الحرية والإذاعة

نعني بالإذاعة كل وسيلة من وسائل النشر على اختلافها، ومنها — بل أهمها بالبداهة — وسيلة الإذاعة اللاسلكية أو الأثيرية التي تسمعونها الآن.

فهل هناك علاقة وثيقة بين الحرية والإذاعة على اختلافها؟

الجواب السريع نعم، والجواب بعد طول الروية والأناة نعم أيضًا. لأن العلاقة وثيقة بين الاستبداد والحجر على الأقوال والأفكار والحرص على التستر والكتمان، وبقدر الصلة بين الاستبداد والكتمان تكون الصلة بين الحرية وإذاعة الأخبار والأفكار.

وفي وسعنا أن نراجع تاريخ الإنسانية منذ القدم، فنرى أن كل خطوة في طريق الإذاعة كانت كذلك خطوة في طريق الحرية، كأن الحرية والإذاعة مظهران متلازمان لحركة واحدة من حركات التطور والارتقاء.

كان الكتمان شديدًا يوم كان الاستبداد شديدًا في العصور الأولى، فكانت الكهانة السرية تتسلط على ضمائر الناس من طريق العقيدة الدينية، وكانت السياسة في جملتها سرًّا من أسرار الملوك والحكام، وقد يتفق أحيانًا أن يجتمع سر الكهانة وسر الدولة عند شخص واحد، بل يتفق أحيانًا أن يكون السيد الحاكم إلهًا يعبده المحكومون، ولا يسألونه عن صنيعه بهم وبالدولة، لأنه سر يعنيه وحده ولا يجوز لهم أن يعرفوه.

ولم يزل هذا شأن الناس في حريتهم الدينية وحريتهم السياسية حتى ظهرت أول وسيلة من وسائل التسجيل والإذاعة، وهي الكتابة على الورق. فازداد نصيبهم من الحرية بمقدار نصيبهم من الكتابة، واطردت هذه الزيادة جيلًا بعد جيل.

إلا أن هذه الوسيلة — وسيلة الكتابة — كانت محدودة الأثر عند نشأتها الأولى — وظلت محدودة الأثر زمنًا طويلًا من فجر التاريخ إلى العصور التاريخية المعروفة. لأن الكتابة كانت محصورة بين عدد قليل من المحكومين بالنسبة إلى الأميين، ولأن الكتابة كانت في تلك الأزمنة تنقسم إلى طريقتين: طريقة الكتابة المقدسة، أو الكتابة الرسمية، وأكثرها ألغاز ورموز لا يفقهها غير النخبة المعدودة من الكهان والحكام، وطريقة الكتابة العامة، وهي الطريقة المباحة لسائر الطبقات والأفراد، فلم تكن معرفة الكتابة العامة من وسائل الاطلاع على الأسرار والخفايا، وظلت هذه الأسرار والخفايا محجوبة عن الأمم حتى شاع فيها الإيمان بالأديان الكتابية، فارتفع الحجاب عن كثير من المؤمنين بهذه الأديان.

على أن الشعوب التي عرفت طريقة للنشر والإذاعة غير الكتابة كانت تنعم بنصيب من الحرية أكبر وأوسع من نصيب الأمم التي عولت على الكتابة وحدها، فكانت قبائل العرب تحفظ القصائد الشعرية المنظومة في المسائل العامة، وكانت — مع انتشار الأمية بينها — تملك حريتها ولا تخضع لسلطان غير سلطان العرف والعادة الذي يخضع له كبارها وصغارها، وكذلك كانت قبائل أخرى كقبائل اليونان في أوروبة، فأخذت من الحرية بمقدار ما أخذت من الإذاعة، وقل فيها الاستبداد بمقدار ما قل فيها الحجر على الأخبار والأقوال.

