العائلة والوطن والدين

العائلة والوطن والدين أقوى الدعائم التي قام عليها بناء الحضارة الإنسانية.

ولو أننا نزعنا من تاريخ الإنسان كل ما استفاده من تكوين العائلة والوطن والدين؛ لما بقي من الإنسان المتحضر أثر، ولعاد الإنسان كرَّة أخرى إلى الهمجية، بل إلى الوحشية، لأن الفارق الأكبر بين أبناء الحضارة وبين الهمج أو الوحوش، هو الألفة بين الإنسان وأهله وإخوته في وطنه، وهو الهداية التي استمدها من شرائع الوطن وآداب الدين.

ومن تعاسة الهدَّامين الداعين إلى الفوضى والفساد أنهم يهدمون كل دعامة من هذه الدعائم، ويزعمون أن الخير كلَّ الخير في نقضها ومحو آثارها وإعلان العداء للماضي بأسره، كأنهم يعلنون العداء على ماضي نوع آخر من الحيوان، غير نوع الإنسان.

ولو كان التقدم الذي يتحدثون به معناه أن يهدم الناس كلَّ ما بنته الإنسانية في غابر عصورها، لوجب أن نلغي ما تعلمناه من صناعاتها في مآكلنا وملابسنا ومساكننا وآلات المعيشة في بيوتنا ومجتمعاتنا، ولكن دعاة الهدم والتخريب لا يجترئون على الدعوة إلى هذه الحماقة، لأن الخراب الذي تؤدي إليه محسوس ملموس لا يقبل الجدل ولا المغالطة، ويخيل إليهم أن الخراب الذي يؤدي إليه هدم العائلة والوطن والعقيدة أهون من ذلك الخراب الذي نحسه ونلمسه، والواقع أن هدم العائلة والوطن والدين أسوأ عاقبة من هدم الأماكن والبيوت.

من العائلة دون غيرها تعلم الإنسان أصول الاجتماع وقواعد الأخلاق وعلاقات التعاون بين العاملين في البيئة الواحدة، وفي كل لغة من لغات العالم شواهد على ذلك تظهر لنا من مراجعة الكلمات التي تدل على الفضائل والصفات المحمودة.

فالرحمة مأخوذة من الرحم وهو القرابة في الأمهات والآباء.

والكرم مأخوذ من الأصل العريق المنزه عن الأخلاط والأوشاب.

والحرية أيضًا تفيد هذا المعنى بعينه، فيطلق وصف الحر على النسب الخالص من الهجنة والعبودية.

والعزة تطلق على الأسرة التي لا تغلب لكثرتها، «وإنما العزة للكاثر»، كما قال الشاعر المعتز بقبيلته وقومه.

والشيخ والكبير والرئيس هي كلها كلمات كانت تطلق على الأب الذي تقدم في السن، ثم أطلقت على كل متقدم في جماعة من الجماعات، حتى أطلقت على الحكيم الفيلسوف، كما سمي ابن سينا بالشيخ الرئيس.

وإلى العائلة يرجع الفضل في حفظ كثير من الصناعات التي توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد.

وإلى العائلة يرجع الفضل في عمل العاملين للمستقبل، وسعي الإنسان لما بعد حياته.

وعيب العائلة في رأي دعاة الهدم والفوضى أنها تحرض الآباء والأمهات على توريث الأبناء والبنات، وقد يكون في نظام التوريث عيب كبير أو صغير لا يستحيل إصلاحه بالقوانين وآداب الاجتماع. أما المستحيل قطعًا فهو إلغاء الوراثة من قوانين الطبيعة. فإن الأب يورث ابنه الحميد والذميم من أخلاقه، ويورثه القوي والضعيف من وظائف بنيته، ويورثه الصحيح والسقيم من طباعه وأعضائه، ويورثه الجميل والقبيح من ملامحه وقسمات وجهه، وليس من حق المجتمع أن يحرم الولد كل ميراثه من مال أبيه إذا كان المجتمع عاجزًا عن حماية هذا الولد من وراثة الضعف والقبح وسوء الاستعداد، بل ليس من مصلحة المجتمع أن يسوي بين الرجل الذي يعمل للغد، والرجل الذي يعمل لساعته والرجل الذي يتواكل ويتوانى ولا يعمل لغده ولا لساعته، لأنه قانع بالعيش من معونة المجتمع وفضل إحسانه.

