صفحة من مظاهر العبقرية١ العلمية في مصر

بقلم  أحمد زكي باشا

لما كنت من أعضاء العائلة المصرية الكبرى ومن أعضاء هذا المجمع العلمي المصري الجليل؛ فإنني بهذين الوصفين أشعر في هذه الساعة بارتياحٍ يخالج نفسي وبابتهاج يتملك وجداني، هاتان العاطفتان تدفعان بي إلى تحية وتهنئة الأمراء الصميمين الذين تحدوهم عبقريتهم إلى استخدام ما آتاهم الله من وسائل شخصية، وإلى استثمار مواهبهم الخاصة ليجعلوا أنفسهم أيضًا من أمراء العلم والعرفان.

لا جَرم أنهم، إذا سلكوا هذه الجادَّة، يعيدون لنا تلك السيرة المجيدة التي امتاز بها الشرق في عصره الذهبي، ويكون من ورائها أكبر الخيرات وأعم البركات لذياكم الشرق في إبَّان نهضته الحاضرة.

نعم، فقد امتازت دول العرب والإسلام بطابع خاص، وهو أن الخلفاء والملوك وأركان بيوتاتهم وأمراء حكوماتهم كانوا أولًا وقبل كل شيء من الشعراء المجيدين، وثانيًا وعلى الأخص من العلماء المبرَّزين والفنانين المبدعين، ومنهم فوق ذلك مَن يزداد ارتفاعه في بعض الأحيان بتنازله لممارسة الصنائع اليدوية حتى يحذقها ويبرع فيها. هكذا ارتقت طبقات الأمم الإسلامية في مختلف الديار والبقاع حتى وصلت إلى المثل الأعلى الذي يحدثنا عنه التاريخ بما فيه من العجب العجاب، ولو شئت أن أسرد بعض الأسماء التي تتوارد على صدري وتتجارى في خاطري لطال المقال وضاق المجال ولرأيتم المطربات المرقصات مما طلبه لنا سادات الشرق في أيام عزه واستقلاله بأمره من مجالي المفاخر وغرر الآثار، بَيْدَ أن المقام لا يحتمل الجولان في هذا الميدان؛ لذلك سأثِب أمامكم وثبةً بعيدة المدى بحيث تترك ورائي تسعة قرون كوامل، وأقف بكم لحظة واحدة في دائرة مدينة واحدة هي هذه المدينة الجميلة التي ازدهرت فيها الحضارة العربية على عهد الفاطميين وبني أيوب والمماليك والخديويين، فأبعث بتحية ممزوجة بخالص الاحترام والإجلال إلى روح السلطان الملك الأشرف أبو النصر قانصوه الغوري؛ تحية يرسلها أحد الأحياء الآن إلى رجلٍ فارق الدنيا منذ نيِّف وأربعة قرون، تحية تحدوني إليها في هذا المقام ثلاثة عوامل من الاعتبارات، في كلٍّ منها عبرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

فأما أولها: فلأن السلطان الغوري قد أحسن إلى القاهرة بإقامة أثر مجيد له مكانة فاخرة بين العمائر الأثرية الوطنية، بل هو بمثابة الدرة اليتيمة في فن العمارة العربية البديع، بل هو محراب لشتيت الفنون الجميلة في الإسلام، ذلك المحراب هي المدرسة المعروفة الآن بقبة الغوري، وهو الذي انتهتْ إلى القرار فيه خزانتي الزكية التي جمعتُ فيها طائفة كبيرة مما أنتجتْه العقول والقرائح في مضمار الآداب العربية وحضارة الإسلام، تلك الخزانة التي وفقني الله لوقفها على أبناء وطني وطلاب العلم أيًّا كانوا، وأصبحت لا نصيب لي فيها سوى ما يكون لأي فرد من أبناء الأمة المصرية وخادمي المعارف على الإطلاق، وكان الفضل في الوصول بها في خاتمة المطاف إلى هذا المحراب لصاحبَي الدولة رشدي باشا وعدلي باشا، هنالك ألقتْ عصاها واستقرَّ بها النوى، وأصبحت — والحمد لله — في أمان من عادية الزمان وعبث الإنسان.

figure
جلالة الملك فؤاد الأول: صاحب الفضل الأكبر على النهضة العلمية الحديثة في مصر.

