الدعوات الهدامة والناشئة (٢)

اشتهر عصرنا هذا بالدراسات النفسية، وتناول الباحثون بهذه الدراسات أحوال الأفراد على اختلافهم، وأحوال الأمم على اختلافها، فبحثوا في نفسية البطل، ونفسية العبقري، ونفسية المجرم، ونفسية الطفل والمراهق، وبحثوا كذلك في أطوار الجماعات وعقائدها، وعوامل التأثير فيها. واستفاد الناس من هذه المباحث فوائد شتى في شئون التربية والتعليم والسياسة.

ولكن هذه الدراسات النفسية قد أصابها ما يصيب كل بدعة جديدة يلهج الناس زمنًا من الأزمان: أصابها الإفراط في تطبيقها على كل شيء وكل حالة، فأصبحنا ونحن نسمع بالعقد النفسية في تعليل كل مشكلة من المشكلات الخاصة أو العامة، وكلما ذكر الذاكرون بدعة في سلوك بعض الجماعات، أو سلوك بعض الأفراد، وجدنا من يقول: هذه عقدة نفسية، هذه نزعة مكبوتة، هذه حالة من حالات الوسواس التي يعالجها الأطباء النفسانيون، وليس الأمر دائمًا على هذا الوصف الذي يصفونه، فإن المشكلات الاجتماعية كثيرًا ما ترجع إلى أسباب لا علاقة لها على الإطلاق بالعقد النفسية، سواء بحثنا عن هذه العقد في نفوس الأمم أو نفوس الأفراد، ومن الواجب أن نعرف هذه الحقيقة إذا أردنا أن نواجه مشكلاتنا، ونصلح من أمورنا؛ لأن الصواب في تشخيص الداء هو نصف العلاج.

من المشكلات التي يردونها إلى العقد النفسية مشكلة الشاب العصري وموقفه من الدعوات الهدامة ومذاهب الفوضى والانقلاب.

فمن المحقق أن الأمراض النفسية تدفع ببعض الشبان إلى الإصغاء لهذه الدعوات، بغير بحث فيها ولا معرفة لحقيقتها.

ولكن من المحقق أيضًا أن مشكلة الشاب العصري — في هذه المسألة — لا ترجع كلها إلى الأمراض النفسية المزعومة؛ بل يرجع الكثير منها إلى أحوال تتعلق بنظام التعليم، أو تتعلق باتساع التعليم، أو باتساع العلاقات العالمية واشتراك بني الإنسان جميعًا في ظروف متشابهة، وكل أولئك لا شأن له بالأمراض النفسية ولا بالأطباء النفسانيين، وقد يكون الشأن فيه للمصلحين من رجال التربية والسياسة، قبل غيرهم من القائمين بالإصلاح.

فمن المصاعب التي تصادف الشاب العصري أنه يبقى في المدارس إلى نحو الخامسة والعشرين من عمره، إذا أراد أن يتخرج من المدرسة العالية.

لم تكن هذه المشكلة مما يواجه الشاب في العصور الماضية، لأنه كان يكتفي بمعرفة القراءة والكتابة، ومبادئ الحساب، وشيء من المعارف العامة، ولا يبلغ الخامسة عشرة حتى يكون قد أخذ نصيبه في المعرفة اللازمة له في معيشته، ثم يتزوج وهو في باكورة صباه، فيحمل أثقال المسئولية ولا يتسع وقته لغير شواغله الخاصة، أو يشتغل بما يسمعه من المسائل العامة، وهو على انفراد. لأنه لا يجتمع بالمئات والألوف من أقرانه كما يجتمع اليوم طلاب الكليات والجامعات.

أما اليوم فالشاب يتعلم في مدرسة بعد مدرسة حتى يبلغ الخامسة والعشرين أو يجاوزها أحيانًا إلى الثلاثين. فهو يقضي فورة الشباب الأولى في دور التعليم. لا يزاول تجارب الحياة، ولا تثقله تكاليف المسئولية، ولا تتيسر له المعيشة الزوجية قبل إتمام تعليمه، واستعداده للعمل في المجتمع، أو في وظائف الحكومة، ومع خلوِّه من المسئوليات والتجارب التي تضطره إلى التأني والتردد، لا يزال في قلق الشباب مشتركًا مع المئات من أقرانه في مثل هذا القلق، ومثل هذا الخلو من المسئولية، وهذه فرصة سانحة لمن ينشرون دعوات الهدم والفوضى، فإذا استغلوا فرصتهم فهناك أسباب غير العقد النفسية تفسر هذا الاستغلال، أو تفسر موقف الشاب العصري من تلك الدعوات.

