الفصل الثالث

نمو الطفل العقلي وتكوين شخصيته

(١) أهمية دراسة الطفولة

لم تُدْرَس الطفولة دراسة سيكولوجية منظَّمة إلا ابتداءً من النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وكان الدافع الرئيسي إلى دراستها إنشاء نُظُم جديدة للتربية تحترم خصائص الطفولة وتهيئ لها الجو الملائم لازدهارها، وقد أقام بستالوتزي وهربارت وفرويبل نُظُمهم الجديدة في التربية الحرة على ملاحظات دقيقة لسلوك الطفل وأطوار نموه، ثم سكنت هذه الحركة في النصف الأول من القرن التاسع عشر حتى استؤنفت بدراسات تين في فرنسا (١٨٧٦) ودروين في إنجلترا (١٨٧٧)، وخاصة ولهلم بريير في ألمانيا الذي نشر سنة ١٨٨١م كتابه المشهور عن عقل الطفل وترقِّي سلوكه في السنوات الثلاث الأولى، واحتذى حذو بريير علماء أمريكيون أمثال شن ومور وديربورن فنشروا ملاحظاتهم اليومية عن النمو الحركي والعقلي في الطفولة الأولى.

غير أن الدراسات التي تتناول سيكولوجية الطفل من جميع نواحيها لم تتسع دائرتها إلا في القرن العشرين، وأصبحت الطفولة تُدْرَس لذاتها كموضوع هام من موضوعات علم النفس العام، فتكوَّن علم نفس الطفل بجانب علم النفس التربوي، ومن البديهي أن يعتمد الثاني على الأول كما تعتمد الفنون التطبيقية على العلم النظري، وقد أدت دراسات واطسون وجيزل وسوزان أيزكس وفالون وجييوم وشترن وكارل بوهلر وشارلوت بوهلر وكلاباريد وبياجيه إلى توسيع آفاق علم النفس العام وتعديل بعض أساليبه، وإعادة النظر في كثير من النتائج التي وصل إليها علماء النفس والفلاسفة عن طريقة المشاهدة الذاتية أو ملاحظة الإنسان البالغ، فقد أبرزت دراسة الطفل قيمة المنهج الموضوعي أو منهج الملاحظة الخارجية الدقيقة لجميع مظاهر السلوك، وطُبق هذا المنهج بنجاح عظيم في دراسة البالغين عامة ودراسة البدائيين والمصابين بأمراض عقلية.

وفضلًا عن الكسب المنهجي فقد ألقت دراسات الطفولة ضوءًا جديدًا على مشكلة أصل المعرفة وقيمتها ومشكلة صلة اللغة بالفكر، كما أدت المقارنة بين الحيوانات والطفل إلى تحديد طبيعة العقل الإنساني وتمييزه جوهريًّا من عقل الحيوان، والواقع أن جميع الوظائف العقلية من وجدانية وإدراكية وإرادية حُلِّلَت تحليلًا دقيقًا خلال الدراسات السيكولوجية الخاصة بالطفل؛ لأن عملية النمو نفسها هي بمثابة تحليل وتأليف في آن واحد، وتحقق للعالِم ظروفًا ملائمة لتتبع نشوء الوظائف من أبسط صورها إلى أعقدها حتى تتكامل جميعها في حياة البالغ السوي.

ولسنا في حاجة إلى بيان ما أفادته التربية من علم نفس الطفل وما يمكن أن تفيده؛ لأن التطبيق السليم المنتج يكون بمقدار قيمة الحقائق العلمية، فالتربية بما تشمله من مناهج تعليمية تعتمد على أساسين: دراسة شخصية الطفل كعملية تسير باطراد نحو تكامل مقوماتها، ثم دراسة عملية التعلم وتكوين العادات، وقد خطت دراسة هذين الموضوعين خطوات واسعة بفضل علم نفس الطفل.

ومن الوجهة التطبيقية أيضًا يجدر بنا أن نشير إلى فروع جديدة من علم النفس العملي تمتد جذورها إلى علم نفس الطفل كاختبارات الذكاء والشخصية والتوجيه المهني والصحة العقلية.

وسنحاول فيما يلي أن نقدِّم بإيجاز أهم النتائج التي وصل إليها علم النفس الحديث فيما يختص بنمو الطفل العقلي وتكوين شخصيته.

(٢) النمو العقلي في الطفولة الأولى واكتساب اللغة

تقسَّم الطفولة إلى ثلاث مراحل رئيسية: الأولى من الولادة إلى سن ثلاث سنوات، والثانية من سن ثلاث سنوات إلى حوالي الثامنة، والثالثة تنتهي عند بدء المراهقة، ويفصل بين هذه المراحل تغير واضح في النمو العقلي وفي تكوين الشخصية.

فعند انتهاء السنة الثالثة تحدث أزمة الشخصية الأولى١ التي تظهر خلالها مقدرة الطفل على أن يميِّز ذاته عن الآخرين.

وعند مطلع السنة التاسعة تقْوَى مدارك الطفل بحيث يتمكَّن من فهم المعنويات ويصبح قادرًا على تقبُّل منطق الكبار وعلى التعاون الاجتماعي.

ويمكن تقسيم كل مرحلة رئيسية إلى مراحل فرعية وخاصة، المرحلة الأولى لأنها تمتاز بسرعة النمو الجسمي والعقلي وبظهور عدد كبير من الوظائف الهامة، ومن أساليب السلوك المختلفة التي ستتضح وتنضج في مراحل النمو التالية الموصلة إلى مطلع الشباب.

وسنقتصر الآن على أطوار المرحلة الأولى لغزارة مادتها وعظيم دلالتها.

اعتمدنا في تقسيم مراحل الطفولة إلى ثلاث على سير النمو العقلي عامة، ويمكن اصطناع تقسيمات أخرى لو اعتبرنا مثلًا مراحل تكوين شعور الطفل بذاته أو مراحل الترقي الاجتماعي أو النمو الوجداني، وسنشير إلى بعض هذه التقسيمات عند حديثنا عن تطوُّر الميل الجنسي ومراحل تكوين الشخصية الذاتية.

وإذا أردنا أن نتخذ دليلًا واحدًا لتقسيم المرحلة الأولى التي تمتد من الولادة إلى ثلاث سنوات لَتعذَّر علينا الأمر، إذ إننا نشاهد النمو يسير بسرعة فائقة متناولًا النشاط الحركي والنشاط الحسي ومظاهر الانفعالات وبزوغ التصور الذهني واكتساب اللغة وأساليب الاستجابات الاجتماعية التي تختلف باختلاف الوسط، فضلًا عن أن هناك عمليات متوازية متآزرة تندمج حينًا وتنفصل حينًا آخر بحيث لا مناص من التحليل الدقيق؛ للوقوف على تشعُّب النشاط وتعدد مظاهره مع مراعاة التمييز دون أن يؤدي التمييز إلى العزل والتفكيك.

ويجب أن نلاحظ أنه من الخطأ أن نعلل مظاهر السلوك في السنوات الأولى كوقائع مستقلة دون الإشارة إلى الدور الذي تؤديه هذه المظاهرة في تحقيق الغرض الذي يتجه إليه النمو؛ وعلى ذلك تكون المراحل الفرعية التي يمكن تحديدها بمثابة خطوات مؤدية إلى اكتمال الوظائف الحركية والعقلية، ويمكن تقسيم المرحلة الأولى الرئيسية التي تبدأ بالولادة حتى مطلع السنة الرابعة إلى المراحل الفرعية الآتية: أولًا من الولادة إلى انتهاء الأسبوع الثاني، ثانيًا من الأسبوع الثالث إلى الشهر السادس، ثالثًا من الشهر السادس إلى آخر السنة الأولى، وأخيرًا السنتان الثانية والثالثة.

