كلمة

نشرتُ قبل يومي هذا، بعام ونصف، الجزء الأول من «مخدرات الإسلام»، فلاقَى إقبالًا واحترامًا بين أصحاب العلم والعرفان من أهل لساني المنتشرين في الممالك والبلدان الآهلة بالإسلام.

وردتْ إليَّ كتبُهم ورسائلهم، تطفح بمعاني التزكية وعبارات التشجيع، فاغتُبطتُ لذلك؛ إذ كنتُ أرى بنفسي ثمار البذور القليلة التي غرستُها بيدي في حدائق المنفعة العامة، فشكرًا للمولى سبحانه وتعالى وحمدًا له على نعمائه، وأبدأ اليوم بالجزء الثاني من ربات الخدور، لأضم خمس بطلات شهيرات على الأربعة السالفات، وزيادة الأعضاء في محفل ربات الخدور، معناه زيادة التدليل والبرهان، وفي ذلك تقوية القناعة في الوجدان، فمعرفة بطلات الماضي أساس لرقي نساء الحاضر، والبناء المؤسَّس على قواعد ثابته رصينة يبشر بالدوام والخلود.

أولى البطلات في هذا الجزء: هي السيدة فاطمة الزهراء — رضي الله عنها — كريمةُ فخرِ الأنبياء، نُتوِّج بذكرها الجزءَ الثاني؛ لأنها فخرُ النساء.

البطلة الثانية: هي رابعة العدوية، مَثَل الزهد والتصوُّف.

الثالثة: هي الشاعرة الشهيرة الخنساء، تلك العبقرية الخالدة، تلك التي فاقتْ شعراء الخلف بمراثيها.

أما الرابعة: فأميرة المؤمنين زُبَيْدة، والخامسة: الأميرة صبيحة ملكة قرطبة، وهاتان بطلتان حَكَمَتَا ردحًا من الزمن، وسخَّرتا بلادًا لإرادتيهما وصيرتا الشعب المحكوم منها كالشمعة تفرغانه من قالب لقالب وفق هواهما، فهما لذلك مثالان للعظة ننسخ منهما دروس الاعتبار.

مَن قرأ ربات الخدور عرف تاريخ أيامهن وعاصرهن ونفذ إلى مجالسهن الروحية، فها أنا ذا أقدِّم هذا الجزء إلى قارئاتي الراغبات في القدوة بسالفات العصر الإسلامي، إلى قارئاتي المتشوقات إلى توسيع المدارك وشحذ القرائح؛ لأكون واسطة الاتصال بينهن وبين محفل المخدرات.

سترى القارئة الكريمة، في هذا المحفل المتضوِّع بعبير الأخلاق الحسنة والخصال الحميدة، أشباحًا روحانية، تتباين في أشكالها وطراز لباسها عن المألوف في محافل هذا العصر، وستسمع القارئة العزيزة في هذا المحفل دروسًا تفيض بالحكمة وعظات بالغات، أما أجري وثوابي فمحسوب بلا ريب في خزائن المولى الكريم عز وجل.

يجدر بي قبل اختتام كلمتي التنويهُ بذكر رسالة وردتْ إليَّ من بين الرسائل العديدة الدالة على تقدير أبناء لساني لهذا العمل، وهذه رسالة وصلتْني من أمير البيان المرحوم «رجائي زاده أكرم بك»، وقد أردتُ اليوم نشرها لإذاعة ذكره وإعلاء روحه الطاهرة.

كان للمرحوم قلبًا كبيرًا، ومن الإنصاف أن يلهج الإنسان بذكر أصحاب القلوب، أطلب التوفيق من المولى للجميع. آمين.

إلى صاحبة العصمة والكمال الأميرة قدرية حسين هانم أفندي

تعلمين، سيدتي، أن الحقيقة الاجتماعية: «خير الناس مَن ينفع الناس» لا تفرق بين الرجال والنساء، ولسموك من دلائل الفضل وأمارات العرفان، بما تنشرينه بيننا من آثار قريحتك الوقَّادة منذ الصغر، ما يجعلني أن أرى لك عنوان «خير النساء» دون ما تستحقين.