وتمضي الشعوب الإنسانية على هذا النهج عدة قرون: خطوة في طريق الإذاعة تقترن بها خطوة في سبيل الحرية، حتى ظهرت المطبعة في القرن الخامس عشر، وهي أقوى وسيلة من وسائل النشر بعد اختراع الكتابة على الورق. فإذا بالخطوات في سبيل الإذاعة والحرية تتلاحق سراعًا تباعًا، وتتحطم أمامها حواجز الاستبداد حاجزًا بعد حاجز، فلم ينقض قرن واحد حتى عمت الدعوة إلى إصلاح الحكومة تارة مع الثورة الإنجليزية وتارة مع الثورة الفرنسية. وعجل ابتداع الصحافة بحركة الإصلاح فأصبح انتشارها بين الشعوب مقياسًا لانتشار الحرية فيها، وشوهدت هذه الظاهرة الشاملة — ظاهرة اقتران الإذاعة بالحرية — على نحو لم يسبق له مثال في الأزمنة الماضية. فبلغ الناس من حرية القول والفكر في مائة سنة ما لم يبلغوه من قبل في عدة مئات.

كانت «السرية» أو الكتمان الشديد مبدأ متفقًا عليه معترفًا به في السياسة الدولية، وكانت الشعوب من جانبها تسلم هذا المبدأ ولا تطالب الساسة بشيء من الإعلان والصراحة فيما يجري بينهم من المخاطبات أو الاتفاقات، ودامت الحال على ذلك خلال القرن التاسع عشر إلى مقربة من منتهاه، ولكن هذا المبدأ المتفق عليه لم يلبث أن تزعزع من شتى الجوانب بعد انتشار الصحف وإقبال الجماهير على مطالعتها، تزعزع هذا المبدأ من جهة لأن الصحف كانت تتسابق إلى التقاط الأخبار الخفية واستنباط الحقائق المكتومة، فأصبح من المتعذر على الساسة أن يكتموا خبرًا من الأخبار ويحافظوا على كتمانه إلى زمن طويل، ثم تزعزع مبدأ السرية لسبب آخر أهم من هذا وأعمق في آثاره ونتائجه، وهو اشتراك الجماهير في معالجة الشئون الدولية والوقوف على خباياها، فانتهى العهد الذي كانت فيه سياسة الدول حكرًا في أيدي الساسة يصرفونه كما يصرفون مصالحهم الشخصية وأعمالهم الخاصة، وأحس هؤلاء الساسة بالحاجة إلى إفهام الجماهير وإقناعها بصواب الخطط السياسية التي يفرضونها عليهم، وقد ينتهي بعضها إلى إقحام الأمم في الحروب وتحميلها نفقات القتال، فلا أقل من إقناعها بضرورة هذه المخاطر ولزوم تلك النفقات.

لقد كانت الصحافة خطوة واسعة إلى قبلة الحرية؛ لأنها هي خطوة واسعة من خطى النشر والإذاعة.

لكن الإذاعة الصحفية من الوسائل التي تخضع لسيطرة الحكومات المستبدة. ففي وسع الحاكم المستبد أن يفرض الرقابة عليها داخل بلاده، وأن يمنع الصحف الخارجية أن تصل إلى رعاياه، فيبطل حقوق الحرية التي تقترن بالإذاعة الصحفية، وقد حدث ذلك غير مرة في العصر الأخير.

ويبدو من تطور الأحداث التاريخية أنها تتجه إلى وجهة الحرية والنشر، وتستعصي على الحجر والتقييد. فلم يبدأ القرن العشرون حتى أقبل على العالم بوسيلة جديدة من وسائل الإذاعة، وهي هذه الإذاعة الأثيرية. والنسبة بينها وبين الصحافة في النشر، كالنسبة بين المطبعة ونقل الكتابة بالنسخ والرواية. فهي أقوى من الإذاعة الصحفية وأعسر منها على من يحاول تقييدها، ولا سيما التقييد الذي يحتاج إلى الاتفاق بين عدة حكومات أو عدة بلاد.

إن الإذاعة الأثيرية أقوى من الإذاعة الصحفية، لأسباب متعددة.

من هذه الأسباب أنها أسرع انتقالًا بين جوانب الكرة الأرضية، فهي لا تنتظر البريد ولا تتوقف على السفر بالسفن أو الطيارات.