ففي الأسبوعين الأولين تكون حياة المولود الحديث مقصورة على بعض الحركات المنعكسة وعلى استجابات حركية عامة وغير واضحة وغير متآزرة لا ترمي إلى غرض معين، فضلًا عن أن المولود الحديث يقضي حوالي عشرين ساعة في النوم.

أما المرحلة التي تنتهي عند الشهر السادس فتمتاز بتلاشي النشاط المنعكس وظهور القدرة على توجيه بعض الحركات وترابطها كحركات اليد والعينين، وفي خلال السنة الأولى تستمر عملية نضوج بعض المراكز العصبية الحركية وخاصة جهاز الحركة الإرادية.

وهناك تغيُّر هام يحدث في أواخر الشهر الأول وهو قابلية المولود الحديث للتأثر بالبيئة الخارجية ومحاولة التكيُّف لها، ففي الشهر الثاني تظهر الابتسامة كاستجابة اجتماعية لا كمجرد فعل منعكس، كما تظهر الاستجابات التكيفية لكل ما له اتصال مباشر بحاجات الطفل وإرضائها كالأم مثلًا.

ويتقدَّم النشاط الحسي والحركي بظهور قدرة الطفل على تغيير أوضاع الرأس والجسم ومتابعة الأشياء المتحركة بنظره في حدود ضيقة أولًا، ثم يتسع مجاله الإدراكي كلما زادت قدرته الحركية، وتؤدي الحركة دورًا هامًّا في تمكين الطفل من إدراك الأشياء متميزة بعد أن كان يدرك مجموعات الأشياء بطريقة مبهَمة، وأولى الأشياء التي تتميَّز في إدراك الطفل هي التي تمتُّ بصلة ما إلى حاجاته العضوية ودوافعه الوجدانية.

وتزداد قدرة الطفل على الحركات الإرادية في النصف الثاني من السنة الأولى، وظهور القدرة على المشي دليل على نضوج الطرق العصبية للحركة الإرادية.

ويتم إدراك الطفل للمكان على ثلاث مراحل، وتتكون المرحلة الأولى بما يُعرَف بالمكان العملي، وهو المكان الفمي الذي يتعرَّفه الرضيع عمليًّا بتكرار تنبيه المنطقة الفمية أثناء الرضاعة، وهذه المعرفة العملية البحتة المدرجة في النشاط الحركي هي البادرة الأولى للسلوك من الوجهة السيكولوجية، فما دامت استجابات الطفل الحركية لا تحقق سوى التكيف العضوي فهي لا تخرج عن دائرة السلوك البيولوجي، أما السلوك بمعناه السيكولوجي فلا تظهر بوادره إلا عندما يستخدم الرضيع أفعاله المنعكسة، لا لإرضاء حاجاته العضوية بل كوسيلة لاستطلاع العالم الخارجي.

وتلي مرحلة المكان العملي مرحلة المكان الذاتي، ثم أخيرًا مرحلة المكان الموضوعي، والمرحلتان الأخيرتان لا يمكن أن تتمَّا إلا إذا انتقل الرضيع من مستوى النشاط الحسي العشوائي المتقطع إلى مستوى النشاط الإدراكي، وعملية الإدراك الموجهة نحو العالم الخارجي تتضمن في جوهرها العلاقة بين الطفل والشيء الخارجي، أي بين الذات والموضوع، بين المدرِك والمدرَك، ففي الأشهر الأولى تكون حالة الرضيع من الوجهة الإدراكية حالة فوضى وغموض وتشتُّت، فهو يحس بحاجاته العضوية وتصدر عنه أرجاع حركية نتيجة لاختلال التوازن العضوي، فتستجيب البيئة لهذه الأرجاع لإعادة التوازن العضوي بإرضاء الحاجة، وبعد إرضائها يستولي النوم على الطفل مما يؤدي إلى إمحاء أثر الحادث الذي حقق إرضاء الحاجة، فالموضوع والذات لا يزالان في حالة خلط وعدم تمايز، وعندما يتم التمايز بينهما تدريجيًّا يظلان متممين أحدهما للآخر، فنحن هنا بصدد عملية تمييز لا عملية فصل، وعندما تتجمَّع الإحساسات وتعود متجمعة يصبح في إمكان الرضيع أن يستدل على المجموعة كلها بإحساس واحد، ومن شأن البصر واللمس وسائر الحواس أن تثبت شكل الشيء، ومن ثنايا الفوضى الحسية الأولى تبزغ مجموعات معينة من الكيفيات الحسية يتعرفها الطفل؛ لأنها تثير لديه استجابات حركية متشابهة، وعندئذٍ يظهر بناء سلوكي جديد هو بمثابة صورة تخطيطية تسمح بتقريب الوحدات المتشابهة وتمثيلها، غير أن هذه الصور التخطيطية ليست بعد موضوعات حقيقية، إذ لا يتكون الموضوع في ذهن الطفل إلا إذا أدرك بقاء الموضوع من جهة، وإمكان احتلاله مواضع مختلفة في المكان من جهة أخرى.

وتبرز صفة البقاء من التجارب التي يقوم بها الطفل في الشهر السادس بمناسبة معرفته لجسمه، ويؤدي الجسم دورًا هامًّا في عملية نمو الوظيفة الإدراكية، إذ إن الجسم هو الشيء الذي يلازم الطفل باستمرار، هو الشيء الذي يجده الطفل دائمًا في متناول يده، هو أيضًا ما يسمح له بأن يؤثر فيما يحيط به وبأن يغير من معالم هذا المحيط، فتحريك الذراعين يسبب له لذة وفي آن واحد يسمح له بأن يؤثِّر في العالم الخارجي، فهو يختبر نفسه كأنه عامل تغيير، وفي الوقت نفسه يحس بأنه بقاء واستمرار، وعندئذٍ تظهر الخطوط الأولى للذات.

والصفات التي كانت تُنسَب إلى الذات عن طريق معرفة الجسم ستنعكس على الموضوع، ويستمر هذا التفاعل بين الذات والموضوع حتى يصل الطفل في أواخر السنة الأولى إلى إدراك أشياء مميزة واضحة، تتصف بالوجود حتى إن لم تكن الأشياء في مجال الإبصار، أي أن الأشياء تصبح متصفة بصفة الدوام والبقاء، ويمكن أن نلمح عند هذه اللحظة بدء اتساع مجال التذكر المباشر.

أما الصفة الثانية للأشياء وهي وضعها في المكان وبالقياس إلى بعضها بعضًا فتتحقق بين الشهر السادس والخامس عشر، فحتى الشهر الخامس يتعلم الطفل بطريقة عملية معنى حدوث شيئين في آن واحد، أي معنى التآني مثل حركة اللسان في أثناء الرضاعة والنشاط البصري، فهو يدرك نوعًا من المكان العملي، هو بمثابة حركة يقوم بها كما سبق أن ذكرنا، وفي الشهر السادس يعيِّن الطفل مكان الأشياء بالقياس إلى وضعه هو، فما رآه إلى يمينه يبحث عنه في اتجاه اليمين، فوضع الشيء مرتبط بوضع الطفل، هو ضرب من المكان الذاتي.

وفي الشهر العاشر ينفصل وضع الشيء عن وضع الجسم، وعندئذٍ يظهر المكان الموضوعي، فيبدأ الطفل يهتم بالأشكال ويختبر صفات الأشياء، فيقوم بتحريك الأشياء بعيدًا عنه أو يجذبها نحوه، يأخذ يميز بين الأحجام وبين جوانب الشيء ووجوهه، وعند حوالي الشهر الخامس عشر تتسع معرفة الطفل للمكان فتشمل الأبعاد وذلك بفضل قدرته على المشي وعلى الانتقال في المكان بمفرده.

