الفصل الأول
مسكين أنت أيها الشرق، إنك لمظلم الجوانب، قاتم النواحي في كل شأن من شئونك، تمر عليك الأعوام والأحقاب فتزداد حاجتك إلى النور.
أيليق بأهل التوحيد، بالقوم الذين يشع نور الإسلام من جوانب قلوبهم أن يطفئوا مصابيح العلم في ديارهم، أيحسن بهم أن يدَعوا دُورهم وربوعهم في ظلامٍ دامس وأن يفرِّطوا فيما كان لهم من شرف الحال وجلال القَدْر؟
كان المنتظر منهم أن يزيدوا الشعلة الكامنة في نفوسهم ضِرامًا لتشرق بأنوار العرفان وتسطع بأضواء العمران ولكن هيهات!
أضاعوا منزلتهم الأولى ومكانتهم السابقة في حلقات العلم وميادين الأخلاق.
كان لهم صرح مُمَرَّد من المجد والفخَار، ولكنهم أهملوه ولم يعملوا على تثبيت دعائمه، بل أخذوا يهدمون بأيديهم صرح سعادتهم ثم بدءوا بعد ذلك يتقهقرون عن ميدان العمل والنشاط خطوة فخطوة.
أجل، لقد فقد الشرق شخصيته الأولى ونسي كيانه وماضيه فتدهور غافلًا من مصيبة لأخرى، متسكِّعًا في دياجير الظلام إلى أن هوى، فهوى مجد الإسلام على أثره في وَهْدة السقوط.
كان التدهور مدهشًا خطيرًا، ارتعدتْ له أعصابنا وتولتْنا من أجله عوامل الارتباك، فتشتتتِ الآمال والرغبات وانقلبت المشاعر والتأثرات رأسًا على عقب.
لا نرتقب اليوم مددًا، ولكننا لا نرضى أن نحيا بلا أمل، فأين نجد السلوى؟ وفي أي خزينة من خزائن الكنوز الخالدة نعثر على الأمل؟ وبأي متاع مبهج مضيء نروِّح عن النفس ليذهب عنها الحزن؟
أية طريق نسلك؟ أنمشي في التجدد من طريق الغناء أم نعود إلى ذكريات أيام السعادة لنلمس وجه الحياة؟
أنعمتُ النظر كثيرًا في هذه المسائل وقتلتُ الوقتَ بحثًا ودراسة؛ لأنني لم أشأ أن أبقى تحت عبء الضربة التي لحقتْ أمتي، أردتُ أن أمسح عن نفسي غبار الأيام المتداولة والأحقاب المتطاولة فأخذتُ في البحث والتنقيب — كما هو الواجب على مسلمي عصرنا — عن وجوه الأمل والتسلية حتى عثرتُ على ضالَّتي المنشودة بين صحف الماضي.
فها أنا ذا أبدأ اليوم بهذا الواجب نحو العالم الإسلامي، أبدأ بتصوير ما عثرتُ عليه من وجوه التسلية والأمل في طيات تلك الصحف لتكون دروس عظة واعتبار.
أول وجهٍ من تلك الوجوه التي أتشرَّف اليوم بتصويرها هي الناصية الأولى التي أشرقتْ بنور الإسلام، هي أول نجمة تلألأتْ في شرف سمائه، فكانتْ نجمة الخير والأمل، نجمة البَركة والفيض، هي أمُّنا أمُّ المؤمنين، السيدة خديجة الكبرى.
أما الاتصال بتلك الشخصية العالية والانجذاب إلى جَلالها في مثل هذه الأيام السوداء لَمِمَّا يضيء جوانب النفس بما تصلها من أشعة البهجة والإيناس، وعلى القارئ أن يدرك ما يخالجني من المشاعر، وما أكون فيه من طوفان معنوي وأنا أسرد لقرائي تلك السيرة الطيبة المملوءة بمعنويات خالدة.
سيدة النساء خديجة الكبرى، نموذج من أطهر نماذج الإسلام وأعظمه خطرًا وأجلِّه شأنًا، ومع ذلك فترجمة حياتها المباركة مبعثرة في صحف شتى وكتب عديدة من كتب السير؛ ولذلك أرى أن التصدي لذكر سيرتها العَبِقة وشرح خِلالها العطرة بالتطويل والتفصيل، من دواعي الشرف؛ لأنها تاج فخارنا.
هبَّتْ عاصفة من عواصف الاضطراب في نفس السيدة خديجة على أثر حُلم رأتْه ذات ليلة؛ فقد رأتْ فيما يراه النائم شمسًا عظيمة تهبط إلى منزلها من سماء مكة فيغمر ضوءُها ما يحيط المنزل من أماكن وبقاع.
قامت من نومها مضطربة هائجة وسارعت نحو دار ابن عمها «ورقة بن نوفل» وقد كان حبرًا عالمًا بتأويل الأحلام وتعبير الرؤيا، وما كادت تُفضي إليه بقصة رؤياها حتى أخبرها ووجهه يتهلَّل بِشْرًا أن تلك الأنوار علامة مجيء خاتم النبيين ودخولها المنزل، أي دار بنت عمه خديجة دليلٌ على أنها تتزوج منه.
للقارئ أن يتصور مبلغ التأثرات النفسية التي تملَّكتْ ذلك القلب النقيَّ الطاهر.
أصبح خاتم الأنبياء بعد هذه الحادثة محور آمالها ومحط أفكارها، بدأت تفكر في حُلمها الجميل وتنتظر بكل ما أوتيت من صبر وجَلَد هذا النبي العظيم. وبينما نساء قريش مجتمعات في عيدٍ لهُنَّ بالكعبة الشريفة إذ تمثَّل لهن رجل من اليهود فلما قرب نادى بأعلى صوته: يا نساء أهل مكة، قد قرب ظهور خاتم النبيين، فمن منكن ستكون زوجته؟
فكذَّبْنَه ورمينَه بالحصى، وكانت بينهن خديجة فلم ترْمِه كما فعلن، إنما ظلتْ في مكانها واجمة لا تستطيع حركة من كثرة ما انتابها من ضربات القلب.
رأتْ ما عملتْه النساء الأخريات فاجتهدتْ أن تملك روعها؛ إذ كانت ترتعد ويرقص قلبها الطاهر وهي تفكر في آمالها وأحلامها.
هل أدرك النسوة اضطراب أمِّنا السيدة خديجة، وهن ترمين الرجل بالحصى؟ إنها لبشارة عظمى، أحلَّتْها من نفسها العالية مكان الإجلال، إنها لبشارة كبرى رأت العالم من ورائها في طوفان من الأنوار والأشواق.