ومن هذه الأسباب أنها تصل إلى من يعرف الكتابة ومن لا يعرفها، فلا حاجة بالسامع إلى أكثر من إدارة المفتاح إلى الصوت في اللغة التي يفهمها، وقد تصل إليه الأخبار والأحاديث بعدة لغات.

ومن هذه الأسباب أن جهاز الإذاعة يوضع في البيوت والحجرات حيث تعجز الرقابة الحكومية عن الوصول إلى مستمعيه، فلا يتأتى منع الأخبار التي تتسرب من خارج البلاد، ولو كانت الحكومة القائمة تقاومها وتحجر على جمهرة المستمعين أن تصغي إليها.

ومن المفهوم أن الحجر على الإذاعة الأثيرية ليس بالأمر المستحيل، ولكنه — إذا أمكن — فهو ممكن بصعوبة شديدة بالغة في الشدة، ممكن حين تلجأ الحكومات المستبدة إلى إطلاق الجواسيس والعيون في كل بيت وفي كل مسكن. وممكن حين تعمد الحكومات المستبدة إلى تسخير الابن في التجسس على أبيه وأمه، وتسخير الزميل في التجسس على زميله. ومتى اضطرت الحكومة المستبدة إلى ذلك فهي في مأزق وعر لا تقوى حكومة من حكومات هذا الزمن على الثبات فيه، مأزق يكلفها الكثير من المال، ويكلفها الكثير من الأعوان والأتباع، ويكلفها الكثير من أساليب الخداع والإقناع، ويرهقها كما يرهق رعاياها بالجهد المضني والنفقة الثقيلة، والحجر على الحركات الاجتماعية والفردية، وليس الحكم على هذه الأوضاع الشاذة مما يطيقه الحاكم أو المحكوم فترة طويلة من الزمن، فلا مناص له من التعثر والإعياء ثم الزوال القريب.

ومن أساليب الحجر على الإذاعة التي تتبع في البلاد الشيوعية أن تفرض على الشعب أجهزة مقصورة على نقل الإذاعات المحلية دون غيرها، وهنا يسوء الظن بجميع الأخبار المذاعة حتى يتساوى الصدق والكذب عند سامعيها، وهي حالة مريبة لا تحمد مغبتها طويلًا إذا أمكن أن يحمدها الشعب بعض حين.

من هذا العرض التاريخي السريع يبدو لنا أن كل خطوة في سبيل النشر والإذاعة تقترن بخطوة مثلها في سبيل الحرية، ومعرفة الحقوق الإنسانية، وأن الخطوة هنا على قدر الخطوة هناك، وأننا قد خطونا في عصر الإذاعة الأثيرية أوسع هذه الخطى وأصعبها على المراقبة والتقييد، فإن لم يكن الحجر عليها مستحيلًا فهو من أشق الممكنات وأعسرها على المستبدين، ولن يصبر الحاكم المستبد طويلًا على هذه المشقة حتى تسومه ما لا طاقة به من ضروب الحيرة وعوامل العجز والإخفاق.

ولو كان عمل النشر والإذاعة مقصورًا على هذا لكان عملًا قوي الأثر في تعميم الحرية ومقاومة السلطة المستبدة، ولكنه في الواقع يخدم الحرية في نطاق أوسع من هذا النطاق: يخدمها لأنه يعود الناس أن يسمعوا الرأي ونقيضه ويقابلوا بين الخبر وما يخالفه أو يدحضه وينفيه، وإنما تضيق صدور الناس إذا تعودت أن تسمع من جانب واحد وتتجه إلى وجهة واحدة. فإذا تعودت السماع من جوانب شتى فقد تعودت السماحة في الرأي والصبر على المخالفة وراضت النفس على حرية الموافقة والمعارضة، فعاشت في جو من الطلاقة يتسع لمختلف الآراء.

إن في عصرنا هذا كثيرًا من نذر الشر والبلاء، فإذا أردنا أن نقابلها ببشائر الخير ففي طليعتها أننا نعيش في عصر النشر والإذاعة، وهو مقدمة لا غنى عنها لعصر الحرية والسماحة. فقلما يدوم الاستبداد حيث تتفتح الأسماع، وتتفتح معها الأبصار والأفكار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