وأهم دليل على النمو العقلي اكتساب اللغة، فذكاء الحيوان محدود بعجزه عن التحرر من قيود المكان واللحظة الراهنة، فهو بمثابة وسيلة في خدمة حاجاته العضوية فحسب، وإذا كان ذكاء الطفل في مرحلته الأولى كبير الشبه بذكاء الحيوان غير أنه لن يلبث طويلًا حتى يختلف عنه اختلافًا جوهريًّا، وذلك بظهور القدرة على فهم الرموز وخلق رموز جديدة، وليس فهم الرموز في الطفل نتيجة تدريب فحسب كما هو الحال في الحيوان، بل هو مظهر إيجابي لنشاط خاص، هو نشاط العقل الذي يمتاز قبل كل شيء بقدرته على التجريد والتعميم. نلاحظ في الإنسان فقط دون سائر الحيوانات أن الفكر — وإن كان في غالب الأحيان وسيلة من وسائل التكيف — في إمكانه أن يصبح غاية، وأن يتناول موضوعات تسمو على العالم الحسي، ليس العقل نتيجة التدريب حتى إذا وصل التدريب إلى تمكين الحيوان من أن يستجيب لبعض الرموز، بل هو في الإنسان الشرط الأول والضروري لاكتساب اللغة.

وتظهر قدرة الطفل على استخدام الرموز في اصطناعه التعبيرات الانفعالية كلغة للتأثير في الآخرين،٢ وأول تأثير يوجهه الطفل نحو العالم الخارجي هو الصياح عندما يتحول من فعل منعكس إلى نداء، أي عندما يتحول إلى أداة، ثم يأخذ هذا النداء في التمايز والتنوع فتتفرع منه الأصوات والألفاظ بينما يتسع مجال الأشياء والمواقف التي تثير استجابات الطفل، ومما يجدر ذكره هنا قدرة الطفل على أن يتوقع حدوث الأثر الذي يُحدثه عادةً ما يقوم به من حركات أو ما يصدره من أصوات، واللغة من حيث وظيفتها لا تختلف عن سائر الحركات التي يؤديها الطفل لإحداث أثر من الآثار، فهي وسيلة وأداة في خدمة العقل، غير أنها أداة دقيقة مرنة تساعد العقل في نموه، وتمكِّنه من إبراز شتى ممكناته.

وأكبر دليل على أن اللغة ليست إلا أداة اصطنعها العقل نلمسه بكل جلاء في تتبع المراحل التي يقطعها الطفل في اكتساب اللغة، وتكون مرحلة فهم اللغة سابقة على استخدامها؛ لأن الفكر هو رائد اللغة لا العكس، ويتناول فهم الطفل أولًا المواقف الإجمالية من حركات الوجه والإيماءات وحركات انتقال الأشخاص من ذهاب وإياب ووقوف، ثم ينحصر الفهم في مواقف جزئية ويزداد تمييزًا للتفاصيل وأوجه التشابه والتقابل القائمة بينها.

ويفهم الطفل الحركات والإيماءات قبل فهمه الكلام، وينفعل أولًا لنغمة الجملة وصفاتها الموسيقية قبل أن يفهم لفظًا منفردًا، فإذا وُجِّه إليه أمر بلهجة ذات وتيرة واحدة وبدون توضيح الأمر بالإشارة فإنه لا يستجيب.

رأينا أن الموقف الإجمالي في بادئ الأمر — فيما فيه صوت المتكلم وحركاته — هو الذي يوحي بالمعنى إلى ذهن الطفل، ثم يتعلَّم الطفل أن يربط لفظًا ما بشيء معين بدون الاستعانة بإيماءات المتكلم، ولكن إذا أطلق المتكلم اللفظ الذي تعلَّمه الطفل على شيء آخر مماثل للأول من حيث الوظيفة ولكن يختلف عنه من حيث الوضع أو الحجم أو الخصائص الإدراكية الأخرى أصبح اللفظ غير مفهوم، وفي هذه الحالة لا بد أن يستعين المتكلم بالإشارة لكي يفهم الطفل أن اللفظ الواحد يمكن إطلاقه على أشياء عدة في نفس الوقت، وهذه المرحلة من أهم مراحل تكوين المعاني الكلية، إذ سوف يطلق الطفل اللفظ عينه على أشياء عديدة، كأنه يدرك أن الاسم ليس من خصائص الشيء الجوهرية، أي أن الاسم مجرد رمز للمسمى.

غير أن الطفل سوف ينتقل من التخصيص إلى التعميم الأعمى مطلقًا اللفظ الواحد على أشياء مختلفة، وبهذا يبدو أن الطفل يتقهقر إلى الوراء ويعود إلى مرحلة سبق له اجتيازها ولكن تلك هي سنة التقدم،٣ فليس هذا الارتداد سوى الخطوات التي يخطوها المرء إلى الوراء قبل أن يثِبَ وثبةً جديدةً، والواقع أن الطفل لا يلبث طويلًا حتى يتعلَّم كيف يفرِّق بين الأشياء المختلفة، فيقوى تمييزه في إطلاقه نفس اللفظ على الأشياء المتماثلة.

وكذلك يتطور فهم الطفل للأوامر الموجهة إليه تبعًا لنظام معين يبيِّن لنا مقدار ترقِّي نضجه العقلي، فإنه يفهم أولًا الأوامر المصحوبة بالإشارة، ثم غير المصحوبة بالإشارة، ويفهم أولًا الأوامر المتعلقة بحركات جسمه، ثم الأوامر المتعلقة بتحريك أشياء خارجية ومعالجتها باليد، وكذلك يفهم أولًا الأوامر الخاصة بمعالجة الأشياء الموجودة في المجال البصري الراهن، ثم الأشياء الموجودة خارج هذا المجال، وحينئذٍ تنضج قدرة الطفل على تصور الأشياء الغائبة وتذكرها.

وعندما يبتدئ الطفل في أواخر السنة الثانية يفهم ما يدور حوله من حديث، فإنه يفهم أولًا الحديث الذي يشير إليه أو إلى ما يعمله أو ما يجب أن يعمله، ثم يفهم بعض أشطار الحديث الذي يدور حوله حتى ولو لم يكن هو موضوع هذا الحديث، ولكن بشرط أن يتناول الحديث أمرًا يثير اهتمامه، وكثيرًا ما يُدفع إلى التدخل في الأمر من تلقاء نفسه.

ويكشف الطفل رويدًا — بفضل عناية البيئة الاجتماعية بأمر تلقينه اللغة — قدرة الآلة اللغوية على حمل الآخرين على إرضاء رغباته، فقد يلاحظ الطفل أن مَنْ حوله يفهمون ألفاظه بأسرع مما يدركون معنى حركاته، وذلك خاصة عندما يكون الشيء الذي يبتغيه غير موجود مباشرةً في مجال الإدراك، كما أنه لا يلبث طويلًا حتى يدرك أن في إمكانه أن يتكلم بدون أن ينقطع عما يقوم به من سلوك حركي ومن معالجات يدوية، وتلك ميزة كبيرة تفوق بها لغة الكلام لغة الحركات والإيماءات.

(٣) مراحل تطوُّر الميل الجنسي

إن لنمو الوجدانيات في الطفل أثرًا بليغًا في تكوين شخصيته وفي الاتجاهات التي سيتخذها سلوكه في المستقبل، وقد كشفت لنا مدرسة التحليل النفسي عن جانب هام من حياة الطفل الوجدانية بدراستها لتطور الميل الجنسي وما قد يعتريه من انحراف.

والواقع أن دراسة الجنسية في الطفل من وجهتها النفسية حديثة العهد إذا قارنَّاها بدراسة غيرها من الوظائف، ويرجع الفضل الأكبر في إماطة اللثام عن المظاهر الجنسية في سلوك الطفل إلى فرويد ومدرسته المعروفة بالتحليل النفساني، ومما يزيد من فضله شجاعته في مواجهة هذا الموضوع الذي كان يحيط به ستار من التكتُّم والتحريم، خاصةً في أواخر القرن التاسع عشر، غير أن هذا الموضوع قد استرعى اهتمام بعض الكُتَّاب والروائيين، فحاولوا الكشف عن بعض نواحيه أمثال روسو في القرن الثامن عشر وألفرد دي موسيه وستندال وبلزاك في القرن التاسع عشر في قصصهم واعترافاتهم.