وهذا الشاب الذي يتعلم حتى يناهز الثلاثين، يفوق في المعرفة أنداده من أبناء العصور الماضية بلا مراء، ولكنه لا يفوقهم في الخبرة، ولا في المسئولية. لأن الشاب في العصور الماضية إذا بلغ الثلاثين كان صاحب أسرة ومسئولية، وكان قد مارس التجارب عدة سنين، فهو يعوِّض بالتجربة والمسئولية ما فاته من المعارف المدرسية التي يتعلمها الشبان العصريون في هذه الأيام.

على أن المعرفة القليلة كانت كافية للشاب في العصور الماضية؛ لأن المسائل العامة التي تشغله قلما تتخطى حدود قريته أو حدود وطنه، وهي لا تتطلب منه رأيًا جديدًا، أو حلًا جديدًا لمشكلات ذلك الوطن أو تلك القرية.

أما اليوم فأخبار العالم من جميع القارات تصل إلى البيوت في كل قطر وكل بلدة: تصل من طريق الإذاعة، أو من طريق الصحف، أو من طريق الصور المتحركة. فالمعارف الكثيرة التي يتلقاها الشاب العصري في المدرسة لا تكفي لإدراك مشكلات العالم بأسره، ولا تغني في الإحاطة بأسبابها ودواعيها ووجوه النظر فيها، ومنها ما يحتاج إلى دراسة التاريخ الإنساني من أوله، ومنها ما تشتبك فيه معضلات العلم والاقتصاد والسياسة والتشريع، فهو بالنسبة إلى أنداده في العصور الماضية أقل منهم قدرة على فهم مشكلاته وتدبير سلوكه، وإن كان أوفر نصيبًا في الدرس والاطلاع.

وإذا أردنا أن نضرب مثلًا للفرق بينهما، قلنا: إن الشاب في العصور الماضية كان يستضيء بشمعة واحدة ولكنها تنير له مسكنه كله، لأنه كان يسكن في حجرة صغيرة.

أما الشاب العصري فإنه يستضيء بعشرات الشموع، ولكنه لا يزال في الظلام، لأنه يريد أن يضيء منزلا متعدد الغرف والحجرات.

•••

وهناك فارق آخر بين الشاب العصري والشاب في العصور الماضية، يرجع أيضًا إلى اختلاف النظم الاجتماعية والسياسية، ولا يرجع إلى مرض من أمراض النفس المزعومة، ولكنه فارق يؤثر في اختلاف الموقف بينهما من ناحية المذاهب أو الآراء الاجتماعية.

هذا الفارق الكبير هو فارق الحرية في العصور الحديثة.

ففي العصور الماضية كانت سياسة الدول سرًّا من أسرار القصور لا يطلع عليها أحد غير حكام الدول والمقربين إليهم، وإذا اتصل خبر من أخبارها بعامة الناس تلقوه بين التصديق والتكذيب، واغتبطوا بالاطلاع عليه والتحدث فيه، كأنهم قد اطلعوا على نبأ من أنباء العالم الآخر، ولم يكن خبر من هذه الأخبار ينتشر بين الناس في صورة الوقائع العلنية التي يتناولها الكلام الصريح والتعليق المتواتر، سواء كان ذلك الخبر من الأسرار الشخصية الخاصة، أو من أسرار الدولة ومعلومات السياسة العليا كما يقولون في هذه الأيام.

وكان من نتيجة هذا الكتمان الذي يحيط بأعمال الحكام وأحوالهم أن عيوبهم ونقائصهم ظلت مجهولة مشكوكًا فيها، ولم تكن على الأقل موضوع الأحاديث الشائعة في المحافل والبيوت، فاحتفظوا بالهيبة التي تعصمهم من الابتذال، وأحاطت بهم شعائر التوقير التي توجب الثقة والاطمئنان.