هذا، وقد كان الغوري الذي بلغ الثمانين من رجالات العلم والأدب، نعم، كان من أهل الدراية والعرفان بكل معنى الكلمة وبكل ما ينطوي تحت هذا الوصف من المرامي والمقاصد؛ ذلك أنني منذ عشرٍ من السنين أسعدني الحظ فاكتشفت لهذا السلطان المصري تأليفًا في النَّسب النبوي الشريف، مرتبًا على أسلوب فني بديع ومرقومًا بطريقة هي آية في حسن الصنعة والجمال، عثرت عليه في الخزانة الشاهانية العثمانية بسراي طوب قبو بالقسطنطينية، فسارعت لنقله بالتصوير الشمسي، ولا تزال زجاجاته السلبية محفوظة بخزانتي الزكية ومعها صورة السيف الذي كان يتقلده السلطان الشجاع وهو غير المحفوظ بدار الآثار العربية.

نعم، إن هذا التأليف الصغير لا يكفي للإشاعة بذكر الرجل وجعله في مصافِّ العلماء ولا للتنويه به وإطراء عمله في ندوة مثل المجمع العلمي المصري، لولا أنه أنشأ في القاهرة أيضًا مجمعًا علميًّا كان نسيج وحده وفريدًا في نوعه، ولا يزال كذلك على ما أظن، لقد كان ذلك المجمع متنقلًا؛ فيعقد جلساته تارة في القصر وتارات في المدينة، أعني في إحدى القاعات المفتخرة التي كانت تزدان بها القصور السلطانية في قلعة الجبل أو في الساحات المقصورة على مدارسة العلم بهذا المسجد أو بذياك الجامع بين أرجاء القاهرة، وكان الغوري — سقى اللهُ عهدَه وطيَّب ثراه — يشترك في الجلسات بصفة عضو بسيط من أعضاء ذلك المجمع العلمي المصري البحت المحت المحض، ويساجل زملاءه من علماء الأمة ورجالاتها في المناقشات ويبادلهم الآراء في مختلف المسائل والمعضلات، إنني لا أُلقي الكلام على عواهنه ولا أرسله جزافًا، بل ها هي محاضر ذلك المجمع شاهد عدْل على صدق ما أقول، فقد نقلتُها بالتصوير الشمسي بالطريقة الإيجابية في جزأين ضخمين أحضرتُهما إلى دار الكتب، وهي تحدِّث الباحث والمسترشد بما كان للبراعة المصرية من الخطر العظيم قبيل انطفاء نبراسها ودخولها في خبر كان.

figure
محمد علي الكبير: مجدد مصر الحديثة ومعيد الحياة إليها.

ذلك أن الجد العاثر قضى بأن يكون السلطان الغوري — رحمه الله — آخر ممثل للاستقلال المصري؛ إذ بعد سقوط دولته «التي انقرضت معها تلك الإمبراطورية العظمى التي شادها المماليك الأمجاد» خيَّم الظلام على مصر وعلى ساكني مصر، فتوالى على بلادنا بحور مثلث من الجهالة والانحطاط والانحلال مدة ثلاثة قرون طوال، فقد خسرنا كل شيء: المكانة السياسية، والرخاء المتجري والوحدة القومية، انطمستْ معالم العلم ومعاهد الأدب ورسوم الفنون ودُور الصناعات؛ فلقد سبى الفاتح العثماني جميع علمائنا وفنَّانينا وكُتَّابنا وشعرائنا وصُنَّاعنا وأعياننا وكل مَن كانت حيثيتُه ظاهرة وشخصيته بارزة من بياض الناس، وقادهم وراءه إلى القسطنطينية في أغلال الأسر وقيود الاستعباد.

مُصابٌ لو حلَّ بأمَّة أخرى لبادتْ أو كادتْ، ولكن الروح المصرية، روح الفراعنة، روح العرب لم تمت، وهي لن تموت! نعم قد تولاها فتور أعقبه همود فخمود فجمود؛ ففي ثنايا هذا السبات العميق الطويل، كانت السريرة القومية يعتريها شيء من التشنج فتنتفض حينًا من الدهر فتتنبَّه ثم تتيقظ، يدب فيها شيء من عوامل الحياة أو شيء يقرب من مظاهر الحياة، ولكن إلى أمدٍ قصير، ثم تعود إلى الرقود؛ فقد يُتاح لمصر من الطواغيت — وهم لعمري قليل — مَن يمنحه الله شيئًا من الفطانة والرصانة فيعملون على إذكاء القريحة المصرية، حينئذٍ نرى النيل وواديه يستنيران بشعلة ضئيلة من النور أو قبس خفَّاق من النار، ولكن هذا اللهيب لا يلبث أن يعتوره الانطفاء، وإن كان على كل حال يبعث وميضًا من البوارق النورانية في تلك الليلة الليلاء التي دامتْ ثلاثة قرون، فنرى في خلالها مشاهد وقتية تتجلى فيها اليقظة القومية.