وقبل عرض آراء فرويد سنشير بكلمة وجيزة إلى المنهج الذي انتهجه للوصول إلى نتائجه وما يمكن توجيهه من اعتراض على هذا المنهج من الوجهة العلمية. يصوِّر لنا فرويد مراحل الجنسية في نظريته بأنها المراحل العادية التي يجتازها كل طفل حتمًا، غير أنه لم يكشف هذه المراحل بدراسة الطفولة مباشرةً، بل بدراسة الحالات الشاذة في البالغين، وبالرجوع في ضوء المعلومات الكلينيكية (أي التي يحصِّلها في أثناء العلاج) إلى ما يجب أن تكون عليه مراحل النمو في السنين الأولى من حياة الطفل.

وأهم اعتراض يوجَّه إلى هذا المنهج هو قصره على الحالات المرضية، ثم الاعتماد على الاستنتاج التركيبي أو الاستدلال على ما كانت عليه السنين الأولى بما هو ملاحَظ الآن في سن العشرين أو الثلاثين، فمعارضو فرويد يطعنون خاصة في قيمة الأدلة التي يستند إليها لتقرير نشاط جنسي في الطفل وإظهاره في صورة غاية في التعقُّد والتشعُّب، بل في صورة مشوَّهة، إذ يعزو فرويد إلى الطفل سمات الشخص المنحرف المريض.

ويقول فرويد ردًّا على المعارضة: إن موقف المؤلفين الذين ينكرون وجود نشاط جنسي لدى الطفل يرجع إلى سببين: الأول ذاتي خاص بالمؤلفين أنفسهم، والثاني موضوعي خاص بأحوال الطفل النفسية.

والسبب الأول هو إمساك المؤلفين عن الكلام في النشاط الجنسي عند دراسة نفسية الطفل لأسباب خلقية عُرفية، ولاعتقادهم بأن المظاهر الجنسية لا بد أن تتبع مظاهر الوظيفة التناسلية، فحصروا كل ما هو جنسي في دائرة ما هو تناسلي فقط.

أما السبب الثاني — وهو أهمها — فهو نسيان الطفل حوادث حياته الأولى حتى السنة الرابعة أو الخامسة، وذلك بتأثير ما يُعْرَف بالكبت اللاشعوري، والاعتقاد بأن هذا النسيان نهائي من المحال علاجه واستعادة ذكرى الحوادث التي شملها. والواقع أن فرويد يدور حول هذه النقطة المركزية وهي الكبت، فطريقة التحليل النفساني ترمي إلى غرض واحد هام، هو استرجاع الذكريات الوجدانية المنسية المكبوتة، وبهذه الكيفية يسهل الكشف عن شعور الطفل بوساطة دراسة الآثار التي تركتها التجارب الوجدانية الأولى في شعور البالغ، وعلى الرغم من أن معلوماتنا الأولى عن محتويات الشعور الطفلي غير مباشرة فإنها تساعدنا على فهم الملاحظات المباشرة التي نقوم بها على الطفل، كما أنها تساعدنا على تحليل الأعراض المصاحبة للاضطرابات العصبية والنفسية التي تظهر في سن الطفولة.

يتلخَّص منهج فرويد إذن في وصف سلوك الطفل وشعوره في ضوء تحليل سلوك البالغ وشعوره، ومن أهم أسس هذا المنهج ما يُعْرَف بقانون الإعادة Law of Recapitulation، فالمراهقة تمر بمراحل شبيهة بمراحل الطفولة من حيث تركيز اللذة في مواطن دون غيرها، والكشف عن موضوع التعلق أو العشق، ولكن يجب ألا تنسينا أوجه الشبه الفوارق الأساسية الموجودة بين الطفولة والمراهقة من حيث قابلية كل من الطفل والمراهق للتأثُّر بالبيئة العائلية وبالقيم الخلقية، هذا فضلًا عما يضيفه التقدم العقلي ونمو المدارك إلى شخصية المراهق من استعدادات وصفات جديدة.

ثم إن فرويد اهتم خاصة بحالات المرض والانحراف وهو يعتبر هذه الحالات ناشئة عن وقوف النمو الجنسي والوجداني عند مرحلة طفلية، أو عن الارتداد إلى هذه المرحلة تحت تأثير انفعالات قوية أو تجارب مؤلمة تؤدي إلى تضعضع الشخصية وتفكُّكها، ولكن هل يحق لنا أن نعتبر هذه الحالات المنحرفة صورة صادقة لما كان عليه النمو الجنسي والوجداني في مراحل الطفولة الأولى؟ هذا ما يشك فيه معارضو فرويد؛ ولذلك انتهجوا منهجًا تصاعديًّا مبتدئين من شعور الطفل للوصول إلى شعور المراهق والبالغ، ومسترشدين في هذه الحالة بما تسفر عنه دراسة الشخصية بأكملها التي تضم من بين ما تضم الناحية الجنسية، وسنعرض لنتائج هذا المنهج بعد النظر في آراء فرويد مبيِّنين كيف يمكن الاستفادة بالنتائج التي وصل إليها وإدماجها في الصورة المتكاملة لشخصية الطفل والمراهق؟

يقوم مذهب فرويد على معنى الصراع الدائم بين قوتين متعارضتين أو مبدأين متقابلين، يحوي كل فرد كمية كبيرة من الطاقة الحيوية أطلق فرويد عليها كلمة «ليبيدو» Libido وهي كلمة لاتينية تفيد معنى الشهوة، واعتبر هذه الشهوة شبقية في جوهرها erotic وفيها تتمثَّل غريزة الحياة، ثم رأى فرويد في مؤلفاته الأخيرة أن هناك قوة ثانية مضادة للأولى مفطورة أيضًا في الإنسان ترمي إلى الموت والدمار هي غريزة الموت، وعندما تكون هذه القوة المدمرة موجَّهة نحو الداخل — أي نحو الشخص ذاته — ينشأ عنها الميل إلى تعذيب الذات وعقابها وإفنائها، في حين أنها تتخذ صورة الاندفاعات العدوانية القاسية عندما تتجه نحو الخارج أي نحو أشخاص آخرين.
وهناك أيضًا مبدآن متنافران يتنازعان شعور الفرد وسلوكه، هما: مبدأ اللذة، ومبدأ الواقع، فكل ما يعمله الفرد للحصول على لذة عاجلة أو لتجنُّب ألم يكون خاضعًا لمبدأ اللذة، وذلك المنهاج في السلوك خاص بالحياة اللاشعورية وبالأطفال وبالعصابيين أي بالمصابين بأمراض نفسية neurotics، أما السلوك الذي يراعي فيه صاحبه مقتضيات الحياة الاجتماعية والظروف الخارجية — أي السلوك الذي يرمي إلى التوافق والتكيف — فيكون خاضعًا لمبدأ الواقع، وهناك عوامل أخرى مزدوجة ومتنافرة في نفس الوقت تتخذ من حياة الفرد وشعوره مسرحًا لتطاحنها، كالذكورة والأنوثة والحب والبغض، ويقوم الصراع بين هذه المبادئ والعوامل المتقابلة، وفي حالة الصحة العقلية والتكيف الناجح ينتهي الصراع بنوع من التراضي، أما في حالة عدم تحقيق هذا التراضي فتكون النتيجة ظهور الأعراض العصابية والأمراض النفسية.
تمر الجنسية في نموها بثلاثة أطوار: الطفولة، وطور الكمون الجنسي، وطور المراهقة، وقد اهتم فرويد خاصةً بالطور الأول الذي ينتهي عند سن الخامسة أو السادسة، وقد قسَّمه إلى ثلاث مراحل: المرحلة الفمية oral والمرحلة الاستية (الشرجية) anal وهما غير تناسليتين، والمرحلة التناسلية الأولى المعروفة بالقضيبية phallic والتناسلية هنا نسبة إلى أعضاء التناسل لا إلى الوظيفة.
وتحدث في طور الطفولة عمليتان متصلتان إلى حد ما: الأولى في تركيز الليبيدو libido في مناطق الجسم المثيرة للذة، والثانية الكشف عن الشخص الآخر الذي سيصبح موضوعًا خارجيًّا للعشق أو التعلق الجنسي، وتحدث العملية الثانية في المرحلة القضيبية.

