ فن الحرب، فإن لم يصح هذا، فالصحيح بلا مراء أن هذا الملح يوجد على سطح الأرض في بلاد آسيا الشرقية، ومنها الهند التي يوجد بها على سطح الأرض إلى اليوم.

وندع هذا، ونرجع إلى الزمن الذي انقضى بين كشف البارود والانتفاع به في الحملات على القلاع والحصون.

لقد مضت ثلاثة قرون منذ جاء ذكر البارود في أوراق روجرز باكون، إلى أن أصبح قوة فعالة في الهجوم على المعاقل المحصنة، وقد مضت هذه القرون في تنقية الأخلاط، وضبط المقادير الصالحة لسرعة الانفجار، وتركيب هذه الأخلاط تركيبًا موافقًا للأدوات التي أمكن اختراعها يومئذ، سواء أكانت مما تحمله اليد، أم تجره الخيول، وكانت مشكلة الوقت الذي ينقضي بين إطلاق القذيفة، وتعبئة المدفع أو الرامية عقبة معوقة، ولم تكن من أسباب الإسراع والتغلب.

ولا شك أن المنجنيق الذي كان يقذف الحجارة على قربٍ قد كان أفعل من المدافع الأولى في تهديد الحصون والقلاع، بل استطاع الهوجنوت إلى أوائل القرن الثامن عشر أن يقاوموا المدفع حول الحصون بمتاريس التراب، وما إليها، فلم يكن البارود إذن هو القوة الحاسمة في تغلب نظام على نظام، ولم يكن استخدام المدفع الأول أسهل من فنون الفروسية، التي احتكرها نبلاء القرون الوسطى.

وأصح من هذا أن يقال إن البارود في أوروبة، قد أفاد في ميدان الصناعة قبل أن يفيد في ميدان القتال، لأن بدعة الأسلحة النارية حولت الأنظار إلى البحث عن الحديد والفحم، فنشطت حركة التعدين، واستفادت منها الصناعات الحديثة، مع توالي الطلب عليه حسب حاجة العصر الحديث.

•••

إن كان في سبق أهل الصين إلى اختراع البارود قليل من الشك، أو كثير فليس هناك قليل من الشك أو كثير في سبقهم إلى اختراع المطبعة بنوعيها، ونعني بالنوعين المطبعة الثابتة التي تطبع الصفحات دفعة واحدة، والمطبعة التي تعتمد على الحروف المنفصلة قبل تركيبها في الصفحات.

هذان النوعان من الطباعة وجدا في الصين واليابان وكورية، منذ اثني عشر قرنًا أو تزيد، ولكن الطباعة بنوعيها، لم تنقل الصين من أطوارها التي كانت عليها في القرون الأولى للميلاد إلى أطوار القرن العشرين كما شهدتها البلاد الأوروبية.

فلماذا لم يحدث هذا الانتقال في الصين بفضل المطبعة، كما حدث في البلاد الأوروبية؟

لاختلاف الفكرة واختلاف الثقافة. فإن الفكرة التي اخترعت الكتابة الصينية قد جعلت لزامًا على الطابع أن يستعد بمئات العلامات قبل أن يحيط بمقاطع الهجاء، فلم يكن في الطباعة تيسير، ولم يكن فيها إسراع ولا إيجاز، ولم تنفع أصحابها الذين سبقوا الغرب إلى اختراعها بعدة قرون.

أما اختلاف الثقافة، فهو ها هنا بيت القصيد.

في الغرب كانت الثقافة هي التي طلبت المطبعة؛ فوجدت المطبعة سدًّا لحاجة مطلوبة.

وفي الصين وجدت المطبعة، ولم تطلبها الثقافة، فوقفت المطبعة عند غايتها الأولى، وهي نقش الحرير وغيره من المنسوجات، ولم تكن المطبعة وحدها هي القوة الفعالة في توجيه الأفكار وتنبيه النفوس.

وها نحن أولاء نبصر المطابع بيننا على أحسن صنع وأحدث طراز، ونبصر كل يوم صنوفًا من الكتب والمجلات والصحف تنشرها هذه المطابع، وتيسر عرضها، وتعلن القراء بظهورها، ولكنني أسعى إلى كتاب فأطلبه، وأبذل فيه ثمنه، وأمر بعشرات غيره فلا أطلبها، ولا أقبلها بغير ثمن، لأن المطبعة في الواقع هي الأداة التي تكمن وراءها الفكرة الإنسانية، وليست هي العامل الحاسم الذي يملي على الإنسان ما يقرأه، وما يحب قراءته، فضلًا عما يأباه، ولا يلقي عليه نظرة، ولو كان بين يديه.

وقد قيل إن المطبعة هي التي هدمت سلطان الكهانة، ونسي هؤلاء القائلون أن سلطان الكهانة كان هو «العميل الأكبر» للمطبعة، ولا يزال حتى اليوم كذلك. فإن ملايين النسخ من الكتب الدينية لم تزل تصدر كل عام من المطابع منذ منتصف القرن الخامس عشر إلى يومنا هذا، ولو أننا أحصينا نسخ الأناجيل والشروح الدينية، وأحصينا نسخ الكتب الأدبية والعلمية لكانت مادة الدين أرجح من كل مادة منفردة في أبواب العلوم والفنون والآداب، ولو شاء قائل أن يقول إن المطبعة عززت سلطان الكهانة؛ لكان له من الإحصاء دليل لا يقل في صدقه ووفرة شواهده، عن أدلة القائلين بالهدم والتقويض.

والمطبعة هي هي في كل مكان، فما بال المطبعة في بلد تخرج للناس مليون مصحف، وتخرج في البلد الآخر مليون إنجيل؟! بل ما بال المطبعة في البلد الواحد تخرج هنا صحيفة محافظة، وتخرج إلى جانبها صحيفة حرة، وتخرج معهما صحيفة بين بين، ولا تمتد يد القارئ إلا إلى الصحيفة التي يعرفها، ويريديها، ويقبل آراءها؟!

إن سبب هذا كله في رأس الإنسان وبين جوانحه، وليس مرجعه إلى حديدة كبيرة هنا، أو حديدة صغيرة هناك، أو إلى مطبعة تخرج مليونًا في الساعة، ومطبعة لا تخرج غير الألوف في الساعات والأيام.

ولقد كانت المطبعة حقًّا «نقطة تحول» في تاريخ الحضارة الإنسانية، ولكن الإنسان هو الذي تحول؛ فحولها، وهو الذي طلب الكتاب؛ فأوجد الأداة التي تعطيه الكتاب.

وإذا كان في هذا العالم أناس ينظرون إلى العقول وهي تزدهر، وإلى النفوس وهي تتوثب، فلا يستريحون حتى يردوا ذلك كله إلى رطل من الحديد، أو حفنة من الملح المسحوق، فمن حقنا نحن أن لا نستريح كلما رأينا أداة تصنع الأعاجيب وتزودنا بسلاح المعرفة أو سلاح القوة، إلا أن نشير من وراء ذلك إلى النفس المتوثبة، والعقل الخالد والقريحة المنجبة لنا ما نريد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