تناولتُ بِيَدِ الفخار كتاب «مخدرات الإسلام» مع تلك الجملة التلطيفية في حق هذا العاجز، وبدأتُ مطالعتَه في الحال، فأتممتُ قراءته في مدة وجيزة، وما كدتُ أنتهي من تلاوته وتصفح مزاياه، حتى تكونتْ في ذهني عقيدة تقول: مثل هذا الكتاب الكامل، الحاوي لمثل هذه الآراء الناضجة، لا تستطيع الإتيان بمثله من بين شهيرات العصر سوى الأميرة، أيدها الله.

كنتُ قرأتُ شيئًا عن أمهات المؤمنين وسيرتهن العبقة، سواء أكان في «قصص الأنبياء» أم في «روضة الأحباب»، ولكن ما قرأتُه لم يكن منسقًا منظمًا، وفضلًا عن ذلك فإن أسلوب «روضة الأحباب» لا يتمشَّى مع روح العصر، و«قصص الأنبياء» كتاب قيم جليل، قليلٌ أمثالُه، ولكن العين تقع على السجع والتكلف في مواقع كثيرة منه فيضيع بهاؤه ورواؤه من نفس القارئ، أما «مخدرات الإسلام» فيفوقهما ترتيبًا ويفضلهما أسلوبًا.

مولاتي الأميرة!

ثقي تمامًا أن مواهب العرفان والفضيلة التي تتحلَّيْن بها تجعلك في أعلى المراتب التي ترنو إليها أنظار أفاضل الرجال والنساء، ففي قريحتك الوقَّادة، تلك القريحة التي لا تفتأ تعمل على توسيع دائرة معلوماتها الفنية وتحقيقاتها العلمية، وفي بيانك العذب، ذلك البيان السلس الساحر، ما يدهش الألباب ويحير العقول.

قرأتُ كلمتَك الأولى التي صدرتِ بها الكتاب بلذَّة ساحرة دفعتْني إلى إدماج نفسي في طيات الكتاب، أقرؤه متهالكًا متشوقًا حتى النهاية.

ما أعذبه بيانًا وأسلسه أسلوبًا وأملحه شرحًا! أكاد لا أتخطر كتابًا جمع مثل هذه المحسنات البديعية، فمثل هذا الأسلوب لهو السهل الممتنع.

يا صاحبة العصمة!

إذا كان كتابك يترك في نفسي مثل هذا الأثر وأنا من صنف الرجال، فما بال ربات الخدور اللواتي يسعدهن الحظ بتلاوته، كلما فكرتُ في ذلك وفي الفوائد الجليلة التي تجنيها السيدات المصونات من قراءته، وفي خطره الكبير من الوجهة الأخلاقية والاجتماعية، لا يسعني إلا الركوع خاشعًا، حاسر الرأس، أمام ذلكم القلب الطاهر النابض في سبيل الغَيْرة القومية، الفائض الجائش في سبيل العلم والأخلاق، فأتمنى لك في خضوعي وتقديسي عيشًا هنيئًا مرفهًا، وتوفيقًا من المولى إلى طبع ونشر الأجزاء التالية من كتابك اللطيف، وعونًا منه — جل وعز — على إظهار مئات من مؤلفاتك النافعة الجليلة.

شعوري عن الكتاب وتقديراتي لمحتوياته لا تقف عند هذا الحد، فهي كثيرة إن اتسع المجال لسردها على الوجه الذي أرضاه، يعجز عن ذلك قلمي الذي أصابتْه الشيخوخة قبل صاحبه؛ فلذلك يا مولاتي أختم تصديعاتي بتقديم وافر الشكر والإعظام والتهنئة.

رجائي زاده أكرم
إستانبول، ١٩ تشرين أول سنة ١٣٢٩

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