لا شك في أن المولود الحديث لا يلبث طويلًا حتى ينزع إلى البحث عن اللذة الجسمية لمجرد التمتع بها، أو لما تُحدثه من إرضاء أو تخفيف التوتر والضيق، ومن مصادر اللذة تنبيه العضلات وسطح الجلد بالدلك والمداعبة، غير أن توليد اللذة سيتركَّز بكيفية خاصة في بعض المناطق دون أن يكون في بادئ الأمر صلة بين منطقة وأخرى، وهذه المناطق هي الأغشية التي تكسو الشفاه والخدَّين واللسان والثديين والاست ومجاري البول وما يتعلق بها، وستتجمَّع هذه اللذات الفرعية فيما بعد وتتلاقى في سن المراهقة، ومن الملاحظ أن عملية التجمع والتوحيد تتبع تكوين معنى الشيء المحبوب أو موضوع العشق أو الحب.

والمرحلة الأولى هي كما ذكرنا المرحلة الفمية التي تكون فيها الليبيدو مركَّزة في منطقة الفم، ويحصل الرضيع على اللذة بوساطة الرضاعة ومص الإبهام، ثم بعد حين بالعض والمضغ، وهما من مظاهر الميل إلى العدوان والتحطيم، ويصف فرويد هذه المرحلة بأنها مرحلة التعشُّق الذاتي البدائي، أي أن الليبيدو لا تكون موجَّهة نحو غرض أو موضوع متميز عنها، غير أن هذه التسمية مضللة، إذ لا يوجد في الواقع في هذه المرحلة ما هو شبيه بالتعشق، إذ إن العشق يقتضي وجود طرفين متميزين، والطفل في الشهور الأولى عاجز عن أن يدرك أنه ذات، فهو لا يزال في مرحلة اللاتغاير indifferenciation حيث لا يوجد تميُّز واضح بين الأنا واللاأنا، فيُستحسن تسمية هذه المرحلة بمرحلة التلذُّذ اللاتعشقي، إذ لا تعدو لذات الرضيع أن تكون سوى إحساسات جسمية، أما تعلق الرضيع بأمه فهو بمثابة تعلُّقه بأي جزء من جسمه من شأنه أن يُشبع رغبته في اللذة، فإنه لا يتعلق بأمه من حيث هي ذات متميزة عن ذاته، بل من حيث هي مجرد طعام له.

وبعد ثلاثة أو أربعة أشهر يفقد التلذذ الفمي من سيطرته؛ ليحلَّ محله في المرتبة الأولى التلذذ الاستي، غير أنه في بعض الأطفال يظل التلذذ الفمي متغلبًا فيشاهَد في بعضهم استمرارهم في مص الإبهام حتى السنة الثالثة أو الرابعة، وتفاديًا لهذه العادة السيئة — وهي سيئة لأنها تعوق التطور الطبيعي — يجب حرمان الطفل من المصاصة الصناعية قبل انتهاء السنة الأولى.

ويشاهد في المرحلة الاستية تغير هام في سلوك الطفل، فإنه أخذ يميز بين الأشياء الخارجية المتميزة عنه ومن ضمن هذه الأشياء برازه، هذا الشيء الذي منه والذي سينفصل عنه، ويمكن القول: إن التعشُّق يظهر لأول مرة في هذه المرحلة، فقد وجدت الطاقة الوجدانية الغريزية معشوقها الأول، ويكون التلذذ الاستي على ضربين: لذة الإخراج والقذف، ثم بعد حين لذة البقاء والإمساك، وترجع بعض الحالات الشاذة في البالغين إلى وقف النمو عند إحدى مراحل الطفولة الأولى والارتداد إليها، فالقسوة مثلًا هي رجوع إلى طور التلذذ بالعض والمضغ، كما أن البُخل والعناد ناتجان عن الارتداد إلى طور التلذذ الاستي بالإمساك والإبقاء.

ويكون الطفل في هاتين المرحلتين منقادًا لمبدأ اللذة ولميوله العدوانية التحطيمية، فلا بد من تدخُّل مبدأ الواقع تحت تأثير التربية، فالفطام مثلًا من عوامل إضعاف اللذة الفمية وتحويل الليبيدو عن منطقة الفم، وفيما يختص بتحويلها عن منطقة الاست لا بد من أن تحاول الأم تنظيم عملية التبرز في طفلها فتدرِّبه على القيام بهذه العملية في ساعات وظروف معينة، وتُظهر له اغتباطها كلما تقيَّد بالنظام واستفاد من التدريب أو توبِّخه وتعاقبه كلما تمرَّد وعصى، فإن تلقين الطفل معنى النظافة وإفهامه أنها أمر مستحب في حين أن القذارة مستقبحة يجب تفاديها من أهم العوامل المقوِّمة لخُلُق الطفل، وسيتأثر مدى حياته بهذا الدرس الأول وبهذه التجارب الأولى التي تولِّد في نفسه رويدًا رويدًا معاني السخط والرضا ومعاني الثواب والعقاب، ويترتب على آثار التربية أن تتحول الطاقة الوجدانية من طور الأخذ والضم إلى طور العطاء والبذل والتضحية، فإن أول هبة يقدِّمها الطفل إلى أمه — أي أول مظهر للحب الموجه نحو الآخرين — هو القيام بعملية التبرُّز بدون تلويث ثيابه.

سبق أن قلنا إن فرويد يعتبر المرحلة الفمية والمرحلة الاستية غير تناسليتين، أي أن لا صلة بينهما وبين أعضاء التناسل، على العكس من المرحلة القضيبية التي تلي المرحلة الاستية، غير أن الواقع لا يؤيد هذه التفرقة، فإن الرضيع وهو في أواخر المرحلة الفمية قد يحقق أحيانًا اللذة الجسمية عن طريق لمس أعضائه التناسلية والعبث بها، ومن العسير نعت هذه اللذة بالجنسية، إذ إن التمييز بين الجنسين لم يتحقق بعد في شعور الطفل، فهي لذة تناسلية بالنسبة إلى المنطقة فقط، ولكنها لذة عامة غير نوعية، ومهما يكن من أمر فسوف نرى كيف أن هذه الصعوبات التي يثيرها فرويد باستخدامه لفظَي جنسي وتناسلي عندما يتحدَّث عن السنة الأولى من حياة الطفل تزول في ضوء دراسة الشخصية بأكملها في أثناء تكوينها ونموها.

أما المرحلة الثالثة — وهي المرحلة القضيبية التي تدوم من أواخر السنة الثالثة حتى السادسة — فهي تناسلية وجنسية، إذ يبدأ الطفل في هذه السن يميز بين الجنسين بما يشاهده من اختلاف بين الصبي والبنت من حيث الملبس ووسائل اللعب وشكل الجسم واستخدام ضمير المذكر والمؤنث … إلخ.

فكل ما سبق تفصيله بشأن المرحلتين: الأولى والثانية ينطبق على الصبي والبنت على السواء، أما في المرحلة الثالثة فتأخذ محتويات الشعور في الصبي وفي البنت في الاختلاف والتميز، وفي سن الثالثة يمر الطفل بأزمة نفسية سيبزغ خلالها شعور الطفل بذاتيته، فهي الأزمة الأولى التي يعانيها الطفل في أثناء تكوين شخصيته الذاتية أو أنِّيته، وسيمر بأزمة مماثِلة لها في طور المراهقة عندما يكتمل شعوره بذاتيته، ومن أهم عوامل تكوين الشعور بالأنا أو بالذات انفعال الغيرة الذي يتخذ شكلًا واضحًا بين السنة الثالثة والرابعة.

وعند تكوين الشعور بالأنا Ego تتعلق الطاقة الوجدانية بذات الطفل، فيحب الطفل ذاته، وقد سمَّى فرويد هذا المظهر من حب الذات بالنرجسية narcissism نسبةً إلى أسطورة نرسيوس الذي عشق نفسه بعد أن استغرق طويلًا في تأمُّل صورته في الماء، ويعتبر فرويد الطبع المركَّز حول ذاته رجوعًا إلى طور النرجسية الأولى، وسيمر المراهق في بداية المراهقة بمرحلة نرجسية ثانية متخذًا من نفسه موضوعًا لعشقه.
وفي المرحلة القضيبية يبدأ الصبي يشعر بأن جنسه أرقى من الجنس الآخر، وأن الدور الذي سيؤديه أخطر وأجل من دور البنت، وهو يعتبر الجنس الآخر ناقصًا من الوجهة العضوية، وقد يخالجه أحيانًا الخوف الشديد من أن يحرم مما يميزه عنه، وقد ينشأ من هذا الخوف ما يسميه فرويد بعقدة الإخصاء castration complex، وكذلك الطفلة قد تعتبر نفسها أحط من الصبي، ويخشى عليها أن لا تتحرر من هذا الاعتقاد الذي من شأنه أن يؤدي في المستقبل إلى الانحراف والاختلال، ومن هنا قد ينشأ ما يُعْرَف بعقدة الذكورة maseulinity complex، على أن نفس الخطر قد يهدِّد الصبي على الرغم من شعوره بتفوق جنسه على الآخر، فإنه لا يلبث طويلًا حتى يشعر بطريقة غير واضحة أن للجنس الآخر مزايا هو محروم منها، فيشق عليه ذلك ويمر كالبنت على السواء بدور تراوح بين قطبي الذكورة والأنوثة، وهنا أيضًا يجب أن تتدخل العوامل التربوية بطريقة فعَّالة، فعلى المربي أن يثبِّت كلًّا من الصبي والبنت في جنسه وأن يساعدهما على إدراك ما يميز الرجل والمرأة من حيث وظيفتهما في الأسرة والمجتمع.
وفي هذه المرحلة أيضًا يظهر ما يسميه فرويد بالعقدة الأوديبية oedipus complex نسبةً إلى أسطورة أوديبوس الذي نشأ بعيدًا عن أبويه، فشاءت الأقدار أن يقتل أباه وأن يتزوَّج أمه دون أن يتعرَّفهما، والعقدة الأوديبية أول مظهر من مظاهر النشاط الجنسي لدى الطفل، فيتعشَّق الطفل أمه والطفلة أباها ويصحب هذا التعشق كراهية الطفل نحو أبيه أو الطفلة نحو أمها، وقد تتعقد هذه الصورة، فقد رأى فرويد أن شعور الطفل يكون مزدوجًا حاويًا العاطفتين المتقابلتين من حب وبغض نحو شخص واحد، وقد أثار ما ذهب إليه فرويد بصدد هذه العقدة نقدًا عنيفًا لاذعًا، فكثير من علماء النفس الذين اعتنوا بدراسة الطفولة عناية خاصة ينكرون وجود هذه العقدة،٤ وردَّ فرويد على معترضيه بوضعهم في حلقة مفرَغة لا يمكن الخروج منها، فإنكار معارضيه لعقدة أوديبوس يرجع إلى الكبت اللاشعوري، ولا يمكن الإيمان بالكبت اللاشعوري كما يصفه فرويد إلا بالاقتناع بصحة مذهبه، ومهما يكن من أمر حقيقة هذه العقدة فإن العوامل الاجتماعية وحنان الوالدين نحو أطفالهما بدون أن يؤثِرَا أحدًا على الآخر بطريقة صارخة، وكذلك عندما تحيا الأسرة في جو من الوفاق والمودة، كل ذلك من شأنه أن يخفف من آثار البغض والكراهية.
ويقول فرويد: إن لهذا التعشُّق المتغاير أهمية كبرى في تنمية عواطف الطفل وتوجيه الميل الجنسي توجيهًا طبيعيًّا، إذ إن التطور السوي يقتضي نقل هذا التعشق من ممثلي الجنسين — أي من الأم والأب — إلى الشخص الذي سيختاره البالغ فيما بعد موضوعًا لحبه السوي، أي الحب الموجَّه لممثل الجنس الآخر، ويعتبر فرويد أن الشذوذ الجنسي المعروف بالجنسية المثلية homosexuality والذي يؤدي إلى اللواط يرجع إلى عدم تحرر الطفل أو المراهق من تعلقه المفرط بأمه.٥
وإعداد الطفل لدخول عالم الحب الجنسي المتغاير أو الجنسية الغيرية heterosexuality يتم في المرحلة الرابعة، وهي ما يسميه فرويد بطور الكمون الجنسي sexual latency الذي يمتد من السادسة إلى الثانية عشرة تقريبًا، وليست هذه المرحلة مرحلة ركود وسكون، بل يتطور فيها التعشق تطورًا محسوسًا، وأول مظهر منه تحرير التعشق من ربقة الأوصال الجسمانية، فتحل العقدة الأوديبية بأن ينفصل التعشق عن الأم لدى الطفل ويزول ما كان يشوب محبته نحو أبيه من نفور وكراهية، ولهذه المرحلة أهمية عظيمة في تكوين الشخصية، إذ تنصرف الوجدانيات إلى عالم السمو، ويميل الطفل إلى الإيثار والتضحية وإنكار الذات، ويبدأ في إدراك معاني الاعتماد على النفس والمجازفة والشجاعة وتطبيق هذه المعاني في سلوكه اليومي.

وقبيل انتهاء هذه المرحلة تبزغ تباشير الصداقة الممزوجة بحب بريء نقي طاهر، وقد يكون المعشوق إما شخصًا من الجنس الآخر أو من نفس الجنس، ويجب ألا تُعْتَبر هذه المظاهر الغرامية مظاهر شاذة منحرفة، فقد ترتقي عواطف الطفل الكبير إلى أقصى حد من الإعلاء والتسامي، وأما الشاذ فهو الذي لم يشعر في هذه السن بالحاجة إلى التعلق بصديق يضحي في سبيله ويخاطر لإرضائه، فإن من أطيب الذكريات إلى المرء تلك التي تحيي من جديد الصداقات والمودات الأولى التي تعطِّر بأريجها الحياة كلها.

(٤) مراحل تكوين الشخصية

في هذه الصورة المعقدة التي ترسمها مدرسة التحليل النفساني لتطور الجنسية في الطفل، ومن ثم تطور شخصيته، نلاحظ بوضوح الدور الأساسي الذي تؤديه الغريزة الجنسية، وكيف أن مظاهرها المتعاقبة تعين المراحل التي تمر بها الشخصية في أثناء نموها، ويبدو أن كل نزعات الطفل وانفعالاته وعواطفه تصدر كلها عن الليبيدو وتدور حولها وترجع دائمًا إليها، قد تبدو هذه الطريقة في الوصف والتعليل مغرية بوحدتها وتماسكها وربما ببساطتها، إذ إنها ترجع في نهاية الأمر إلى تعليل واحد لا يتغير، فمن اليسير دائمًا مع شيء من المهارة في تلمُّس الرموز وتأويلها إرجاع كل شيء إلى الغريزة الجنسية.

والواقع أن هناك نزعات أخرى في الطفل تظهر في سلوكه وتوجهه تبعًا للمواقف الخارجية، وإذا كان للسلوك عوامل فطرية بدون شك فإن هذه العوامل هي بمثابة قدرات قد تظهر أو لا تظهر، وقد تتخذ هذه الصورة أو تلك تبعًا لعوامل البيئة العائلية التي يحيا فيها الطفل، فالسلوك هو في نفس الوقت تعبير تلقائي إلى حد ما واستجابة لمواقف خارجية،٦ ونظرًا لما تمتاز به العوامل الفطرية من مرونة ومن عدم تعيُّن وتمايز يمكن القطع بأن الأثر الأكبر يرجع إلى العوامل الخارجية، فإن العلماء الذين درسوا الشعوب البدائية، حيث تكون نُظُم التربية والقيم الخلقية مختلفة عما هي عليه في الشعوب المتحضرة، لاحظوا عدم ظهور الكمون الجنسي في الطفل، وكذلك في الشعوب التي تكون فيها السلالة عن طريق الأم والسلطة للخال فلا وجود لعقدة أوديبوس، بل يصبح الخال هو الشخص المبغوض لا الأب؛ لأنه يمثل السلطة، فالانفعالات والعواطف هي بالأخص من ضروب الاستجابة لموقف خارجي، وما يهم العالِم هو دراسة الواقع كما هو وحصر قيمة النتائج في دائرة الواقع الذي يتناوله البحث.
إننا لا ننكر أهمية الدافع الجنسي، ولكنا ننكر أنه الدافع الوحيد، ولم يكتسب هذا الدافع مثل هذا القدر من الأهمية في نظر بعضهم إلا لأنه فُصِلَ عن سواه من الدوافع التي تعيِّن مظاهر السلوك وتوجِّهها في أثناء تفاعلها مع عوامل البيئة الخارجية، فإن هناك دافعًا هامًّا يكاد يكون أهم من الدافع الجنسي؛ لأنه أعم منه، وهو رغبة الطفل في التفوق والتغلُّب على ما يشعر به من قصور وعجز، هو رغبته في الظهور وإثبات قدرته على الحركة والعمل والتأثير في العالم الخارجي تعويضًا عن شعوره بالقصور والعجز،٧ وقد تتخذ أساليب التفوق أو الظهور أو التظاهر شكلًا جنسيًّا، وذلك للحساسية الخاصة التي تمتاز بها المنطقة التناسلية، وقد تكون هذه الأساليب سوية أو منحرفة تبعًا لاتجاه الشخصية الرئيسي أو الأسلوب العام الذي ينتهجه الطفل أو المراهق في حياته كالخوف أو العدوان أو حب التعاون.

وقد أدى منهج فرويد إلى الوقوع في الخطأ فيما يختص بطبيعة اللذة، فاعتبر كل لذة جنسية في جوهرها، كما أنه اعتبر الطاقات الحيوية والنفسية جنسية في أصلها، والواقع أن اللذة تصحب عمل كل وظيفة عندما يكون هذا العمل سويًّا معتدلًا، وتتشكَّل اللذة باختلاف الوظائف، وقد تكون اللذة ناتجة عن النشاط من حيث هو مجرد نشاط دون تخصص ولا تنوع، وقد تتحول اللذة التي تكون في السنوات الأولى من حياة الطفل غير مخصصة إلى لذة نوعية يمكن نعتها بالجنسية مثلًا إذا كانت نتيجة تنشيط الوظيفة الجنسية فيما بعد، فإنه من الخطأ اعتبار اللذة التي تصاحب عملية المص أو الإبراز جنسية؛ لأنها قد تصاحب فيما بعد تنشيط الوظيفة الجنسية.

فلا بد إذن من توخِّي الحيطة والحذر عندما نتحدَّث عن نشاط الطفل في سنواته الأولى، ولا بد من مراعاة جميع العوامل التي تؤثر في تكوين شخصيته وأسلوبه الاستجابي؛ وعلى ذلك يجدر بنا أن نذكر المراحل العامة التي تمر بها الشخصية في أثناء نموها، وكيف أن هذه المراحل تنتظم المظاهر الجنسية التي تصبح حينئذٍ ثانوية وخاضعة لأسلوب الشخصية العام.

ودراسة الطفولة من الوجهة السيكولوجية لا تزال في طورها الأول وهو طور الدراسات الجزئية التي تتناول ناحية من النمو دون غيرها، والواقع أن عهد الطفولة غزير المادة متشعِّب النواحي يزداد تعقُّدًا مع مرور الشهور والسنوات ومع ظهور الوظائف الجديدة وتعاونها مع الوظائف التي سبق ظهورها، ويمكن تمثُّل نمو شخصية الطفل في صورة جدول تزداد مياهه غزارة كلما تعدَّدت الروافد التي تصب مياهها في الجدول الأصلي.

وقد حاول بعض علماء النفس تصوير مجموعة هذه التيارات المختلفة التي تشترك في تكوين الشخصية مستعينين بما وصلت إليه البحوث المتفرقة من نتائج متمِّمة بعضها لبعض، فهناك دراسات لنمو النشاط الحسي والحركي وغيرها؛ لترقى قوة الإدراك والفهم والتعبير اللغوي، ثم بحث النمو الوجداني وتكوين العواطف وكيفية ظهورها في المواقف الاجتماعية المختلفة التي يوجد فيها الطفل.

وقد انتهت المقارنة بين نمو هذه الوظائف المختلفة إلى كشف بعض قوانين عامة تفسِّر لنا سير النمو على العموم، سواء كان حركيًّا أو عقليًّا أو وجدانيًّا.

ومن أهم هذه المحاولات التي ترمي إلى التأليف بين نواحي النمو المختلفة وتنظيمها في نظام شامل وافٍ محاولة العالِمة النمساوية شارلوت بوهلر Charlote Bühler٨ مؤسِّسة مدرسة فينَّا لدراسة الطفولة الأولى. ترى بوهلر أن مراحل نمو الطفل تمتاز بتعاقب نماذج من الوظائف والسلوك، فتمتاز المرحلة الأولى بكونها مرحلة الوظيفة البحتة، أي العمل لمجرد العمل بدون نظام ولا قصد سوى العمل والنشاط، فالطفل يقبض على كل شيء يمكن تناوله فيجذبه أو يحرِّكه أو يقذفه مكررًا الحركات مغتبطًا بما يُحدثه من أثر دون مراعاة خصائص الأشياء التي يعالجها بيديه وفمه، ثم في أواخر السنة الأولى يأخذ الطفل يراعي بعض خصائص الأشياء مكيِّفًا حركاته تبعًا لها، وفي أواخر السنة الثانية يدرك الطفل أن في إمكاناته أن يبتدع وأن يأتي بأعمال جديدة وأن يغيِّر من نمط سلوكه.

وتتطور العلاقات بينه وبين الأشخاص الآخرين تبعًا للمنهج عينه، فيمر بمرحلة الصلة الاجتماعية غير المعينة، حيث يكون التمييز بين الأفراد ضعيفًا جدًّا غير ثابت، فقد يحل فرد محل الآخر في عنايته بالطفل دون أن يدرك الطفل هذا التغير، ثم تأتي مرحلة الصلة الاجتماعية المعينة، حيث يراعي فيها الطفل ما يميز بين الأشخاص من صفات خاصة، ومقدرة الطفل على الإبداع والخلق تظهر في المجال الاجتماعي باندماج الطفل في جماعة، وفيما يتخذه اللعب عنده من صور جديدة، وفي خلال هذا التطور الاجتماعي تتضح مظاهر الغيرة والمشاركة الوجدانية والتعاطف فتساعد الطفل على إدراك ذاته بعض الشيء وما يميِّزها عن الأشخاص الآخرين، ففي أواخر السنة الثالثة أو في بداية الرابعة يحدث ما يسميه علماء النفس بأزمة الشخصية الأولى، حيث يحل التأليف بين نواحي الشخصية من وجدانية وعقلية محل التشتُّت وعدم التكامل، ويمتاز هذا الطور الأول الذي ينتهي عند السنة الخامسة بتركيز وجدانيات الطفل وأحكامه ومظاهر سلوكه حول ذاته.

ومن السنة السادسة حتى العاشرة تضعف النزعة الذاتية، ويأخذ الطفل يهتم بالعالم الخارجي من حيث هو موضوع أو شيء مميز عن نفسه، تلك هي المرحلة الواقعية أو الموضوعية التي تتكوَّن خلالها معاني الواجب والاحترام والتعاون مع الآخرين، أما في سن المراهقة فتعود النزعة الذاتية إلى التغلُّب، وتنشأ ضروب جديدة من الصراع بين المراهق ونفسه وبينه وبين البيئة العائلية والاجتماعية.

وقد وضحت عالمة أخرى تُدْعَى أبرمسن Jadwiga Abramson٩ مراحل نمو الشخصية خاصة من الوجهة الوجدانية والخُلُقية، فقد قسمت سني الطفولة والمراهقة إلى أربع مراحل:
  • (١)
    مرحلة الذاتية البحتة من الولادة إلى نهاية السنة الثانية،١٠ وتمتاز بالنشاط الوظيفي البحث والاندفاعية وعدم القدرة على تصميم الفعل الإرادي، وأخيرًا بضعف التمييز بين الحدود التي تفصل الطفل عن الوسط الذي يحيط به، فكل مظاهر النشاط صادرة عن المركز دون أن تنعكس عليه، أي أن مجال الرويَّة والتبصر والتمييز في اختيار نوع الاستجابة ضيق جدًّا.
  • (٢)

    مرحلة المعارضة السابقة لفهم نُظُم التهذيب من السنة الثالثة حتى السادسة، وهي تُعْرَف أيضًا بمرحلة أزمة الشخصية الأولى أو تكوين الشعور الذاتي، وتبدأ بعد اكتمال أجهزة الإدراك والتعبير الانفعالي واللغوي.

    ومن أهم العوامل التي تؤدي إلى ظهور الأزمة النفسية اصطدام إرادة الطفل الناشئة بإرادة البالغين الذين يحاولون تدريب الطفل على النظام وحمله على التبصُّر، فبصدد هذه المواقف الجديدة يكون الطفل أول الأمر عاجزًا عن تحقيق التكيف والتوافق، فيمر بحالات خوف ودهشة تعقبها محاولة الطفل الخضوع للنظام المفروض عليه، وبهذه الكيفية تقوى إرادة الطفل رويدًا رويدًا وتزيد قدرته على الكف وضبط النفس، ويلاحظ في أثناء هذه المرحلة إبطاء النمو العقلي وركوده.

  • (٣)

    مرحلة غزو العالم الخارجي من السنة السادسة حتى الثانية عشرة، تمتاز هذه المرحلة بظهور اهتمام الطفل بالأشياء الخارجية من حيث هي موضوعات متميزة منه مستقلة عنه، وإذ إن الأغراض والغايات التي يرمي الطفل إلى تحقيقها تكون مطابِقة إلى حد كبير لما ينتظره منه الأهل والمربُّون فإنه لا يلبث أن يتشرَّب بروح التعاون، وأن يفهم معنى الواجب وضرورة النُّظُم الاجتماعية والخُلُقية، ويتحقق التوازن بين النزعات الذاتية والنزعات الموضوعية، أو بين ما يسميه فرويد بمبدأ اللذة ومبدأ الواقع، ويبدو أن جميع قوى الطفل الوجدانية تضع نفسها في خدمة نواحي الشخصية الأخرى كنمو الاستعدادات العقلية والفكرية وفهم الأوامر والنصائح والتوجيهات التي ترمي إلى تقويمه الاجتماعي والخُلُقي، ويتعلم الطفل كيف يهتم بما يدور حوله وملاحظته بعناية، وكيف يقمع نزواته ورغبته في اللعب لكي يشترك فيما يفعله الآخرون، وفي نهاية الأمر تقوى فيه القدرة على المثابرة ومواصلة الجهد حتى الوصول إلى النتيجة المرجوَّة قبل الشروع في عمل آخر.

  • (٤)

    مرحلة معارضة النظام وثورة النفس على القيود الاجتماعية في سن المراهقة.

    في هذه المرحلة الأخيرة التي تنتهي حوالي السابقة عشرة تتغلَّب النزعة الذاتية من جديد، ويميل المراهق إلى الانطواء على نفسه والتمتُّع بما يتدفَّق في ذهنه من الأخيلة والأحلام فيقطع صلته قدر المستطاع بشئون العالم الخارجي، وبما قد يوحي به إليه من اهتمامات موضوعية، وتكتسح نفس المراهق عاصفة من الثورة ضد القيود والضوابط، وتمتاز هذه المرحلة بالأمور الخمسة الآتية: الصراع الجنسي وما يثيره من مشكلات، إثبات الذات وروح الثورة، صراع بين جيلين، معضلات دينية وفلسفية، وأخيرًا الصراع العنيف بين المراهق والنظم الاجتماعية.

    ولا شك في أن عنف هذه الضروب المختلفة من الصراع تتفاوت تبعًا للبيئة الاجتماعية ومدى القيود والضوابط المفروضة على المراهق، فقد لوحظ مثلًا في بعض الشعوب البدائية — حيث تكون العلاقات الاجتماعية بسيطة — عدم ظهور هذه الضروب من الصراع العنيف الذي يشاهَد في الأوساط المتحضرة، خاصة خلال حالات خاصة من التطور الاجتماعي السريع.

    ومهما يكن من أمر تأثير المجتمع في بعث الصراع واحتدامه فلا شك في أن مرحلة المراهقة لا تمر بدون صعوبات وتجارب مؤلمة للمراهق نفسه ولمن يحيطون به، فهي مرحلة شبيهة إلى حد ما بالمرحلة الثانية، إذ فيها تحدث أزمة الشخصية الثانية التي تؤدي إلى غزو الذات وكشف قدسيتها والإسراف في التأمُّل الذاتي.

١  تحدث الأزمة الثانية في أثناء المراهقة، وهناك أوجه شبه بين الأزمة الأولى والثانية في الحالتين يتغلب النشاط النفسي الداخلي على مظاهر النشاط الخارجي، غير أن النشاط في الحالة الأولى يكون غامضًا وفي الغالب لا شعوريًّا، أما في المراهقة فيزداد الشعور حدة وعمقًا.
٢  انظر الفصل الأول: «المنهج التكاملي وتصنيف الوقائع النفسية».
٣  انظر الفصل الأول: «المنهج التكاملي وتصنيف الوقائع النفسية».
٤  من أمثال هؤلاء العالم Valentine في كتاب حديث ظهر سنة ١٩٤٢م psychology sf Farly Childhood فقد أراد أن يتحقق من وجود هذه العقدة في أطفاله وفي أطفال زملائه، فكانت نتائج بحوثه سلبية.
٥  راجع في مجلة علم النفس عدد يونيو ١٩٤٦م مقال الدكتور عبد العزيز عبد المنعم المليجي: كيف ينعدم التوافق الاجتماعي، ص١٣١–١٤٥.
٦  J. L. Moreno and Florence B. Moreno. Spontaneity Theory of Child Development. Sociometry, Vol. VII, May 1944.
٧  انظر كتاب الدكتور إسحاق رمزي: علم النفس الفردي، ص١٢ وما بعدها، وص٨٢ وما بعدها عن القصور والتعويض، منشورات قاعة علم النفس التكاملي، الناشر دار المعارف للطباعة والنشر، القاهرة، ١٩٤٦.
٨  Ch. Bühler. From Birth to Maturity. London, 1937.
٩  J. Abramson. L’enfant et l’adolescent instables Alcan. Paris, 1940.
١٠  يجب أن نلاحظ أن الحدود الزمانية التي يذكرها المؤلفون هي حدود متوسطة لا تنطبق على جميع الأطفال، فهناك على جانبي الحالات المتوسطة حالات تقدُّم وخاصة حالات تأخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