إن الهدامين المخربين سريعون إلى الهدم والتخريب لغير سبب يقنع أحدًا ممن يكرهون الهدم والتخريب، ولولا شهوة الخراب في نفوسهم الممسوخة لما تهجموا على نظام الأسرة ذلك التهجم الذي لا يقنع أحدًا بهدم جحر من جحور الحشرات، على أن التهجم في دعوتهم إلى هدم الوطن أغرب من هذا التهجم على هدم العائلة، لأن التدبير العالم بغير أوطان مستحيل، أما تدبير المجتمع بغير عائلة فقد يتيسر إلى حين.

فما من وطن من الأوطان يزرع كل ما يحتاج إليه أو يخرج من المعادن كل ما يستخدمه في صناعاته، وما من حكومة تستطيع أن تنفرد في مكان واحد بتنظيم المحصولات والمصنوعات على حسب الحاجة في كل وطن على حدة، وما من حكومة تستطيع أن تنفرد في مكان واحد بتنظيم مواصلات البر والبحر والهواء على حسب المواعيد التي توافق جميع الأقطار والأنحاء، فلا غنى في نهاية الأمر عن الإدارة الوطنية، ولا غنى عن استقلال كل وطن بشئونه، ثم اشتراك جميع الأوطان في الشئون العالمية، وكلما اتسع العالم تعددت فيه جوانب التخصص، ووجب أن يختص فريق من الناس بجانب من هذه الجوانب. فلماذا نهدم الأوطان ونحن أحوج إليها في هذا الزمن الذي شاع فيه التخصص وتوزيع الأعمال؟

يقول دعاة الهدم والفوضى: إن الوطن للغني وحده وإنه لا وطن للفقير، ويقولون: إن الغرض من قوة الوطن هو حماية الدولة التي يسيطر عليها الأغنياء.

ولم ينكر أحد أن الأغنياء يطمعون وأن الفقراء يهانون، ولم يقل دعاة الهدم والفوضى في اتهام الأغنياء إلا بعض ما قالته كتب الدين، ومنه: إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، ومنه: إن دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الغني إلى ملكوت السماوات.

لم ينكر أحد هذا، ولم يقل دعاة الهدم والفوضى إلا بعض هذا، ولكن الذي ننكره ولا ينكره أعداء الهدم والفوضى هو تقبيح الوطنية على إطلاقها وإقامة هذه العلاقة الإنسانية، وكل علاقة غيرها على أساس واحد هو أساس الفلوس، وتوزيع الفلوس.

إن في نفوس الناس شيئًا، بل أشياء جمة لا تحكمها هذه الفلوس، ومنها الغيرة الوطنية الصادقة التي تعلموا منها دروس التضحية والنخوة، وهانت عليهم أرواحهم وأرواح أبنائهم في سبيلها، وليس تاريخ الإنسانية تاريخ بنك أو شركة تجارية حتى نرجع بأطوار الإنسانية جميعًا إلى توزيع الأسهم والأرباح وتدبير الحصص وأساليب الاستغلال، ولو كان المال وحده كافيًا لخلق الأوطان وإقناع الناس بالتضحية لما كانت هناك حاجة — مع وجود المال — إلى الإيمان بشيء من الأشياء، ولا احتاج الشيوعيون أنفسهم إلى تسمية الحرب العالمية بالحرب الوطنية، بعد أن جربوا حفز الهمم بمذهبهم المميت فتخاذلت في ساعة الشدة والفداء.

كلا. ليس تاريخ الأوطان تاريخ بنك ولا شركة، وإنما نرجع إلى تاريخ الأوطان فنعلم يقينًا أنها تقوى وتزدهر بمقدار ما في النفوس من الشجاعة والإقدام والتضحية والصبر على الشدائد والشغف بالمعرفة والجمال، وإنما تزول الأوطان أو تقترب من الزوال كلما استسلمت للغنى والثروة وغلب فيها النزف والمتاع على الفضيلة والثبات؛ تزول أو تقترب من الزوال كلما طغى فيها طمع المال على الشجاعة وقوة الأخلاق.

ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الوطنية تقترن بكثير من الشرور والأخطاء، ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الحياة نفسها ما خلت قط، ولن تخلو أبدًا من شرورها وأخطائها، ولكن من السخف واللغو أن نحكم من أجل هذا بإلغاء الحياة أو إلغاء الوطنية، وأن نعتقد لحظة واحدة أن النظام الذي نستبدله بالوطنية سيأتي إلينا معصومًا من كل نقص مبرأً من كل عيب.