على هذا المنوال ازدانت القاهرة بالجامع البديع الذي شيَّده محمد بك أبو الذهب بالقرب من الأزهر ووضع فيه خزانة كتب حافلة قد أخنى عليها الدهر فتفرقت شذر مذر، وذهبت بها العوادي فلم يبقَ لها أثر، اللهم إلا مجموعة الخُشيبات التي لم يكن في الإمكان اختلاسها إلا بعد تفكيكها بحيث لا تعود منها فائدة لغاصب أو مسترق. وبهذه المثابة تجلت اليقظة الوطنية في مصر مرة أخرى وأخيرة في أيام الأمير رضوان الكبير صاحب القصبة المعروفة باسمه إلى هذا العهد، وهي التي لا تزال الخيام والستور تُصنع فيها على الطراز العربي الآخذ بالأبصار، ذلك الأمير — رضي الله عنه — كان ممن يُجلُّون الأدب وأهله ويعرفون قيمة العلم ويغدقون النعم على أربابه؛ فقامتْ سوق المعارف في حكومته ثم انقضتْ بعد ذهابه إلى ربه موفور الحسنات، راضيًا عنه.

هاتان هما البارقتان الوحيدتان اللتان أذكرهما الآن في خلال ذلك الرقاد الطويل، وفيما خلاهما توالى ديجور الظلام الكافر.

لاح نجم جديد فاستضاءت به الآفاق وانتعشتْ بمرآه الأرواح والأبصار، ظهر محمد علي الكبير، هو أحق إنسان بأن يُوصف بأنه مجدد مصر الحديثة ومعيد الحياة إليها، إذا ذكرنا اسمه خطر على البال توًّا اسم أحمد بن طولون واسم يوسف صلاح الدين: ثالوث مجيد كان له الفضل وإليه يرجع الفخار من إقالة مصر الإسلامية من عثرتها، لم يكن محمد علي إلا رجل عمل مع أميَّة لازمتْه إلى ما قبل وفاته بقليل من الأعوام؛ فهو الذي زيَّن مصر منذ مائة وأربعين من السنين بتلكم المعاهد العلمية التي قضى الجد العاثر بأن يصبح أكثرها الآن وهو في حيز العدم، وا أسفاه!

نعم، لم يكن محمد علي من لفيف العلماء ولكنه أحسن إلى مصر بما هو خير وبما هو أكثر مما أتحفها به مَن سبقه على الأريكة من الملوك العلماء؛ كان — سقى الله عهده — يقرِّب أبناء مصر ويخصهم بكرامته ورعايته ويغدق عليهم العطايا والإنعامات، كان يتعهد بنفسه تربية القريحة المصرية ويستثير النبوغ الوطني، نعم، كان يستثير النبوغ الوطني؛ فمن ذلك أنه كان دائمًا يختار رجلًا من أبناء البلاد لوظيفته ويضع واحدًا منهم بجانب أستاذ من كبار الأساتذة الذين يستقدمهم من الخارج لبثِّ العلوم الحديثة والمعارف العصرية على ضفاف النيل، ثم يخايل لأولئك المعيدين بما يعدُّه لهم من لوائح الكرامة الموفورة والحظوظ الممتعة أو من وسائل التنكر والإرهاب؛ لكي يخلفوا بحق واستحقاق أولئك الأساتذة الأغراب الذين قد أغراهم بالهيل والهيلمان إلى الوفود على ساحته، ولكن إلى زمن موقوت وإلى ميعاد معيَّن معلوم، فكان بهذا الأسلوب ذي الحدين أكبر معوان على تقدم التعليم الأهلي وباللغة العربية، والشواهد حاضرة في الأذهان فلا حاجة للإطالة بذكرها.