أما اليوم — في ظل الحكومات الديمقراطية — فأحوال الحكام معلومة ونقائصهم مشهورة، وهم يتنازعون فيما بينهم، ويجتهد كل فريق منهم في إعلان أخطاء خصومه ومنافسيه، وربما شاع اللغط بشئونهم الخاصة في بعض الصحف أو النشرات التي لا تتورع عن الخوض في هذه الشئون. وكثيرًا ما يحدث أن حكام دولة يحملون على حكام دولة أخرى، ليتهموهم بنقض العهود وتعكير صفو السلام وتهديد العالم بالمنازعات والحروب.

ومن البديهي أن هذه العيوب كانت موجودة في حكام العصور الماضية، وربما كان حكام العصر الحديث خيرًا من أسلافهم في كثير من المزايا والصفات، ولكن الحكام في العصور الماضية كانوا مستورين فكانوا موضع الاحترام والثقة والاطمئنان، أما حكام العصر الحديث فلا تخفى عيوبهم ونقائصهم كما تخفى عيوب الأقدمين ونقائصهم، فلا عجب إذا اجترأ عليهم المجترئون، واستعدت الأسماع دائمًا لقبول الطعن في الحكومات وقبول دعوات التغيير والتبديل؛ بل قبول دعوات الفوضى والانقلاب، وبخاصة إذا كان السامعون خلوا من التجربة، قاصرين عن فهم المقارنة بين الحاضر والماضي، والمقارنة بين الحاضر والمستقبل، مسرعين إلى استجابة كل صوت ينادي بالتغيير، عن جهل منهم بسوء النية وسوء المصير.

واتفقت هذه الفوارق، في جيلين متعاقبين، شهد كل منهما حربًا عالمية عمت جوانب الكرة الأرضية، ديست فيها الحقوق والحرمات، وتخللها ما يتخلل الحروب من شر وفساد واجتراء على الأنفس والأعراض، واختلال في توزيع الثروة بالكسب الحلال أو بالكسب الحرام، ونشأ الأطفال والصبية في هذين الجيلين وآباؤهم مشغولون عنهم في ميادين القتال أو في ميادين السعي والاجتهاد، فلم يشعروا بالوازع الأخلاقي الذي كان الناشئون يشعرون به فيما مضى، وينتفعون به في التأني والتريث قبل الاندفاع فيما يجهلون عقباه.

هذه العوارض كلها ترجع إلى أسباب نظامية أو سياسية لا علاقة لها بالعقد النفسية التي يتردد ذكرها في هذا الزمن، وليس حديثنا اليوم مما يتسع للبحث في علاجها واتقاء أضرارها، لأن البحث في هذا الموضوع مهمة يشترك فيها المصلحون من أقطاب التربية والتشريع والسياسة. وتستلزم النظر في تقدير زمان التعليم ومكانه، والتوفيق بين تحصيل العلم ومسئوليات الحياة البيتية أو الحياة الزوجية، وكل أولئك محل للتأمل والمراجعة وتكرار التجارب في مختلف البيئات والمجتمعات.

إنما أردنا بالإشارة إلى هذه العوامل أن نرجع ببدعة العقد النفسية إلى حدودها المعقولة. فليست كل مشكلة اجتماعية عقدة نفسية في الأمة، وليس كل نزعة طارئة عقدة نفسية في هذا الإنسان أو ذاك، وللمشكلات الكبرى والصغرى أسباب غير العقد النفسية والأمراض النفسية، فما كانت هذه الدنيا مستشفى نعلل كل حادث فيه بالعلل. ونحول كل داخل فيه إلى حجرة الإسعاف. ولكنها دنيا معاش وعمل، قد تطرأ شكاياتها من جانب الصحة كما تطرأ من جانب المرض. والمهم أن نعرف ما نشكوه على حقيقته، لأننا لا نزيل الشكوى ونحن نجهل أسبابها، ومن عرف ماذا يشكو، عرف كيف يطلب السلامة والنجاة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