يخطر لي أحيانًا أن أسأل نفسي: ترى لو هبط على الكرة الأرضية نوع من الأحياء عدو للنوع الإنساني منطو على حب النكاية به وتحقير أعماله وآثاره — ماذا يقول عن تاريخ البشر فيما مضى غير ما يقوله الشيوعيون ودعاة الهدم والفوضى على العموم؟ وبأي أسلوب يعبر عن حقده وضغينته على الأجيال الماضية غير الأسلوب الذي يعبر به الشيوعيون عما يسمونه تارة بالفروسية وتارة بالبرجوازية، وتارة برأس المال، وينسون أنهم يطلقون هذه الأسماء على نوع الإنسان الذي ينتسبون إليه؟

يكفي هذا السؤال ليعلم السائل والمجيب أنه يواجه أعداء الإنسانية حقًّا حين يواجه دعاة الهدم والفوضى، وأنهم لو كانوا نوعًا غريبًا طارئًا على الكرة الأرضية، لما كان تصويرهم للإنسانية أقبح من هذا التصوير. فهم يحكمون على الإنسانية حكم الأعداء على الأعداء ويعاملونها معاملة الخصوم البغضاء في ميادين القتال، ويتعقبون كل أثر من آثارها كأنهم يكرهون أن يبقى لها أثر أو يتخلف منها تراث مذكور، فلا جرم يستديرون إلى العقائد والأديان ليبطلوها أصلًا وفصلًا، كما استداروا على العائلة لتمزيقها وعلى الوطن لازدرائه وتدنيسه، وحسبهم من العقائد والأديان أنها تراث إنساني ماض لتستحق منهم أن ينقلبوا عليها بالمقت والتفنيد والإلغاء.

ونعود فنقول: إن اشتمال العقائد الإنسانية في العصور الماضية على الخرافات والأباطيل أمر مفروغ منه بين المتدينين أنفسهم فضلًا عن غير المتدينين، ولكننا نسأل عن ألزم اللوازم الجسدية للأحياء وهو الطعام: هل خلا طعام الناس قط في الزمن الحاضر أو الغابر من الفاسد والضار، ومن الغث والتافه الذي لا يفيد؟ هل عرف الناس حتى اليوم حقائق الهضم وأصول التغذية؟ هل ينسون شهوات الذوق والطعم التي تعود عليهم بالوبال؟

إن سوء التغذية مشكلة الساعة في جميع الأيام وبين جميع الطبقات، ولم يقل أحد من أجل هذا إن الطعام باطل أصلًا وفصلًا، وإن الإنسانية ينبغي في المستقبل أن تكف عن طلب الغذاء. فمن السخف واللغو أن يقال: إن الضمير الإنساني يكف عن الاعتقاد لأن بعض العقائد ممتزج بالخرافات والأباطيل، وليست المسألة في طعام الجسد ولا في طعام الروح أن هناك أطعمة فاسدة وشهوات جامحة، وإنما المسألة أن هناك معدة تطلب غذاء الجسد، وأن هناك ضميرًا يطلب غذاء الروح.

وإذا جازت المقارنة بين خرافة وخرافة فدعاة الهدم والفوضى هم الخاسرون في هذه المقارنة. لأن المتدينين الذين يؤمنون برب أعظم من الإنسان معذورون إذا نسبوا إليه الخوارق والمعجزات. أما غير المعذورين وغير المعقولين فهم الذين يؤمنون بمذهب إنسان من بني آدم وحواء ويصدقون أنه قد نقض تاريخ العالم فيما مضى وقرر للعالم تاريخًا لما يأتي من الزمن، وكذلك يؤمنون بكارل ماركس ومن نحا منحاه.

•••

إن تاريخ الإنسانية هو تاريخنا، وليس تاريخًا لنوع آخر نعاديه ويعادينا، ومن الحق له علينا أن نتردد طويلًا قبل هدمه وتقويضه، ولو قامت الحجة القوية عليه وتواترت الأدلة على نقضه. فربما كان الخطأ في الحجة، أو كان التأني خيرًا من العجلة، ولكن الهدامين المخربين ينظرون إلى تاريخ الإنسانية كأنه تاريخ أعداء ألداء يتعقبونهم في ميادين القتال. فالهدم عندهم هو الأصل، والعفو أو الإعفاء هو الاستثناء، ولم يكن تعجلهم إلى هدم نظام العائلة ودك قواعد الوطن وتدنيس حرمات الدين منبعثًا من قوة الحجة، بل من سهولة الهدم والتخريب على بعض الطبائع المبتلاة بالمسخ والتشويه، وستزول هذه الغاشية، وتتحطم معاول الهدم في أيدي ذويها، فليس للهدامين حظ من النجاح الدائم ما دام للإنسانية بناء قائم وأجل ممدود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