إنني أكرر القول وأعيده بأن محمد علي لم يكن من العلماء، لكنه أنجب لمصر بطلًا قوميًّا تُباهي به الأمم وتُثبِت لهم أنها أهل لإحراز المعالي في جميع ميادين الحياة الحرة، وأعني به القائد الأكبر الأفخر إبراهيم باشا الذي طبَّقتْ شهرته الآفاق، والذي فاق أبونا رفاعة بك رافع في مدح أبيه الأمجد حيث قال:

في كفه سيفان سيف عناية
والشهم إبراهيم سيف ثاني

نحن لا يعنينا الآن الإشارة إلى ما جناه إبراهيم من ثمر الوقائع اليانع بالنصر من ورق الحديد الأخضر، وإنما نذكر ما يناسب موضوعنا من أن هذا الجندي الباسل كان أيضًا في طليعة كتيبة العلماء المحققين، وأنه كان من أفرادها المستنيرين الذين دلَّهَهم حبُّ الكتب والغرام بها؛ فلقد جمع في أسفاره الكثيرة شيئًا كثيرًا من الأسفار النفيسة عربية وتركية وفارسية، وكان على كل سرخد كل واحد من هؤلاء المحابيب هذه العبارة: «ملك ولي النعم الحاج إبراهيم باشا، سرعسكر إلخ، أو والي جدة إلخ»، أو غير ذلك من الألقاب، بحسب المناصب والأوقات، لكن الجَد العاثر والحماقة قضيا بأن ورثته المباشرين آثروا أن يحتفظوا بما خلَّفه من الفدادين وأن يتخلصوا بثمن بخس دراهم معدودة من تلك الكنوز التي أثرتها القرائح والأفهام، فتفرقت هذه المجموعة النفيسة شذر مذر، بل طارت على أجنة الرياح الأربع.

figure
القائد الأكبر الأفخر إبراهيم باشا.

تلك الجناية تجدَّدت مع الأسف مرة ثانية في حضن القاهرة منذ خمس عشرة سنة تقريبًا على أثر وفاة المأسوف على شبابه الأمير محمد إبراهيم.

وقد لاذت طائفة من كل هاتين المجموعتين بدار الكتب السلطانية في القاهرة وبالمكتبة البلدية في الإسكندرية، ودخل بعضها في حرز صاحب هذه الصحيفة وفي أمان صاحبه المفضال وصديقه الجليل أحمد تيمور باشا، وذهب الكثير إلى الخارج جريًا على السنَّة التعيسة التي قضى بها الجَد العاثر على ما كان في مصر المستقلة من خزائن الكتب العامة والخاصة، وما كان أكثرهما!

إن الفتح العثماني والحملة الفرنسوية التي أعقبتْه بعد قرنين تقريبًا قد جرَّد كلٌّ منهما مصرنا الأسيفة من كنوزها العلمية التي لا تُقوَّم بثمن، ثم تلاهما دور الأوروبيين والأمريكيين فاستنزفوا ولا يزالون يستنزفون إلى أوطانهم — وحكومتنا لاهية — معظم ما قد بقي مختفيًا أو متخلفًا بوطننا من تلك الثروة العقلية الأهلية، ليس في قوانيننا ما يحول دون استمرار هذا التيار الجارف، لقد حان والله الوقت لإيقافه بأن ينتهي الأمر بدولتنا المصرية — ولو بعد خراب البصرة — لحماية الثُّمالة الضئيلة التي قد تبرز من مكامنها حينًا فحينًا، كما فعلت بطائر الأيبيس (أبو قردان) على الأقل، لقد حان والله الوقت لقيام حكومتنا الأهلية بما يلزم من وسائل التشجيع لحفظ الحثالة المصرية لمصر كما تعمل حكومات القوم في أوروبا للاحتفاظ بالزائد والفائض. لقد حان الوقت والله لأن تستمع حكومتنا الوطنية لمن يناديها فتحتذي مثال فرنسا وإنجلترة وبلجيكا وإيطاليا في إصدار تشريع خاص بهذا المعنى يمتنع معه أو يتعذر خروج هذه الكنوز إلى ما وراء البحار، هل من سميع؟ أم هل تذهب هذه الصرخة بلا صدًى في الوادي، ويصح عليها قول المعري: ولكن لا حياة لمن تنادي؟

figure
صاحب السمو الملكي الأمير عمر طوسون.

صحيح أنه قد فات الأوان ولكني أتمثل بقول الفرنسيين الذي معناه: إن «الإمهال خير من الإهمال»، فلعل حكومتنا الأهلية تنتهي فتبتدي في أن تقتدي بما فعله الأمجاد من نسل إبراهيم البطل الوطني الذين عادوا لجمع الكتب القيمة ثم لم يكتفوا بذلك، بل هؤلاء نحن نراهم تدرعوا بالعلم وأصبحوا لا يتهيبون منازلة الأقران في ميدان العرفان، وها بعضهم يعرضون بضاعتهم ورشحات أقلامهم وعصير عقولهم على رءوس الأشهاد دون أن يقعد بهم خوف التباحث والانتقاد، وأمامنا المثل الباهر في هذه الحفلة الزهراء، هذا المثل يذكرنا بما رأيناه في ساحة الجمعية الجغرافية الخديوية منذ عشر سنوات؛ فقد قام فيها الأمير إبراهيم حسن فألقى بالإنكليزية والفرنسية خطبة ممتعة جامعة عن رحلته في جزيرة سرنديب (وأخشى أن أقول سيلان في الظروف الحاضرة).

figure
صاحب العظمة السلطان حسين الأول.

واذكر عمه ولا تنسه: فلقد أقام الأمير إبراهيم حلمي أكبر وأفخر أثر لمصر والسودان، ذينك التوءمين اللذين لا يفترقان ولا ينفصلان، بل تلك الوحدة هي كما يُقال في عرف القضاء «وولاة لا تتجزأ»؛ إذ أتحف العلم بكتابه الوافي بذكر جميع المؤلفات التي تكلمت بكل لغات الأرض عن وادي النيل من منبعه إلى مصبه، وهذا القاموس يقع في جزأين ضخمين باللغة الإنكليزية.

figure
صاحب السمو الأمير الجليل محمد علي.

وأين الجنس اللطيف؟ أليس له أثر جميل في هذا المعترك الذي تدور عليه حياة الأمم الناهضة؟ إن الأميرات المصريات يشاركن إخوانهن في هذه النهضة الشريفة التي ترمي إلى تجديد الحياة العلمية في مصر العزيزة على كلٍّ من الصنفين، يحلو لي، ورب البيت، أن أعطِّر هذا النادي بذكرى الاسم المحبوب لدى جميع القلوب، الذي له في كل النفوس مهابة ووقار، لقد أسميتُ بهذا الوصف سيدتي الأميرة «قدرية حسين، مدَّ الله في حياتها»: فقد جادْت قريحتها الوقَّادة وانبعثت نفسها الممتلئة حنانًا على الشرق وأهله بكثير من المصنفات، وكلها — والحق يُقال — آيةٌ في بابها، يعرف ذلك ويشهد بصحته الكثيرون الذين قرءوا ما دبَّجه يَراعُها بالتركية والفرنسية، ولقد كان لقراء العربية نصيب من التمتع بهذا السحر الحلال؛ فقد ظهر في عالم المطبوعات ترجمة بعض الشيء من هذه الآثار على يد صديقي وزميلنا الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق وعلى يد تلميذي النجيب عبد العزيز الخانجي أفندي.

figure
صاحب السمو الملكي الأمير يوسف كمال الدين.

هذا، ولست أراني مفتئتًا على ما امتاز به من التواضع رجلان من رجالات مصر المعدودين قد شرَّفا هذه الحفلة الجامعة. إن الأمير الكبير محمد علي قد أتحف الآداب العربية بأربعة من مؤلفاته التي ضمَّنها أسفاره في مشارق الأرض ومغاربها، كتبها بقلمٍ لا تستهويه أساليب التصنُّع والصناعة، بل جعلها كمرآة صادقة لما دار في خلده وتملَّك نفسه وطرق وجدانه، فجاءت تناجي القارئ بغير واسطة وتجعله شريك الأمير الكاتب في حِلِّه وترحاله كأننا نشهد معه ما وقع عليه نظره ونتأثر بنفس ما تأثَّر به لبُّه، وفي خلال ذلك روحه تُشاطر روحنا في كل سطر مما خطَّه يَراعُه، ذلك لعمري لأنه يكتب عن الشعور الذاتي والإحساس الشخصي وليس بناقل ولا بمترجم عن غيره؛ لأن ذلك الغير يكون أكثر علمًا وأبعد نظرًا، ولكن له نفسانية وله مزاج يخالفان ما عليه القارئ الذي يخاطبه ممن كان صنوه في اللغة والوطن والمشاعر والعواطف. ولقد طبع الأمير رحلاته طبعًا ملوكيًّا ووزعها بسخاء على أصدقائه والمعجبين به، وهم — والحمد لله — كثيرون، وها هو قد ناب بقلمه السيال وقلبه الفياض عن سَميِّه الأفخم وجَدِّه الأفخر.

تلك الخطة الحميدة قد سلك سبيلها القويم الأمير الجليل صاحب الأيادي البيض على الفنون الجميلة العربية ونصيرها الأكبر في مصر؛ فقد تولى الأمير يوسف كمال طبع ما خطَّه يَراعُه بالعربية أيضًا عن حوادث رحلته في كتابٍ لم يسعدني الحظ بالاطلاع عليه، ولكنه ابتدع طريقة جديدة جميلة في إسداء الإحسان إلى المحاويج من قومه، فأهدى الأربعمائة نسخة كلها إلى ملجأ الحرية، ذلك المعهد الخيري النابت الذي لم نصل رحمه نحن معاشرَ المصريين، مما يضمن له القيام بالمهمة الإنسانية التي أخذها على عاتقه لإيواء نفرٍ من بني وطننا قد مسَّهم الضر وساورتْهم البأساء، وسيبيع الملجأ هذه النسخ وينتفع بثمنها كله لتخفيف بعض الآلام عن الإنسانية المعذَّبة، وحينئذٍ يُتاح للجمهور أن يعرف مزايا الأمير الكاتب بعد أن سمع بمهارته في مصايده الملوكية، وبعد أن استظهر فضائله الجمة على الفنون.

figure
سعادة العالم البحاثة الأستاذ أحمد زكي باشا.

إن كنتُ ألمعتُ بهذه الكلمات إلى هؤلاء الغُرِّ الميامين ونوَّهتُ بذكرى ذلك السلطان الجليل، أعني به السلطان الغوري — سقى الله عهده — فما ذلك إلا لأني أتخيل في حدود الأفق منظرًا خصيبًا بما فيه الخيرات والبركات كمثل ذلك السائح الذي أعياه السفر في قفر ليس له نهاية، حتى إذا خارتْ قواه وخانه الجَلَد وأخذ يستسلم للقدر الغاشم ويستعدُّ للموت الزؤام، إذا به قد لمح على مد البصر روضة غنَّاء، بل واحة فيحاء يكتنفها البخار ويعلوها الغمام فيسري في نفسه الأمل، تتجدد قواه، يعاوده شيء من الحياة، حينئذٍ تراه يضاعف المجهود كأنما نشط من عقال؛ فيُهرع مُهطِعًا ويهرول مسرعًا وقد شدت أهدابه بالأجفان إلى ذلك المطمح الغالي، إلى الحياة! وإذا به وهو حافة الينبوع الصافي الزلال تظله الأشجار وتتساقط عليه الأثمار.

فأين نحن اليوم؟

– على مقربة من المرحلة التي سيعاودنا فيها ما كان لنا من الحرية والاستقلال.

هاكم أربعة قرون ونصف قرن بمثابة البرزخ بين الغوري الأخير وبين جلالة الملك فؤاد الأول، أربعة قرون ونصف قرن كانت بمثابة الهوَّة التي فحرتْها يد الجد العاثر بين آخر سلطان لمصر المستقلة وبين السلطان الأول لعهد الاستقلال الذي ترنو إليه مصر وترجو أن تستعيده صحيحًا صريحًا وحقيقيًّا تامًّا.

إن مولانا جلالة الملك فؤاد الأول في سجل الاستقلال الجديد قد توافرت لديه الوسائل التي توطِّد دعائم المركز السياسي الجديد، تلك الوسائل هي الرجال النابغون من أمته المتفانون في الإخلاص لوطنهم، ولا ريب أن الذي بوَّأه الله مقعد ابن طولون وصلاح الدين والغوري ومحمد علي لم يهمل العنصر المستنير الفكر؛ لأن الدول الجديدة إنما تقوم بالرجال الأفذاذ، وسيرى بجانب أمته عناصر عالية في نفس بيته الكريم فيستفيد منها أجلَّ الفوائد في العمل الذي نحن مقدمون على مواجهته.

فسلامًا سلامًا على هذا العهد الجديد الذي نرى فيه أمراء البيت الملكي واقفين بجانب أبناء الأمة وواضعين يدهم في أيديهم «ويد الله من فوقهم»؛ ليضمنوا الفوز الكامل للمطمح الذي ترمقه مصر الخالدة، وليوطدوا بهذا التعاون الخصيب قواعد الاستقلال العلمي والفكري في وقت واحد مع الاستقلال الاقتصادي والسياسي لتعود مصر إلى سيرتها الأولى على عهد الفراعنة والفاطميين والأيوبيين والمماليك الأمجاد. والسلام عليكم ورحمة الله.

١  نُشرت في جريدة الأهرام بتاريخ مارس ١٩٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